الوحدة السابعة: ظهور القضاء الجنائي الدائم: اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية
بعدما تم إصدار العديد من اللوائح والأنظمة القانونية لعديد من المحاكم الدولية، تلتها محاكم خاصة أخرى، مستوفية في لوائحها نفس ما تضمنته سابقتها من المحاكم الدولية والتي أوجبت وضع تقنين دولي يحمي الأفراد من كل تعامل يمكن أن يمسهم وذلك عن طريق تجريم بعض الأفعال والتي تعتبر جرائم دولية، تم تبني نظام المحكمة الجنائية الدولية كمحكمة دائمة عرفت بنظام روما عقدت العزم على وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب من خلال الاختصاص على الجرائم الاشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي والمتمثلة في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية وجريمة العدوان .
اعتمد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في مدينة روما في 17جويلية 1998، نتيجة انعقاد مؤتمر دبلوماسي عقد لذلك الغرض، تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة، ودخل حيز النفاذ في 1جويلية 2002 بعد أن حاز التصديقات اللازمة، وشكلت المحاولات السابقة لتدوين القانون الدولي الجنائي في شقيه الاجرائي والموضوعي أرضية خصبة لمشروع المحكمة.
مرّ إنشاء المحكمة بمراحل عديدة تمهيدية بداية من سنة 1989 لغاية الاتفاق النهائي عليها، وجاء نظامها الأساسي ملخصا في أحد عشر بابا وديباجة، ويعتبر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مبتكرًا بشكل ملحوظ في مجالات مثل تعريف الجرائم، والاعتراف بحق الضحايا في التعويضات.
وللمحكمة اختصاص على أي فرد متهم بجريمة تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية باستثناء أي شخص كان دون سنّ الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة المنسوبة إليه "المادة 26" ، كما أنه للمحكمة الجنائية الدولية اختصاص فقط على الجرائم المرتكبة بعد بدء نفاذ نظام روما الأساسي بالنسبة للدولة المعنية (المادة 11)، ويستمد هذا من المبدأ القانوني الراسخ في عدم رجعية القوانين الجنائية، والذي بموجبه لا يمكن تطبيق قانون ما على الأعمال المرتكبة قبل تشريع القانون.
ويقرر نظام روما الأساسي صراحة أنه لا يمكن اللجوء إلى الحصانة في ما يتعلّق بالجرائم التي لها عليها اختصاص.
1-هيكل وتنظيم المحكمة الجنائية الدولية
تتألف المحكمة الجنائية الدولية من عدة أجهزة رئيسية: مكتب المدعي العام، الشُعب والدوائر القضائية وقلم المحكمة، وهيئة الرئاسة (المادة 34 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية).
كما أن هناك جمعية للدول الأطراف (النظام الأساسي، المادة 112)، وفيها يكون لكلّ دولة طرف ممثل واحد. وأن هذه الجمعية وليس المحكمة نفسها، هي المسؤولة عن اعتماد القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات، وعن توفير الرقابة الإدارية على هيئة الرئاسة، والمدعي العام والمسجل في ما يتعلّق بإدارة المحكمة، وعن النظر في ميزانية المحكمة والبتّ فيها، وعن النظر في أية مسألة تتعلّق بعدم التعاون من جانب الدول الأطراف.
ويعتبر مكتب المدعي العام ”مسؤولا عن تلقى الإحالات وأية معلومات موثقة عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، وذلك لدراستها ولغرض الاضطلاع بمهام التحقيق والمقاضاة أمام المحكمة“ (النظام الأساسي، المادة 42، وهنا لابد أن يميز في عمله بين تلقيه المعلومة وتلقيه الإحالة.
ويكون المدعي العام والنائب (أو النواب) مستقلين استقلالًا تامًّا ويجب أن يكونوا من جنسيات مختلفة. ويجب أن يكون من شخصيات ذات مستويات أخلاقية عالية، وكفاءة عالية، ومن ذوي الخبرة في القضايا الجنائية ولا يجوز أن يرتبطوا بأية وظيفة مهنية أخرى أثناء ممارسة وظيفة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أو نائبه.
وفي ظلّ ظروف معينة، يستطيع المدعي العام البدء بتحقيق بمبادرة منه على أساس المعلومات التي يتلقاها من مصادر متنوعة، بشأن جرائم ضمن سلطة المحكمة. وقد “يجوز له التماس معلومات إضافية من الدول، أو أجهزة الأمم المتحدة، أو المنظمات الحكومية الدولية أو غير الحكومية، أو أية مصادر أخرى موثوق بها يراها ملائمة. ويجوز له تلقي الشهادة التحريرية أو الشفوية” (المادة 15-2 من نظام روما الأساسي.
