المحاضرة الأولى: انبعاث النظرية السياسية المعاصرة
تعرف النظرية السياسة باسم الفلسفة السياسية، وهي دراسة مواضيع مثل السياسة، والحرية، و العدالة ، والمِلكية، والحقوق، والقانون، وتطبيق السلطة للقوانين: ماهيّة هذه المواضيع، وما الذي يمنح الشرعية للحكومة، وماهية الحقوق والحريات التي ينبغي على الحكومة حمايتها، وما شكل الحكومة الأمثل، وماهية القانون، وفي حال وُجدت، ماهية واجبات المواطنين تجاه الحكومة الشرعية، ومتى يمكن الإطاحة بالحكومة بشكل قانوني، إذا لزم الأمر.
تهتم النظرية السياسية بمناقشة أسئلة ذات نطاق أوسع، تختص بالطبيعة السياسية لظواهر وتصنيفات مثل، الهوية، والثقافة، والجنوسة، والعِرق، والثروة، وعالقات البشر بغير البشر، وفلسفة علم البيئة، والدين، وغيرها
إن ميدان النظرية السياسية هو الفلسفة السياسية وقد جاء في دليل أوكسفورد للنظرية السياسية (2006) أن ميدان الفلسفة السياسية هو: مجال متعدد التخصصات يتركز ثقله المركزي في أقصى نهاية تخصص العلوم السياسية المنضوي تحت لواء العلوم الإنسانية، والذي ما يزال مجالا غير مقعد لفترة طويلة، كان التحدي الرئيسي لهوية النظرية السياسية هو الكيفية الأمثل لتموقعها في ثالثة مواضع: بارتباطها بالتخصصات الأكاديمية للعلوم السياسية، والتاريخ، والفلسفة؛ في مكان بين عالمَيّ العلوم السياسية والمستوى التجريدي كثير التأمّل للمدوّنة النظرية؛ بين الأعمال المعيارية للنظرية السياسية والمصادر الأحدث نسبيا مثل، النقد النسوي، والنظرية النقدية، وتحليل الخطاب، والثقافة الجماهيرية والثقافة السياسية، ودراسات الإعالم، وعلم الأعصاب، والدراسات البيئية، والعلوم السلوكية، وعلم الاقتصاد والتي يستقي منها العديد من المنظّرين السياسيين مادة بحثهم.
والنظرية السياسية هي جهد أو نوع من أنواع الفكر السياسي، وتعنى النظرية السياسية بنقل الظواهر المختلفة التي تقع فعال في عالم السياسة الى نطاق العلم الواقعي المتفق مع العقل والإطار الواقعي أو العملي في علم السياسة أو العلوم السياسية ال يشغله ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع السياسي، وإنما يبحث في طبيعة الظاهرة بوصفها أمراً واقعاً.
غاية ما يستهدفه صاحب النظرية السياسية مجرد الكشف عن الأصول العامة أو القوانين التي تبين عالقة السببية، أي الربط بين أسباب الظواهر السياسية ومسبباتها.
تكمن أهمية النظريات السياسية في كونها تعمد الى ايجاد عالقة أو رابط بين سبب ومسبب، وبرغم أن النظرية السياسية تعد بمثابة عمل بنائي لكونها تبدأ بالمشاهدة الحسية للظواهر السياسية ثم تكشف عن القوانين التي تحكم هذه الظواهر- الا أنها قد ال تهدف، أو بمعنى أدق ال تستطيع في معظم الأحيان إحلال شيء ما محل ما يقابله في الواقع السياس
المحاضرة الثانية:
النظرية التحررية: "العدالة التحررية"روبرت موزيك
كان روبرت نوزيك يدعو إلى الاشتراكية أثناء دراسته الجامعية (في جامعة كولومبيا)، ويعتبر فيلسوفا تحرريا بمعنى أنه ينطلق من الحرية الفردية كمبدأ أولي للحق الإنساني، وهذه النقطة يتفق فيها مع راولز، ولكن الخلاف يأتي حول منظور العدالة تجاه توزيع الثروات والممتلكات فراولز ينطلق من مبدأ إخضاع توزيع الثروات العامة والمناصب الرسمية لمبادئ العدالة ونوزك ينطلق من مفهوم استحقاق التملك. أي أن حق التملك ضمن حرية الفرد الأساسية وأن هذا الحق لا يمكن اختراقه أو التجاوز عليه.
يضع نوزك مبادئ وافتراضات أساسية لنظريته في العدالة التحررية:
_ الاستحقاق: تقوم نظرية الاستحقاق على ثلاثة مبادئ رئيسية
أولا: مبدأ التملك: وهو أن الشخص يستحق امتلاك ما تحصل عليه بشكل عادل.
