يخضع السلوك اللغوي كغيره من أنواع السلوك لتفاعل عوامل الوراثة والنضج مع عوامل البيئة الثقافية المحيطة به، وذلك لتحويل الاستعداد اللفظي من مجرد قدرة كامنة إلى سلوك يمكن أن يسمع ويحدث أثرا في البيئة المحيطة. إن نتائج هذا التفاعل تظهر في صورة تغيرات تدريجية متكاملة.
ويمكن أن تصنف مراحل اكتساب اللغة وتطورها كمايلي:
1- مرحلة الصراخ:
في اللحظة التي يولد فيها الطفل، يقوم بأول رد فعل لهذا العالم الجديد عن طريق ما يسمى "صرخة الميلاد"، ورد الفعل هذا ما هو إلا اندفاع الهواء إلى رئتي الطفل المولود، مما يتسبب في اهتزاز أوتار الحنجرة، فتصدر الصرخة، ويستمر الصراخ في الأيام الأولى، وغالبا ما يكون عشوائيا ثم يبدأ في الدلالة على الجوع أو الضيق أو الألم. (BERTH,REYMAND,RIVER,1980)
وقد أولى الفلاسفة المربون والآباء هذه الصرخة كثيرا من الاهتمام، ولعل الشيء الذي يمكن أن تدل عليه هو أن هذا المولود قد أتى إلى الوجود مزودا بجهاز تنفس وحنجرة ضروريين لنمو قدرته على التكلم.
وعليه فإن الصراخ هو نقطة البداية في نشأة اللغة، إذ سرعان ما يكتشف الطفل أنه يستطيع بواسطته أن يعبر عن رغباته وحاجاته.
كما أن الصراخ في الحقيقة مظهر من مظاهر الإنفعال، ويعد في الطفولة من الاستجابات الناتجة عن الإحساس بالجوع أو الألم أو الضيق. (OLERAN,PIERRE,1979).
ويكون في البداية غير إرادي لأن الطفل في الأشهر الأولى من حياته على الأقل لا يريد به شيئا معينا على وجه التحديد، والأم هي التي تستطيع أن تستنتج معنى صراخ ولديها، ولا يعني هذا أنها تعلم دائما، أو أنها تفرق بين مدلول كل أشكال صراخه، فهي ترضعه أو تعطيه ما يشبع حاجاته من الغذاء.
وبهذا يؤدي الصراخ في الأسابيع الأولى من الميلاد ما تؤديه اللغة من وظيفة، وإن صح التعبير، فإنه بداية التعبير بأسلوب غير متميز في مقاطع نغمية. (Ibid,1979).
2- مرحلة المناغاة:
وينتقل الطفل إلى المناغاة عند بداية الأسبوع الثالث، وقد يتأخر إلى الأسبوع السابع أو الثامن، ويعرف (حنفي بن عيسى 1980) المناغاة على أنها الأصوات المقطعية اللاإرادية التي يطلقها الطفل أثناء تدريب جهازه الصوتي، حيث يبدأ الطفل في اكتساب خصائص التنغيم للغة السائدة في بيئته من خلال ارتفاع طبقات الصوت في أثناء الكلام، ثم في الاستجابة إلى أصوات الآخرين وإصدار أصوات شبيهة بأصواتهم ثم في إنتاج أصوات معينة يستخدمها بصورة متكررة للتعبير عن معان أو مواقف معينة.
وتمثل المناغاة نواة تكوين اللغة عند الطفل، بالرغم من أنها لا تخرج عن كونها مجموعة أصوات يبعثها غالبا وهو في حالة ارتياح، متمتعا بالدفئ والسبع وغير ذلك.
كما تحتوي المناغاة أيضا على بعض المقاطع الصوتية الإرادية حيث يتخذها الطفل غاية في حد ذاتها، لا ليعبر بها عن شيء وإنما ليكررها دون ملل، وكأنه يلهو بترديدها، والذي يعجب الطفل في هذه المناغاة هو التواصل الصوتي وأثره السمعي، وهذا الاتصال بين الصوت والسمع. ويتضح في المولود الأصم أنه يصرخ وكأنه لا يناغي أبدا،
ويؤكد الباحثون في هذا المجال أن هذا الفعل ما هو إلا تدريب الجهاز الصوتي على النطق، إلى أن يتمكن هذا الجهاز من آداء وظيفته على الوجه الصحيح، وتتوقف عملية النطق هذه تدريجيا كلما سمع الطفل صوتا آخر، فيبدأ بالاهتمام به، ويلتفت في كل مرة إلى مصدر الصوت الجديد (Michel.H et John.E, 1975)، وعندما يبلغ الشهر السادس يستطيع أن يفرق بين الأصوات ويتعرف على معنى الودود، والصوت الناهي أو المؤنب.
وبحلول الشهر التاسع، تعلق في ذهنه بعض الكلمات التي ألف سماعها، وهي كلمات لا تصل إلى الطفل على صورتها الأصلية، لأن الأم والأب والأخوة يتكلمون لهجة خاصة عند مخاطبة الرضع، بقصد تسهيل النطق عليهم، ومن التحريف الذي ينال الكلمات مثلا اختصار المفردات أو استعمال صيغ التصغير وتحاشي الحروف الصعبة والاستعاضة بما هو شائع أو مألوف.
2 - مرحلة الكلمة الأولى:
إنَّ أول نطق لغوي للطفل يكون عن طريق الكلمات المفردة، وليس عن طريق الجُمَل، وقد أجمعت البحوث على أنَّ الطفل يكون قادرًا على نطق الكلمة الأولى فيما بين السنة، والسنة والنصف بعد الولادة، وإنَّ الطفل المتوسط يبدأ باستخدام كلمات مفردة في حوالي السنة، وإن مفرداته تزداد إلى حوالي الخمسين كلمة خلال السنة الثانية.