وإذا خلص المدعي العام إلى أن هناك أساسًا معقولًا لمباشرة تحقيق، وجب عليه أن يطلب إذنًا من الدائرة الابتدائية. ريثما يصدر عن الدائرة التمهيدية قرار، للمدعي العام، “على أساس استثنائي، أن يلتمس من الدائرة التمهيدية سلطة إجراء التحقيقات اللازمة لحفظ الأدلة، إذا سنحت فرصة فريدة للحصول على أدلة هامة أو كان هناك احتمال كبير بعدم إمكان الحصول على هذه الأدلة في وقت لاحق” (النظام الأساسي، المادة 18-6.
أما بالنسبة للقضاة، فعند اختيارهم يجب أن تأخذ الدول الأطراف بعين الاعتبار الحاجة إلى تمثيل الأنظمة القانونية الرئيسية في العالم، والتمثيل الجغرافي المتساوي، والتمثيل العادل بين الجنسين. ويتولى القضاة مناصبهم لفترة تسع سنوات ولا يجوز إعادة انتخابهم. ولا يجوز لهم أن يرتبطوا بأي عمل وظيفي آخر. ويقسم القضاة إلى ثلاث شعب، وتنفذ وظائفهم القضائية عن طريق ثلاث دوائر (المادة 39 من نظام روما الأساسي:
- شعبة الاستئناف وتتألف من الرئيس وأربعة قضاة، ودائرة الاستئناف وتتألف من جميع قضاة الشعبة.
- الشعبة الابتدائية وتتألف من عدد لا يقلّ عن ستة قضاة، الدائرة الابتدائية وتتألف من ثلاثة قضاة من قضاة الشعبة.
- الشعبة التمهيدية وتتألف من عدد لا يقلّ عن ستة قضاة؛ وتتحدّد تركيبة الدائرة التمهيدية وفقًا للقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات.
وينصّ النظام الأساسي على إمكانية وجود أكثر من دائرة محاكمة أو دائرة ابتدائية تعمل في آنٍ واحد عندما يتطلب عبء عمل المحكمة ذلك.
و يتمّ انتخاب ثلاثة قضاة بالأغلبية المطلقة للقضاة لمنصب الرئيس ونائبي الرئيس الأول والثاني، لمدة ثلاث سنوات. ويمكن إعادة انتخابهم لمرة واحدة. وتتحمل هيئة الرئاسة المسؤولية عن الإدارة الصحيحة للمحكمة وعن أية وظيفة أخرى توكل لها وفقًا للنظام الأساسي (المادة 38)
2-الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية
تختص المحكمة حصريا بمجموعة من الجرائم وهي الجرائم التي أكدتها نص المادة 05 من نظام روما الأساسي حيث تضمنت أنه:
" يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي إختصاص النظر في الجرائم التالية:
أ - جريمة الإبادة الجماعية.
ب - الجرائم ضد الإنسانية.
ج -جرائم الحرب.
د- جريمة العدوان".
-جريمة الإبادة الجماعية: ورد تقنين جريمة الإبادة الجماعية في نص المادة 06 من نظام روما الأساسي على النحو التالي: "لغرض هذا النظام الأساسي، تعني "الإبادة الجماعية" أي فعل من الأفعال التالية التي ترتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه إهلاكا كليا أو جزئيا:
أ - قتل أفراد الجماعة.
ب- إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.
ج - إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا أو جزئيا.
د- فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة.
ه- نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى."
وبالتالي لقيام جريمة الإبادة لابد من توافر الركن المادي (السلوك ، وهو ارتكاب إحدى الصور السابقة) والركن المعنوي (القصد الجنائي العام والخاص) والركن الدولي (العنصرين الشخصي والموضوعي) أما الركن الشرعي فهو متوفر بموجب نص المادة.
-الجرائم ضد الإنسانية: ورد في نص المادة 07 من نظام روما الأساسي تعريف للجريمة ضد الإنسانية كالتالي: "لغرض هذا النظام الأساسي، يشكل أي فعل من الأفعال التالية "جريمة ضد الإنسانية" متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم:
أ- القتل العمدي.
ب - الإبادة .
ج- الاسترقاق.
د - إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان.
ه- السجن أو الحرمان الشديد على نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي.
و - التعذيب.
ز- الاغتصاب، أو الاستعباد الجنسي، أو الإكراه على البغاء، أو الحمل القسري، أو التعقيم القسري، أو أي شكل من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة.
ح - إضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو أثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس على النحو المعرف في الفقرة 3، أو لأسباب أخرى من المسلم عالميا بأن القانون الدولي لا يجيزها، وذلك فيما يتصل بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة أو بأية جريمة تدخل في اختصاص المحكمة.
ط- الاختفاء القسري للأشخاص.
ي- جريمة الفصل العنصري.
ك - الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدا في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.
يشترط لقيام جريمة ضد الإنسانية توافر الأركان السابق الاشارة إليها في جريمة الابادة مع الاشارة إلى الاكتفاء بالقصد الجنائي العام فقط في الركن المعنوي، وتوجيه السلوك الإجرامي ضد المدنيين وليس العسكريين.