ثانيا: مبدأ التحويل: وهو أن الشخص يستحق امتلاك ما تحصل عليه بناء على تحويل من شخص كان قد تحصل عليه بشكل عادل (نقل الملكية من شخص لشخص آخر).
ثالثا: لا يوجد استحقاق للتملك غير ما يتحقق بالمبدأ الأول والمبدأ الثاني.
النظرية السابقة تجعل من فرض الضرائب لغير غرض حفظ أملاك الأفراد عملية غير شرعية. وهنا يأتي تصور نوزك لدولة في أصغر حد ممكن. أي الدولة التي تشرف فقط على تطبيق العقود بين الناس وتحفظ الأمن لا أكثر. الدولة هنا لا يحق لها فرض ضرائب لتوفير خدمات صحية أو تعليمية أو أي شيء آخر. كل هذه الأمور تترك للناس يقومون بها بحسب توافقهم الحر. هنا ليس لأحد فرض ضريبة على الآخرين لأغراض من هذا النوع. كل عمل اجتماعي يجري طوعا واختيارا، لا بد هنا من التأكيد أن نوزك ليس ضد مساعدة الأغنياء للفقراء، ولكنه ضد أن تفرض هذه المساعدة على الأغنياء.
بحسب نوزك «الحرية تزعج السياقات» بمعنى أننا حين ننطلق من مبدأ الحرية الفردية.
فإننا يجب أن نرفض أن نخضع المستقبل لسياقات ثابتة، الحرية تعني أن يتحرك المجتمع في اتجاهات مختلفة وغير متوقعة، وحين تفرض الدولة ضرائب تعيد من خلالها توزيع المصادر داخل المجتمع فإنها تفرض على هذا المجتمع الحركة في سياقات ثابتة تتعارض مع حرية الأفراد ومع حقهم في التملك، بالنسبة لنوزك يحتاج المجتمع فقط البداية من نقطة عادلة ثم تترك له حرية الحركة من دون تدخل الدولة، مثلا يعطى كل فرد في المجتمع قطعة أرض أو مبلغا من المال بالطريقة التي يتفق الناس على أنها عادلة، بعد ذلك من الطبيعي أن يختلف الناس في التصرف في ممتلكاتهم وسيتفاوتون في الغنى والفقر بحسب قدرتهم على إدارة ممتلكاتهم، فهنا نحن أمام قرارات فردية حرة يتحمل الناس مسؤوليتها وليس هناك مبرر للدولة تأخذ من خلاله أموالا من الأغنياء وتعطيها للفقراء، هذه المساعدات يفترض أن تطوعية واختيارية.
نظرية نوزك قد تبدو معقولة وربما عادلة إذا أخذنا المجتمع على أنه هذه الجماعة الموجودة حاليا، التي يمكن أن نوفر لها حالة انطلاق عادلة ثم نترك كلا يتصرف بحريته، ولكن هذه ليست كل الصورة، المجتمع يتكون من أجيال متتالية تؤثر قرارات كل فرد فيمن سيأتي بعده، و الناس الذين لم يجيدوا إدارة شؤونهم المالية وتحولوا إلى طبقة اقتصادية متأخرة سيؤثرون سلبا على فرص أولادهم، والأولاد هنا سيتأثرون سلبا بقرارات اتخذها آخرون وليس من العدل تركهم في هذه الظروف فقط لأن أهاليهم اتخذوا قرارات معينة. الأولاد على الأقل يستحقون فرصا مثل تلك التي تحققهم لأهاليهم، إذا وافق نوزك على أن الأولاد يستحقون أيضا تعويضات تجعلهم يبدأون من نقطة عادلة فإننا هنا نحصل على نسق مستقر من التعويضات مع كل جيل لن تتحقق إلا بفرض نوع من التقسيم للمال العام قد يحتم فرض ضرائب على الأغنياء في حال عجز المال العام عن القيام بهذه المهمة، قضية أخرى وهي أن عملية التملك ونقل الملكية والحرية الفردية تتحقق في سياق اجتماعي معين وهذا السياق لا يتحقق إلا بنوع من الشراكة والتعاون، حماية الملكية الفردية بكل أشكالها تتطلب نظاما اجتماعيا متوازنا، بمعنى أنه في حالة ارتفع الفارق بين الأغنياء والفقراء في مجتمع ما فإن الحفاظ على الممتلكات الخاصة للأغنياء سيكون أكثر صعوبة وأكثر خطرا، ليحافظ الأغنياء على ممتلكاتهم فإنهم مطالبون بالمشاركة في تكوين نظام اجتماعي يحافظ على توازن معين يحمي الناس من الاضطرار للعنف للحصول على ضروريات حياتهم، هذا التوازن من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن أن يترك للمشاركة الاختيارية والتطوعية، كما ان هذا الشرط الاجتماعي، أي أن الأفراد يعيشون بالضرورة في تواصل مع بعضهم هو ما يجعل من رولز يصر على توفير معادلة عادلة لهذا الاجتماع، بالإضافة إلى ما يطالب له نوزك من رعاية للحريات الفردية وحق التملك.