لا يستطيع الطفل أن يصل إلى المرحلة الكلاميَّة قبل أن يتكوَّن لديه بوضوح مفهوم دوام الشيء، أي إنَّ الأشياء تظل موجودة حتى لو غابت عن مجاله الإدراكي الحسي - والمعروف أنَّ الطفل يصبح قادرًا على الاحتفاظ بصورة الشيء، حتى ولو غاب عن نظره في سن السَّنة والنصف، إنَّ وضوح دوام الشَّيء عند الطفل يعطيه القدرة على تكوين معنى، أو دلالة للأصوات التي يستمع إليها، ويعتبر هذا ضروريًّا لظهور المرحلة الكلاميَّة، ولتوضيح ذلك نتساءل: كيف يستطيع الطفل أن يقول كلمة: (إمبو) مثلاً - أي أريد أن أشرب ماء - ما لم يكن لصورة الماء وجود لديه بشكل مستقِل عن وجود الماء أمامه، أو غيابه عنه؟ إذًا لا بدَّ من تكوين مفهوم الشَّيء عند الطفل؛ حتى يكون قادرًا على النطق بالكلمة الأولى، مع ملاحظة أن النطق بالكلمة الأولى وتكوين مفهوم الشَّيء يظهران في نفس الفترة الزَّمنيَّة من عمر الطفل، ولا بدَّ أن نشير هنا إلى بعض الفروق الفرديَّة، إذ قد يتأخَّر بعض الأطفال عن نطق الكلمة الأولى حتى نهاية السنة الثانية.
والكلمات الأولى التي يستخدمها الطفل في التَّعبير هي الكلمات التي تتضمَّن الأصوات الأكثر سهولة في النطق، من حيث صوتيَّات الكلمات الأولى، أمَّا من حيث دلالتها فإنَّ الطفل يبدأ ألفاظه بالكلمات التي تعبر عن اهتماماته المباشرة فيما يشبع حاجاته الأوليَّة؛ كالطعام، والشراب، واللعب، وعما يجذب اهتمامه وانتباهه من الأشياء التي تقع في محيط بيئته كالأشياء القابلة للحركة؛ كالقطة، والكلب، وزجاجة الحليب (طعام)، والكرة (لعب) من جهة ثانية؛ أمَّا الأسماء التي تدل على أشياء ساكنة مثل حائط، أو بيت، والكلمات الوصفية؛ مثل: أسماء الألوان، أو الأحجام (كبير، صغير)؛ أو الأحوال الطبيعية (حار، بارد)، فإنها لا توجد من ضمن مفردات الطفل الأولى.
وتبقى عملية التقليد والمحاكاة هي العامل الأساسي في نمو المفردات وتطورها من حيث غنى أو فقر البيئة اللغوية التي توفرها الأسرة للطفل، كما أن الطفل لا يكتفي بتقليد كلام الكبار فقط ولكنه يقوم بنطق كلمات خاصة به هو وحده.
3 - مرحلة الجملة الأولى (الكلمة الجملة):
في بداية تعلمهم للكلام يتكلَّم الأطفال بكلمة واحدة يعبرون بها عن جملة، ويظهر ذلك في نهاية السنة الأولى من عمر الطفل، فمثلاً إذا نطق الرضيع كلمة (محمد)، فإنه قد يقصد القول (أريد أن أخرج مع محمد)، أو (محمد أخذ لعبتي)، أو (محمد ضربني)، وعندما يقول كلمة: (باب) فقد يقصد أن يقول: (هذا باب)، أو (أغلق الباب)، أو (هل هذا باب)... وهكذا.
إنَّ الأم تفهم ما يريد الطفل التَّعبير عنه من السياق الذي تظهر فيه الكلمة، فالأم تعرف وبكل بساطة أنَّ ابنها عندما ينظر إلى حذاء والده على الأرض، ويقول: (بابا)، فهو يقصد أن يقول: (هذا حذاء والدي)، كما أن الأم تفهم ما يريد أن يقوله من خلال نبرة الصَّوت، فإذا قال الطفل: (بابا) بنبرة عالية نسبيًّا في حالة غياب والده، فإن الأم ستترجم سؤاله فورًا في هذه الحالة (أين والدي؟)، وخلاصة القول: إنَّ السياق الذي تظهر فيه الكلمة بالإضافة إلى نبرة الصَّوت يساعدان الطفل على التَّعبير عما يريد، باستخدام كلمة واحدة، ويساعد الآخرين على فهم ما يريد الطفل التَّعبير عنه.
هذا عن الكلمة الجملة؛ أما مرحلة الكلمتين فتأتي في السنة الثانية من عمر الطفل، وفي النصف الأخير منها على وجه الخصوص، وفي سن الثلاث سنوات يكون مُعظم الأطفال قد استعمل أنواعًا عديدة من الجمل السَّهلة يصل طول الجملة أحيانًا من 5 إلى 6 كلمات، وفي السَّنة الرَّابعة يكون نظام الأصوات الكلاميَّة عند الطفل قد قارب كلام الكبار، وإذا وصلنا إلى الخامسة والسَّادسة من عمر الطفل، وجدنا أنَّ نضج اللغة عنده قد أصبح في مستوى كامل من حيث الشَّكل، والتَّركيب، والتَّعبير بجمل صحيحة تامَّة، وتكون الجمل متنوعة تتضمَّن حتى الجمل الشَّرطية والفرضيَّة، ويكون استعمال الألفاظ أكثر دقَّة من قبل.