- في معنى ووظيفة المنهج البنيوي:

- البنيوية الماركسية (لوي ألتوسير نموذجا):

1- معنى البنية:

إن لفظ البنية Structure في اللغة الإنجليزية أو ما يناظره في اللغات الأوروبية فهو مشتق من الفعل اللاتيني Struere بمعنى "بنى" أو "شيد". فحين يكون الشيء بنية فإن معى ذلك ليس بشيء "غير منتظم" أو "عديم الشكل"، بل هو موضوع منتظم له صورته الخاصة و"وحدته" الذاتية. أما في لغتنا العربية فإن لفظ "البنية" مشتق من اللفظ "بنى، يبني، بناء وبناية، وبنية"، وقد تكون بنية الشيء - في العربية – هي "تكوينه"، ولكن قد نعني أيضا الكيفية التي شيد على نحوها هذا البناء أو ذاك، ومن هنا نتحدث عن "بنية المجتمع" أو بنية الشخصية" أو "بنية اللغة". (محمد مهران رشوان، 1984، ص: 128)

ويقدم لنا كلود ليفي شتراوس – زعيم هذا الإتجاه – تعريفا للبنيوية يقرر فيه ببساطة أن "البنية" عمل أولا – وقبل كل شيء – طابع النسق أو النظام، فالبنية تتألف من عناصر يكون من شأن أي تحول يعرض للواحد منها أن يحدث تحويلا في باقي العناصر الأخرى. وقد وجدت البنيوية مجالات عديدة للتطبيق، وكان لكل كجال شخصياته من البنيويين. ففي مجال اللغة – حيث كان أول مجال لتطبيق المنهج البنيوي نجد العالم اللغوي السويسري (فرديناند دى سوسير) صاحب كتاب "دروس في علم اللغة العام، والذي يعد بحق الأب الروحي للإتجاه البنيوي. وفي مجال الأنثروبولوجيا نجد سيد البنيوية في فرنسا وهو (كلود ليفي شتراوس)، وفي مجال الماركسية ننجد في فرنسا لوي ألتوسير صاحي كتاب "قراءة الرأسمال"، وفي مجال الثقافة نجد ميشال فوكو صاحب كتاب "الكلمات والأشياء". (محمد مهران رشوان، 1984، ص: 135، 136).

2- أصل البنيوية:

يمكن إرجاع أصول البنيوية، كمدرسة فكرية، إلى إتجاهات متعددة، في مقدمتها الاتجاه الذي يعتبر المجتمع كيانا مستقلا عن الأفراد وعن الحقائق الاجتماعية، باعتبارها تصورات اجتماعية، التي تعود إلى علم الاجتماع الفرنسي. وجاءت المحاولات الأولى في استخدام مفهوم البنية في القرن التاسع عشر وذلك في إطار المماثلة العضوية بين الكائن الحي والكائن الإجتماعي.فقد استخدم إميل دوركايم هذا المفهوم في توضيح العلاقة الوظيفية بين البنية السوية والبنية المريضة، حيث تمثل البنية السوية تكاملا اجتماعيا في النظام، بينما تمثل البنية المرضية غير السوية تفككا اجتماعيا. وكان كارل ماركس أول من استخدم هذا المفهوم في شكله السوسيولوجي في منتصف القرن التاسع عشر بمقولته حول الوجود الإنساني واستخدامه منهجا بنيويا في تحليل الظواهر الاقتصادية. إلا أن هدفه لم يكن تحليل البنى فحسب، بقدر ما كان هدفه تحليل التاريخ الاجتماعي للرأسمالية والكشف عن قوانين التطور الاجتماعي. وعلى هذا الأساس ميز ماركس، في كتابه "نقد الاقتصاد السياسي"، بين نوعين من البنيات:

أ- بنية تحتية وتتكون من مجموع قوى الإنتاج الإجتماعية والاقتصادية.

ب- بنية فوقية وتتكون من الأفكار والآراء الفلسفية والسياسية والإجتماعية والقانونية وغيرها.(إبراهيم الحيدري، 2012، ص: 343، 344)

3- وظيفة المنهج البنيوي:

والمنهج البنيوي مرتبط أساسا بتقنية تشتمل على عمليتين أساسيتين هما:

أ- تجزئة البنية إلى وحدات صغيرة ورمزية.

ب- إعادة تركيب هذه الوحدات الصغيرة.