تعتبر نظرية العدالة الاجتماعية النظرية الأكثر إثارة للجدل السياسي على امتداد العالم، ربما ال يذكر كثير من الناس هذا العنوان، لكنَّهم يتحدَّثون عن التفصيلات التي تندرج تحتها، ولا شك أن مسالة العدالة الاجتماعية، كانت –وما تزال- مطلب وهاجس للكثير من الشرائح المجتمعية من داخل المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ، غير أنّ كل مجتمع إنساني، وكل فئة، بل وكل فرد وكيف يتصور العدالة الاجتماعية و مبادئها و أسسها و إمكانية تحقيقها على أرض الواقع، تتدخل في هذا الإطار مجموعة من العوامل التي تحدد و تهيكل تصورات الأفراد .
ان راولز كان مفكرا واضحا وصريحا للغاية في تأسيسه لمبادئ العدالة على وضع المساواة الأصلي حتى ولو كان هذا الوضع افتراضيا، لكن هنا يكمن التناقض، فمبادئ العدالة عنده مقامة على وضع "افتراضي"، نظري مجرد، وعلى حجاب الجهل، الذي يشبه القناع الذي تلبسه "سيدة العدالة " حاملة الميزان ، لكن ال تتحقق العدالة الا بإدخال هذه الحالة الافتراضية في صميم التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. تدلنا تجربة “حجاب الجهل” عند رولز على أنه ال توجد عدالة، وال يمكن أن تتأسس من حيث المبدأ والنظرية، الا بالغاء افتراضي الانقسامات الطبقية في المجتمع. إن المجتمع المساواتي الحر هو أساس العدالة ومبدؤها ونقطة انطلاقها.
يقول رولز: "إن أحد خصائص العدالة باعتبارها إنصافا هو أن نفكر في الجماعات في الحالة الأصلية على أنها عقلانية وليس لديها أطماع متبادلة ، و هذا المصطلح في غاية الأهمية حيث يعني أن الجماعات في الحالة الأصلية ليس لديها عالقات استغلال لبعضها البعض أو أي مصلحة في الكسب أو الهيمنة على بعضها البعض. وهذا يعني اختفاء الاستغلال الطبقي أو الهيمنة الطبقية لطبقة على أخرى. ال يزال توصيف رولز للحالة الأولى يحمل الطابع الطبقي بوعي كامل وإصرار. "وهذا ال يعني أن هذه الجماعات نوايا ، أي أفراد يحملون مصالح من نوع معين، مثل الثروة أو المكانة أو الهيمنة، لكن يُنظَر اليهم على أنهم ال يحملون مصالح تجاه بعضهم البعض"، أي أنه ال توجد لجماعة ما مصلحة في استغلال مصالح الجماعات الأخرى، من أجل الثروة أو المكانة أو الهيمنة. وهذا هو المجتمع الطبقي عن جدارة، النه ينفي الاستغلال الطبقي والمصالح الطبقية.
كما أن "عقلانية الجماعات الداخلة في التعاقد” تعني حيادها التام إزاء بعضها البعض، ويعني هذا الحياد اختفاء بينة الاستغلال وانعدام التكريس لمصالح خاصة. نظرية رولز مليئة بالنفي والطابع النافي وبالمصطلحات الدالة على ذلك: اختفاء، جهل، حجاب، كلمات متشابهة. إنه يعمل على الغاء المجتمع الطبقي كي يؤسس للعدالة.
وينظر رولز الى مبادئ العدالة على أنها "تنشأ من اتفاق أصلي في وضع من المساواة" أي أن مبادئ العدالة تفترض وضعا أصليا تسوده المساواة التامة داخل الجماعة التي ستتفق على تلك المبادئ، والمساواة التامة في وضع أصلي تعني الوضع الذي ال تحضر فيه الانقسامات الطبقية أو الاستغلال أو الامتيازات الطبقية.