- جرائم الحرب: أما عن هاته الجريمة فقد عرفتها هي الأخرى المادة 08 من نفس النظام بحيث:
-1 يكون للمحكمة اختصاص فيما يتعلق بجرائم الحرب ولا سيما عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم.
-2 لغرض هذا النظام الأساسي، تعني " جرائم الحرب":
أ- الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 أوت 1949 ، أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة:...................الخ
ب - الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة، في النطاق الثابت للقانون الدولي.
ج- في حالة وقوع نزاع مسلح غير ذي طابع دولي، الانتهاكات الجسيمة للمادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة في 12 أوت 1949 ، وهي الجرائم المرتكبة ضد أشخاص غير مشتركين اشتراكا فعليا في الأعمال الحربية، بما في ذلك أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا سلاحهم وأولئك الذين أصبحوا عاجزين عن القتال بسبب المرض أو الإصابة أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر.
د- الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي، في النطاق الثابت للقانون الدولي أي أي من الأفعال التالية:.............الخ"
ورد نص المادة المتعلقة بجرائم الحرب بشكل مفصّل جدا، غير أنه رغم ذلك لم يحدد معيارا واضحا لدرجة الجسامة، فمتى نعتبر الانتهاك بسيطا ومتى نعتبره جسيما؟
بالنسبة لأركان جريمة الحرب فإنه يشترط فيها توافر الركن المادي وهو السلوك المتكون من عنصرين أساسيين: حالة الحرب، وارتكاب فعل مخالف لنص المادة8، والركن المعنوي (القصد الجنائي العام المتكون من عنصري العلم والإرادة) والركن الدولي المتعلق بارتكاب الجريمة بناء على تخطيط من جانب إحدى الدول المتحاربة وأن يتم تنفيذه من طرف التابعين لها أو باسمها ولحسابها، بالاضافة للركن الشرعي الذي وفرته المادة 8.
ملاحظة: لابد لاعتبار الفعل المرتكب جريمة حرب أن ترتكب باسم ولحساب الدولة ، وأن تختلف جنسية الضحية عن جنسية المتهم وألا تكون ارتكبت في إطار جريمة الخيانة .
- جريمة العدوان: أصبحت المحكمة مختصة بنظر جريمة العدوان بعد الاتفاق في المؤتمر الاستعراضي لكمبالا بأوغندا على اعتماد تعريف للجريمة وهو ذلك الوارد في القرار 3314 للجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1974 ، وبعد حيازتها على التصديقات الاضافية التي كانت مطلوبة لنفاذها ،وبالتالي أصبح للمحكمة اختصاص عليها بداية من تاريخ 17جويلية 2018 وتعتبر جريمة العدوان:
"المقصود من عبارة العمل العدواني العمل المشار إليه في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، رقم 3314 الذي تضمن نماذج لأفعال العمل العدواني وهي كالتالي:
أ- الغزو أو الهجوم بالقوات المسلحة لدولة ضد إقليم دولة أخرى، أو أي احتلال عسكري ولو كان مؤقتا ناتج عن الغزو أو الهجوم، أو أي ضم باستعمال القوة لإقليم دولة أخرى أو جزء منه.
ب - القنبلة بواسطة القوات المسلحة لدولة ضد إقليم دولة أخرى أو استعمال أي أسلحة من طرف دولة ضد إقليم دولة أخرى.
ج - حصار الموانئ والشواطئ لدولة بواسطة القوات المسلحة لدولة أخرى.
د - الهجوم على القوات المسلحة لدولة أخرى في البر أو البحر أو الجو.
ه - استخدام القوات المسلحة لدولة إقليم دولة أخرى على خلاف ما هو متفق عليه بينهما.
و - وضع الدولة إقليمها تحت تصرف دولة أخرى لاستخدامه في العدوان ضد دولة ثالثة.
ز - إستعمال العصابات أو الجماعات المسلحة أو المرتزقة
وتنص المادة 8مكرر أن جريمة العدوان يجب أن يرتكبها شخص أو عدة أشخاص ”عندما يكون الشخص في وضع يتيح له التحكم في العمل السياسي أو العسكري للدولة التي ارتكبت فعل العدوان“. وعلى النقيض من الجرائم الأخرى تحت اختصاص المحكمة، يوجد لجريمة العدوان نظام اختصاصي فريد من نوعه. فيجوز للمدعي العام أن يباشر تحقيقًا بمبادرة منه (تلقائيًّا) أو بإحالة فحسب من دولة بعد التأكد من أن مجلس الأمن تأكد من حدوث فعل العدوان (بموجب المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة)؛ حيث تخص تلك الحالة فعل عدوان ارتكب بين دول أطراف؛ بعد أن تأذن الشُعبة التمهيدية التابعة للمحكمة ببدء تحقيق، إذا لم يقر مجلس الأمن، بعد ستة أشهر من الحدث، فعل العدوان.