ويقوم المنهج البنيوي على اعتبار أن المعرفة العلمية هي شكل مصمم نصل إليه عن طريق تصميم علاقته بالأشكال الاخرى بطريقة منهجية محددة، وهي المنهج الشكلي الأرسطي. وإن للمفاهيم مضامين ولكنها في قلب أشكال. وهذا يعكس في الوقت نفسه الاهتمام بالشكل دون المحتوى، بالرغم من أن هناك علاقة بين المضامين والأشكال. ولكن إلى جانب العديد من الأشكال، فمن الممكن أن يكون مضمون هذا الشكل مضمون شكل آخر، ما يطرح جدلية معقدة، دون تحديد واضح للشكل والمضمون فيهما. ولتحقيق دراسة الأشكال والمضامين يأخذ الباحث بأولوية اللغة والكلام كأساس لتكوين المجتمع باعتباره نتاجا للفكر.(سكينة الزاوي، 1987)

كما يقوم المنهج البنيوي على دراسة الأصوات وظيفيا من حيث نسقها اللفظي، على أنه كل متماسك ترتبط أجزاؤه بعلاقات متبادلة، وأن كل تحول لفظي، أو تغير في الألفاظ، هو تحول نسقي أو ذو طابع بنيوي. والطابع البنيوي هو طابع لا واعي، غير شعوري وغير مقصود، وتعتبر الألفاظ فيه عناصر بنائية.(كلود ليفي شتراوس، 1977)

4- البنيوية الماركسية عند الفرنسي لوي ألتوسير:

في الحقيقة، من خلال هذا النموذج العلمي الوضعي في دراسة مسار الفكر الفلسفي الماركسي، نبحث عن الرسالة العلمية للبنيوية التي عرفت وجودها مع البنيوي الفرنسي لوي بيير ألتوسير، الذي وظف المنهج البنيوي من أجل تحديد الملامح الإبيستيمولوجية الكامنة في فلسفة كارل ماركس، متجاوزا بذلك القراءات الذاتية والإيديولوجية إلى تحقيق قراءة جديد وموضوعية. وهذا ما يعرف بأن قراءة ألتوسير انتقلت من الماركسية الإيديولوجية إلى ما بعد الماركسية أو الماركسية العلمية.

والثابت أن البنيوية، منذ نشأتها، بدت كأنها المنهج الذي سينقذ العلوم الإنسانية مما آلت إليه. وأنها الخيار الأنسب للعديد من الفلاسفة الفرنسيون؛ يتعلق الأمر بميشال فوكو ولوي ألتوسير وجاك لاكان، في مقابل إيدموند هوسرل الذي يرى البديل في الفينومينولوجيا. لهذا جاءت كتابات هؤلاء البنيويون لترسخ وتأسس مبادئ البنيوية، وخاصة مع (تاريخ الجنون) و(الكلمات والأشياء) عند ميشال فوكو، الذي يكشف فيها عن الوجه السالب للحداثة الغربية، و(قراءة رأس المال) لألتوسير، وكتابات جاك لاكان. بحيث أن المشترك في هذه المؤلفات هو أن حقيقة الإنسان الغربي يشكلها المسكوت عنه (Le non dit) أو ما سمي بخطاب الصمت. لهذا راح هؤلاء الفرنسيون لجعل هذا الصمت منطوقا.

ونحن في هذا الطرح التحليلي، للينيوية الماركسية، بتوظيف أنموذج لوي ألتوسير، نسعى للوقوف بشكل مخصوص على طبيعة العلاقة بين الماركسية والبنيوية، عبر قراءة ألتوسير لكارل ماركس قراءة علمية موضوعية، وذلك بتوظيف مفهوم القطيعة الإبيستيمولوجية لغاستون باشلار. وكل ذلك من خلال المساءلة الآتية:

على أي نحو قرأ لوي ألتوسير كارل ماركس؟

وهل تمكن ألتوسير من النفاذ إلى حقيقة ما هو فكر ماركس عليه، أم أنه قد انحرف عن حقيقة وطبيعة فلسفة كارل ماركس؟

أ- القراءة التشخيصية العلمية لرأس المال عند ألتوسير:

لاريب في أن قراءة ألتوسير الجديدة، وبتأكيد (ريمون آرون) تعدنا باكتشاف خطاب علمي في فلسفة كارل ماركس، من خلال قراءة ماركس قراءة بنيوية. هذا، وإن إعادة قراءة ماركس قراءة علمية، من أجل الكشف عن حقيقة ماركس، ورؤية ما هو ماركس في حقيقته، يستند على دراسات ومفاهيم سابقة عنه وهي: أعمال ميشال فوكو في البنيوية الثقافية، ومفهوم القطيعة الإبيستيمولوجية لدى غاستون باشلار. إن هذه المعطيات أكسبت أعمال ألتوسير العمق والأصالة العلمية في قراءة ماركس وأخرجته من دائرة الشرح والتفسير الأيديولوجي. فوجد نفسه القارئ اللامع والممتاز لماركس.