عندما يقدم المفكر فكرة عن المساواة في مجتمع طبقي، فهو يقدم فكرة مضادة لهذا المجتمع ذاته، وهذا هو ما يفعله راولز هنا، ال يظهر هذا المعنى من تعقيب روالز على هذا التعريف، فهو يقول إن المساواة التي في الوضع الأصلي تعني أن “للكل الحقوق نفسها في عملية اختيار مبادئ العدالة ، هذا التعقيب على مفهوم المساواة في الوضع الأصلي ليس من جوهر المساواة المقصودة بل من آثارها؛ فالمساواة هي اختفاء اللامساواة الطبقية، وعلى أساس هذا المعنى من المساواة يكون الأطراف الحقوق نفسها في اختيار مبادئ العدالة وفي التحليل الأخير، يبقى الوضع الأصلي هو الوضع الطبقي بامتياز، الوضع الذي ينحي الطبقات جانباً ويلغي الانقسام الطبقي والامتيازات الطبقية في الفكر، ويتخيلها غير موجودة، حتى في ظل وجودها، من أجل تأسيس مبادئ العدالة . وإذا كان الوضع الأصلي هو الوضع الطبقي، وإذا كان الذي يجعله أصلياً هو أنه غير طبقي [أصلي بمعنى طبيعي، في مقابل الوضع الطبقي المصطنع]، فإن عدد مرات ظهور هذا المصطلح في كتاب رولز يشي بمركزية هذا المفهوم وما يتضمنه من تصور للعدالة يلغي اللامساواة الناتجة عن الوضع الطبقي.
يقول راولز عن البناء الاجتماعي الأساسي إنه "يحوي العديد من الأوضاع الاجتماعية" حيث يولد الناس ويجدون أنفسهم داخل هذه الأوضاع التي تحدد فرصهم وكل ما يمكن أن ينجزوه في حياتهم؛ وهذه هي طريقة رولز في الحديث عن الأوضاع الطبقية وعن الطبقة التي يولد بها المرء ويجد مصيره كله وكل توقعاته وفرصه في الحياة محددة بها، يقول رولز: "إن المؤسسات الكبرى في المجتمع مأخوذة باعتبارها كال موحداً تحدد حقوق وواجبات الناس، وتؤثر في مصائرهم… وأفهم بالمؤسسات الكبرى، النظام السياسي والترتيبات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية"، أي البناء الطبقي للمجتمع مع ما يدعمه من نظام سياسي؛ رولز يستخدم شفرة في الكتابة، كلمات مجردة لتجنب استخدام المسميات الحقيقية؛ "أن البناء الأساسي للمجتمع هو الهدف الأساسي للعدالة الن آثاره عميقة للغاية وحاضرة منذ البداية"، والن الناس يولدون داخل أوضاع اجتماعية معينة يجدون أنفسهم فيها وتحدد مصيرهم، وان هذه الأوضاع تتصف باللامساواة العميقة ، فيجب أن تكون هي هدف العدالة .
حجاب الجهل:
و تكمن قوة نظرية راولز في أنها مبينة على فكرة واحدة، وهي تجربة ذهنية اسمها "حجاب الجهل" البشر في اللحظة التي يقومون فيها بالتفكير بمبادئ العدالة ، أنهم بشر مجردون من كل المعرفة حول أوضاعهم الخاصة.
ففي "الوضع الأصلي" تحت تأثير "حجاب الجهل" لن يعرف البشر موقعهم المستقبليّ في المجتمع، الا بعد إقرار مبادئ العدالة وإزالة الحجاب، ال يعرفون إن كانوا سيكونون رجالاً أم نساءً، أطفالاً أم شيوخًا أم شبابًا، أغنياء أم فقراء، أقوياء أم ضعفاء، أذكياء أم أغبياء، سودًا أم بيضًا، مؤمنين أم غير مؤمنين.
يقول راولز: "من بين المعالم الأساسية لهذا الوضع[الأصلي] أن ال أحد يعرف مكانه في المجتمع، أو وضعه الطبقي، أو مرتبته الاجتماعية، كما ال أحد يعرف نصيبه في توزيع الأصول رؤوس الأموال وعناصر الإنتاج والقدرات الطبيعية أو ذكاءه ثقافته أو قوته، أو ما الى ذلك هذا هو حجاب الجهل، مشروح بمعناه دون استخدام المصطلح نفسه. لكنه يقول بعد ذلك مباشرة: تختار مبادئ العدالة من وراء حجاب الجهل. وهذا يضمن الا أحد يتميز في اختيار المبادئ بنتائج الصدفة الطبيعية الميلاد في أسرة غنية مثال، أو عوارض الظروف الاجتماعية الميراث مثال، وبما أن الكل متطابق في وضعه الأصلي وال أحد مميز في اختيار المبادئ التي في صالح ظروفه الخاصة، فإن مبادئ العدالة تكون نتاج اتفاق أو صفقة منصفة. أساس العقد والوفاق إذن هو هذا الحجاب نفسه، وهو تنحية الانقسام الطبقي والفروق الطبقية.
