الوحدة الأولى: مدخل عام لدراسة القانون والقضاء الجنائي الدولي
القانون والقضاء الجنائي الدولي هي تلك الفروع من القانون الدولي العام التي تهتم بتنظيم تجريم والعقاب على ارتكاب الجرائم الدولية، حيث تزايد توجه المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية نحو وضع نظام قضائي دولي من أجل مقاضاة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ويقوم هذا النظام أساساً على نهج مزدوج: فهو من جهة عمل على إنشاء محاكم خاصة ومحاكم أخرى ذات طابع دولي أقيمت في أعقاب النزاعات، ويعتمد من جهة أخرى على المحكمة الجنائية الدولية التي أُنشئت حديثاً بوصفها قضاءا دائما.
يعتبر القانون الدولي الجنائي مصطلحا مختلفا عن القضاء الدولي الجنائي ، فالقضاء وسيلة من وسائل متعددة لتطبيق القانون.
ويعتبر القانون الدولي الجنائي فرعا من فروع القانون الدولي العام إذ يشترك معه في ذات المصدر (الأعراف الدولية)، وبالاتفاقيات الدولية ومبادئ القانون العامة، والمبادئ التي استقر عليها القضاء والفقه الدوليين .
ويعد هذا الفرع من فروع القانون الدولي حديث النشأة لأن العديد من المختصين في القانون الدولي ذهبوا إلى التأكيد على أن بوادر الظهور الأولى للقانون الدولي الجنائي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الأولى بسبب أن العديد من الدول كانت قد خرقت التزاماتها الدولية وبشكل واسع من خلال انتهاك السلم والأمن الدوليين.
ويعد القانون الدولي الجنائي فرعا حديثا من فروع القانون الدولي، ليس لحداثة الجريمة، فالجريمة كانت موجودة منذ القدم، وإنما لحداثة التصدي لها والعقاب عليها ، رغم أنه توجد سوابق تاريخية لبعض المحاكمات عبر العصور والحضارات غير أنها كانت في مجملها محاكمات للمنتصر لا تتّسم بصفات المحاكمة العادلة ولا أثر فيها تقريبا لضمانات المتهم أو لحقوق الدفاع عدا بعض الحضارات التي أثرت فيها الأديان السماوية وبخاصة الاسلام.
وفي زمن أكثر حداثة وبتطورات بسيطة في الضمانات، خصوصا في أعقاب الحربين العالميتين للقرن العشرين، أنشأت القوات المنتصرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية محاكم جنائية في ألمانيا ( محكمة نورمبورج) واليابان (محكمة طوكيو) للنظر في قضايا جرائم الحرب التي ارتكبت ضد المدنيين والمقاتلين التابعين للحلفاء أثناء العمليات العدائية خلال الحرب العالمية الثانية، خصوصا وأن المدنيين شكلوا نصف عدد ضحايا الحرب.
ورغم التحفظات بشأن صدور هذه المبادرة عن الدول المنتصرة، فقد جلبت الطبيعة المروّعة للجرائم المرتكبة دعماً من أعضاء المجتمع الدولي لهذه المحاكمات.
وبعد مضي حوالي خمسة عقود على ذلك، ومع نهاية الحرب الباردة ونشوب نزاعات جديدة في أوروبا وأفريقيا أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين، اقتنع مجلس الأمن للأمم المتحدة بالنظر في ضرورة إعادة إنشاء محاكم جنائية دولية خاصة.
وحمل النزاع المسلح الذي شهدته منطقة البلقان الأمم المتحدة على إنشاء محكمة جنائية دولية في لاهاي بهولندا لمقاضاة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. وكان رئيس يوغسلافيا سابقا، "سلوبودان ميلوسفتش"، من أشهر المتهمين فيها.
وأنشأت منظمة الأمم المتحدة مباشرة بعد ذلك محكمة في "أروشا" بتنزانيا للمعاقبة على انتهاكات القانون الدولي الإنساني والجرائم الدولية الأخرى التي ارتكبت برواندا في أوائل التسعينات.
ومنذ ذلك الحين، تأسست أيضاً المحاكم الخاصة لملاحقة مرتكبي الجرائم على الصعيدين الوطني والدولي. على غرار محاكم كل من كوسوفو، والبوسنة والهرسك، وتيمور الشرقية، وسيراليون، وكمبوديا، و في لبنان.
وقد ساهمت هذه المحاكم الجنائية الدولية (والمختلطة) في تطوير القانون الدولي الجنائي من خلال توفير قاعدة لإرساء قضاء دائم، بعد تطويرها للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، كما ساهمت في إرساء المصالحة وإعادة البناء من خلال إثبات حقيقة ما جرى أثناء النزاعات.
وكان القرار المنبثق عن المجتمع الدولي والقاضي بإنشاء محكمة جنائية دولية عام 1998محاولة أخرى لمواصلة جهود التطوير، حيث تم من خلالها توفير أداة لملاحقة القضايا التي تكون الدول غير قادرة على اتخاذ إجراءات بشأنها أو غير راغبة في ذلك.
هذا وأنشئت المحكمة الجنائية الدولية بشكل مستقل عن منظمة الأمم المتحدة بموجب معاهدة دولية وهي مكملة للمحاكم الوطنية غير القادرة أو غير الراغبة في مقاضاة مرتكبي الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان.
وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية International Criminal Court (ICC) أول هيئة قضائية دولية، تحظى بولاية عالمية وبزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الفظائع بحق الانسانية وجرائم إبادة الجنس البشري وجرائم العدوان .
فلأول مرة في التاريخ يتم تكليف هيئة قضائية دولية دائمة بحماية حقوق الانسان، بما توفره من إقرار الدول الموقعة عليها وبالتالي المجتمع الدولي مبدأ العدالة الشاملة وعدم الافلات من العقاب عن تلك الجرائم الخطيرة بحق الضمير الانساني على المستوى الدولي.
إنّ وجود قضاء جنائي دولي مستقل ومحايد يمارس اختصاصاته على جميع الاشخاص دون تمييز لتحقيق العدالة الدولية أمر في غاية الاهمية في تطور الفقه والقضاء الدولي على الصعيدين النظري والعملي .
لكن وجود مثل هذا القضاء لا ينف ولا يلغ مسؤولية القضاء الوطني بل يعني التعاون بينه وبين القضاء الدولي خصوصاً بشأن الجرائم التي ورد ذكرها، بالتوقيع والمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بما يتطلب تعزيز كفاءة القضاء الوطني من جهة وتفعيل وتنشيط فكرة السيادة القضائية بأبعادها الدولية من جهة اخرى، ليس كنقيض للسيادة القضائية الوطنية، بل كحقل واحد للعدالة.
تجدر الاشارة إلى أن القانون الدولي الجنائي قانون ذو أصل عرفي، ينطبق زمني السلم والحرب على حسب كل حالة، وهو قانون يعتمد على مجموعة من المبادئ قد تحد من فاعليته أحيانا كمبدأ السيادة ومبدأ الحصانة وعدم التسليم وغيرها.