- الأسباب الموجهة بألتوسير صوب هذه القراءة العلمية:

لكن، تجدر الإشارة هنا إلى الأسباب التي وجهت ألتوسير صوب هذه الدراسة العلمية الموضوعية لمسار ماركس الفلسفي. ففيما تتلخص أهمها؟

تتلخص في سببين رئيسيين:

*السبب 1: الشعور الذي انتاب ألتوسير والذي أملى عليه حقيقة مفادها أن الفلسفة الماركسية أصبحت تعاني من الافتقار والبؤس النظري. نتيجة انصراف الماركسيون الفرنسيون إلى المجال السياسي. وضف إلى ذلك، موقف الجامعة الفرنسية، بشكل عام، من الفلسفة الماركسية ومن المنهج المادي الجدلي.

والحق، أن ألتوسير يرى أن هذا الانحراف إلى المجال السياسي ساهم في "دفن ماركس في تراب الجيف Cadavres خلال قرن تقريبا."

*السبب 2: يتمثل في الرد على النزعة الإنسانية التي ترى في الماركسية نزعة إنسانية، والتي روج لها الماركسيون الفرنسيون أمثال: روجي غارودي. والتي رأى فيها ألتوسير إفقارا للماركسية، وتجاوزا لطابها العلمي.

من هنا، راح يعيد قراءته لماركس بتوظيف القطيعة الإبستيمولوجية كأداة لتحقيق هدفه العلمي حتى أدرك أن المشكلة تتعلق بأعمال ماركس. أي، بمؤلفات الشباب وأعمال ماركس المتأخرة. فأدرك حقيقة أنه يخطئ من يعتقد أن ثمة اتصالا لا ينقطع بين هذه الأعمال. وأخطأ أيضا حسب اعتقاده من يرى جوهر رأس المال في الكتابات المبكرة لماركس مثل: مخطوطات 1844 الإقتصادية – الفلسفية. وبالمثل أخطأ من اعتبر أن مؤلفات ماركس الشاب تمثل المرحلة الجنينية لمرحلة النضج. وإذا كان يرفض هاذين الموقفين فإنه يدافع عن قطيعة كامنة بين أعمال ماركس. ووفقا لهذا قسم مسار ماركس الفكري إلى قسمين كبيرين أساسيين:

(المرحلة الإيديولوجية السابقة عن سنة 1845، وهي مرحلة الشباب التي تأثر فيها ماركس بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية والطوباوية البريطانية والفرنسية. والمرحلة العلمية التي تأتي بعد سنة 1845 وهي مرحلة الكهولة والنضج التي قطع فيها ماركس صلته مع ماضيه الإيديولوجي، ليبلور مقاربة علمية تبدو بصورة واضحة في مجلدات رأس المال وأجزاءه). ويرى ألتوسير أنه ينتج عن هاذين القسمين الترتيب التالي لمؤلفات ماركس:

- 1840-1844: مؤلفات الشباب؛ وهي المؤلفات التي تضم "مخطوطات 1844" و"الأسرة المقدسة".

- 1845: مؤلفات القطيعة؛ وتتمثل في "الأطروحات 11 حول فيورباخ" و"الإيديولوجية الألمانية" أي الإيديولوجية الألمانية في قسميها.

1854- 1857: مؤلفات الإنضاج Maturation وتتمثل في "بؤس الفلسفة" و"البيان الشيوعي".

- 1857- 1884: مؤلفات النضج Maturité وتتمثل أساسا في كتاب "رأس المال" حيث تحرر ماركس نهائيا من الإيديولوجية الألمانية، وأصبحت المادية التاريخية علما نظريا دقيقا، لا مجرد فلسفة إنسانية إيديولوجية. وهذا، النص بالذات، "رأس المال" يحتاج –حسب تصور ألتوسير – إعادة القراءة.

لكن المشكل الذي يطرح نفسه في هذا السياق، حسب ألتوسير، ما القراءة؟ ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟

   

Modifié le: Friday 26 April 2024, 15:34