إن الهدف من عملية تجريد الفرد من صفاته النوعية كشرط لدخول "حجاب الجهل" هو اختيار مبادئ عدالة تكون غير متأثّرة الاختلات الاعتباطية بين البشر. إن كنت قد ولدت غنيًا أو فقيرا، طويلا أو قصيرا، رجال أو امرأة، هي أمور من "فوضى الطبيعة". و العدالة ال يجب أن تكون متأثرة بموازين قوى مبينة على الفوضى والاعتباط. وال تُضمَن الحيادية الا بحذف المعرفة بكل الحقائق الفردية. باختصار: اشتقاق العدالة من الجهل، لان المعرفة تؤدّي الانحياز.
إن أول مبدأ يثبته أفراد "حجاب الجهل" هو الحريات السياسيَّة. تقسم الحرية بعدالة مثالية، كأنها قالب حلوى يقطعه شخص واحد لعدد معروفٍ من الأشخاص، تحت هاجس أنَّ آخر قطعة ستكون له شخصيا.
كل الأفراد يمتلكون نفس الدرجة من الحريات السياسية دون زيادة أو نقصان، والحريات السياسية مذكورة في قائمة طويلة مثل: حرمة الفرد من الانتهاك الجسدي والاعتقال العشوائي، الحقّ في المشاركة السياسية في الفضاء العام، وحرية التجمّع والانتظام في أحزاب وكيانات، تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون، وحرية التعبير والمعتقد والإعلام، والحق بالتعليم والصحة العامة. التعليم والصحة العامة عند رولز مندرجان في المبدأ الأوّل، لضمان عدم تأثّرها بـ "تقلبات السوق"، راولز ليس ضد السوق، ولكنه مع تحديد سقفٍ للسوق، ومساحة الانسان خارجه، كما تسبق الحرية السياسية العدالة التوزيعية الاقتصادية عند راولز، فللحرية السياسية أولوية قادرة على تعطيل أي مشروع توزيعٍ اقتصادي، إذا ما انتهك هذا المشروع أولوية الحرية. يشدد رولز على طاقة تعطيل المبدأ الأوّل بقوله: "على أولوية الحرية أن تكون بديهية.
وال يجوز المساس بالحريات السياسية، حتى لو كان هذا المساس يجلب نتائج اقتصادية مضمونة تعود بالعائد الإيجابي على كلّ أفراد المجتمع. بتأكيد أولويّة الحرية السياسيّة على التوزيع الاقتصادي، يريد رولز أن يقطع الطريق أخلاقياأمام الأنظمة الشموليّة التي تقدم نموذجاً اقتصاديًا ناجحاً مثل الصين. أنظمة قادرةٌ فعال على تحقيق نموّ اقتصادي ورفع مدخول الفرد، ولكن على حساب التخلي عن المبدأ الأوّل.
تمثل التصور العام للعدالة الذي يصوغه راولز في فكرة أساسية مؤداها أنه يجب أن توزع كل الخيرات الاجتماعية الأصلية مثل الحرية والحظوظ، والدخل والثروة، وأسس تقدير الإنسان لذاته بالتساوي، الا إذا كان التوزيع غير المتساوي يخدم مصالح الشخص الأقل حظا من غيره يفهم "رولز" فكرة العدالة في عالقة وطيدة بالقسمة المتساوية للخيرات الاجتماعية ، فيجب أن نعامل كل البشر بشكل متساو وذلك دون إزالة كل أشكال اللامساواة، بل إن إزالة اللامساواة تقتصر على اللاساواة غير العادلة التي تسيء الى وضع الأفراد الأقل فقرا، أما إذا كانت بعض الأشكال من اللامساواة ال تتعارض مع المصلحة العامة من خلال تطويرها للمواهب و للطاقات الاجتماعية النافعة، فال شكّ في أنّها ستكون مقبولة من الجميع. فإن كان نصيب شخص ما في الثروة يفوق ما حصل عليه يسهم في تطوير شروط تحقيقي لمصالحي الخاصة، فال بدّ من السماح بتلك اللامساواة بدل رفضها. وهكذا، فإنّ رولز ال يرفض اللامساواة بشكل مطلق، النّه يستثني اللامساواة العادلة. يمكن أن تكون الفوارق الاجتماعية مقبولة إذا أسهمت في الترفيع في الحصة العادلة مقارنة بما أحصل عليه في البدء، كما يمكن لهذه الفوارق الاجتماعية الا تكون مقبولة إذا كانت تلحق الضرر بتلك الحصة العادلة، وهو ما يمكن أن يحصل في إطار النظرية النفعية. لقد احتاج رولز في عرضه لمبادئ العدالة الى ترتيب تفاضلي لمختلف العناصر المكونة للنظرية، و يتمثل المشروع الذي اختاره راولز في تفكيك التصور العام الى أقسام ثالثة منظمة : وفق مبدأ "الأولوية المعجمية".
المبدأ الأول: لكل شخص حق متساو مع غيره في النسق الشامل من الحريات الأساسية المتساوية؛ حيث ينسجم ذلك مع نسق مماثل من الحرية للجميع.
المبدأ الثاني: يجب أن ننظم مظاهر التفاوت الاجتماعي والاقتصادي على النحو التالي:
- أن تكون لصالح الأقل حظا.
- أن تكون مرتبطة بوظائف و بمواقع مفتوحة للجميع و في إطار من المساواة العادلة في الفرص.
_مبدأ الفرق
إن فكرة "حجاب الجهل" هي جذرية لفهم رأي رولز في العدالة التوزيعية منطقيا، الناس تحت تأثير الجهل وعدم اليقين، يحسبون حساب الاحتمال الأسوأ، وهو احتمال أن يجدوا أنفسهم في موقع الأضعف بعد صياغة المبادئ ونزع الحجاب وإعادة تيار كهرباء المعرفة.
في حالة الخطر، لما يكون الإنسان أمام احتمالات متعددة، مع التأكيد على الشرط بأن نسبة حدوثها كلها هي متساوية، في هذه الحالة، منطقيًا، عليه أن يفكّر أكثر بالاحتمال الأسوأ. يجري الفرد في ذهنه الحوار العقلاني التالي: بعد إزالة الحجاب، إذا صدف حظي وكنتُ في موقع الأقوى اجتماعيًا، فسأنجو حتمًا، ولكنْ، إذا كنت في موقع الأضعف، فأنا بحاجة الى الحدّ الأدنى الضامن للنجاة. تحت تأثير "حجاب الجهل" تختارُ زيادة الحد الأدنى للرفاه، أو ما يسميه رولز بـ "تعظيم القليل"، خوفا من الاحتمال الأسوأ، النّ النجاة في الاحتمالات الاخرى مضمونة.
_ مبادئ "تعظيم القليل" تضع حقّ الفيتو بيد الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع عند اختيار التوزيع الأفضل. وتطبيقها يغير إحساسنا بعبارة "المساواة الطبقية الكاملة"، والتي تمتلك طاقة أخلاقية إيجابية مقنعة بحد ذاتها، مثال لدينا أربعة أشكال توزيع. رغم أنّ التوزيع (أ) يحقق المساواة الطبقية الكاملة، إذْ يحصل الجميع على نفس القيمة (10)، الا أنّ الاختيار بحسب رولز تحت الجهل يجب أن يكون التوزيع (ج)، لان الأضعف في هذا التوزيع يحصلون على القيمة الكبرى (30) من بين كلّ احتمالات التوزيع الاخرى . يتمُّ اختيار التوزيع (ج) النه التوزيع الأكثر "تعظيماً للقليل" من بين كل الاحتمالات، بما فيها الاحتمال الذي يحقق المساواة الطبقية الكاملة. وهذا بالضبط ما يعنيه بـ"مبدأ الفرق" ، إذْ إن الفروقات الطبقية في التوزيع يمكن تبريرها والسماح لها، في حالة واحدة فقط، وهي لما ترفع الحد الأدنى للفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع.
حسب راولز هناك نوع من "التوتر الأبدي بين الخلق والتوزيع"، ثمة حقيقة ال مفر منها، وهي أنَّ البشر يمتلكون قدرات متفاوتة على خلق القيم، تجعل من الصعب فرض تساوي توزيعها بينهم، دون انتهاك المبدأ الأوّل حتّى البشر الذين ينطلقون من نفس الشروط تمامًا، يخلقون كميات مختلفة من القيم أثناء مسيرتهم، وهذا التوتر أزلي، إذا ما قمنا بانتزاع كل القيم التي يخلقها الأفراد بالقسر، كي نعيد توزيعها بالتساوي، فإنَّ الفرد سيصبح "عبدًا للمجتمع"، فإذا تحقق التساوي في التوزيع دون انتهاك الحريات السياسية، فال مشكلة على الإطلاق، ويسمّي رولز هذه الحالة بـ "الدولة الاجتماعية الحرة". مرة أخرى: رولز ليس قطباً معاديًا أو مضادًا لماركس في الفلسفة كما يظن البعض، بل إنَّ "مبدأ الفرق" هو استيعاب لـ "حس العدالة الماركسي" كما يسمّيه، حيث يتم السماح للفروق الطبقية فقط لما تكون لصالح الأضعف في المجتمع
_ المنفعية
الانتقادات الموجهة لنظرية العدالة لجون راولز:
هناك العديد من المفكرين الذين قدمة انتقاداتهم لهذه النظرية وسنحاول ان نأخذ على سبيل المثال:
نقد جون هارساني: ثمة نقد وجه الى رولز حول مفهومي "تعظيم القليل" و"مبدأ الفرق" من قبل الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، الهنغاري- الأميركي، جون هارساني (1920- 2000) في مقال كتبه بعنوان "هل مبادئ التعظيم تخدم أساسيات الأخلاق.. نقد في نظرية جون رولز" عام 1975.
عند هارساني الحياة ال يمكن أن تُبَنى على "توقع الاحتمال الأسوأ"، و"مبدأ الفرق" أداة غير فعالة عند اتخاذ القرارات الاخلاقية. أوضحَ اعتراضاته بمثالين. الأوّل هو أنَّ هنالك دومًا احتمال أن تنفجر الطائرة وتموت، إذا كنت في طريقك الى مقابلة عملٍ، من المؤكد أنّك ستنالها وستحسن وضعك المالي. بل إنّك لن تخرج من البيت إذا خططت لحياتك وأنتَ تتوقع الأسوأ دوما، والثاني هو سيناريو وجود مريضين مصابين بمرض قاتل، والطبيب يمتلك جرعة دوائية تكفي لانقاذ شخص واحد فقط، وعليه أن يقرر، المريضة الأولى هي فتاة في ريعان شبابها، مشهود لها بالنجاح، وإنتاجها يعود بالفائدة الإجمالية على الجميع، وتمديد حياتها يعني حتمًا مزيدًا من النجاح والفائدة. والمريض الثاني هو عجوز على شفير الموت، مصابٌ أصال بمرض قاتل آخر، والجرعة ستطوّل حياته لثالثة أشهر إضافية فقط. يرى هارساني بأنَّ "مبدأ الفرق" سيعطي الجرعة لـ "الأضعف" وهو العجوز، وهذا "قرار أخلاقي خاطئ".
يعدّ رونالد دوركين من بين أهمّ مفكّري التّاريخ المعاصر وفلاسفته في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، يتعارض دوركين - تعارضًا كليًّا - مع كلّ تقليد فلسفة القانون الوضعيّة الّتي تهتمّ بدراسة القانون كواقع في كلّيّته، كما مثّلت نظريّته في المساواة مساهمته الأبرز في النّظريّة السّياسيّة الّتي لا تزال - إلى اليوم - واحدة من المواقف الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين.
يعود نجاح دوركين في البلدان الأنجلوسكسونيّة إلى الوظيفة الّتي لعبتها نظريّته الحقوقيّة، كنظريّة مضادّة للواقعيّة والوضعيّة القانونيّة، غير أن تفكير دوركين لم يقتصر على مجال الحقوق؛ بل مثّلت الحقوق مجالًا وإطارًا لتكوين فلسفة الحكومة العادلة، حيث يحافظ على التّوتر بين وصف الممارسات ومبرّراتها لمساءلة معنى الحقّ ذاته، باحثًا في الأشكال الّتي يجب أن يتّخذها ليكون عادلًا وعلى حقّ؛ فهو لا يفصل - كما هو الشّأن عند الفلاسفة - المشكلات النّظريّة عن المشكلات التّطبيقيّة.
لقد جدّدت أعماله - بداية - مسائل فلسفة الحقّ والقانون، معيدة نقاش مسألة الحقوق والقوانين الطّبيعيّة والوضعيّة، أما على مستوى الفلسفة السّياسيّة؛ فهو يدافع عن ليبراليّة أخلاقيّة مطوّرًا نظرية في العدالة التّوزيعيّة الّتي يقدّمها "كتفسير موحّد للمساواة والمسؤوليّة، محاولًا السّعي إلى التّغلّب على أوجه القصور "في مبدأ الاختلاف" عند رولز؛ حيث تبدو أطروحات دوركين تمسّ الفلسفة الأخلاقيّة كما الفلسفة السّياسيّة، ونظريّة الحقوق والخطابة القضائيّة، وقد ساهمت هذه الأطروحات - دون شكّ - في استقطاب المشهد القانونيّ والحقوقيّ المعاصر، جاعلة من دوركين أحد ركائزه وعناصره الأساسيّة، لذلك؛ كثيرًا ما يُصنَّف ويُوضَع بجانب كلّ من كولسون وروس أو هارت حين يتعلّق الأمر بنظريّته في الحقوق، أو بجانب هابرماس ورولز حين يتعلّق الأمر بالفلسفة السّياسيّة، غير أنّه - بعيدًا عن هذه المقارنات - تمكّن دوركين من فرض نفسه كفيلسوف رئيس في القانون وفي حقوق الإنسان،
لقد ساهمت أسفار دوركين في تحويله إلى شخصيّة مشهورة ومعروفة في الأوساط القانونيّة من المختصين والجامعيّين، كما اشتهرت كتاباته - خاصّة - في المجتمع الحقوقيّ، وساهمت في التّعريف به كأحد أركان الفلسفة الحقوقيّة المعاصرة، وكفيلسوف اللّيبراليّة الأخلاقيّة، وتقوم نظريته على مجموعة من المبادئ:
المساواة:
سلط رونالد دوركين الضوء على ما أسماه اللغز الأبوي بمقال عنوانه “ما هي المساواة” في عام 1981. وكتب بأن الأبوين في مثل هذه الحالة بين هدفين لتحقيق المساواة: أحدها “تكافؤ الموارد” ويتم تحقيقه عن طريق تقسيم الورث بالتساوي، ولكن له جانب سيء وهو تجاهل الفوارق الجوهرية بين الأطراف. الثاني “تكافؤ المصالح” بمحاولة اعتبار الاختلافات عن طريق حسابات معقدة. إذا أخذنا الطريق الأول فسوف نقع بتجاهل الفوارق الجوهرية بين الأبناء. وإذا أخذنا الثاني، فإننا نخاطر بتقسيم الورث بشكل خاطئ وغير متساوي.
فهناك مشكلة في معرفة مشكلات نزعة المساواة (egalitarianism). فالعقل هنا يحارب العاطفة لأن تلك التعقيدات لا تخرج عن نطاق القانون الأخلاقي. وعندما أقرأ لوالدرون وأندرسون ومونك ومفكرين آخرين حول نزعة المساواة، أجد نفسي أتذكر وقتًا عندما كان عمري إحدى عشر أو اثني عشر عامًا، فقد كان والداي منفصلين والحديث بينهما قليل. ذلك الوقت ذهبت فيه إلى ثلاث مدارس متوسطة في ثلاث سنوات، إحداها سيئة، والأخرى متوسطة، والأخيرة جيدة. كانت المدرسة السيئة قريبة من منزل أمي، حيث كنا نعيش في الطابق السفلي، بعد أن قمنا بتأجير الطابق الرئيسي. كانت المدرسة الجيدة في ضاحية غنية، سجلت فيها من خلال إدعائي بالعيش في عنوان لصديق للعائلة يملك شقة صغيرة، فوق مساحة تجارية. (هذا يسمى: الاحتيال في التسجيل وهو أمر شائع في جميع أنحاء البلاد، خصوصا في الأماكن التي بها مناطق تعليمية غنية وفقيرة متجاورة
حدّد دوركين مشروعيّة حكومة ما بعملها على تحقيق الشّروط الآتية: التزامها بإعطاء جميع المواطنين نفس القدر من الاحترام والاهتمام على قدم المساواة؛ إذ يقول دوركين في هذا السّياق: "يجب على أيّة حكومة شرعيّة أن تعامل مواطنيها ليس فقط بقدر من الاهتمام؛ بل باهتمام متساوٍ، أعني: أنّها يجب أن تتصرّف بحيث تولي نفس القدر من الاهتمام لتأثير برامجها السّياسيّة على حياة أيّ مواطن، والشّرعيّة السّياسيّة ليست مسألة أبيض أو أسود؛ بل مسألة درجة (a matter of degree)؛ فالحكومة الّتي تُنتخب بموجب إجراءات تسمح للأغلبيّة باستبدالها في الوقت المناسب، وتراعي - إلى حدّ كبير - الاهتمام المتساوي بالمواطنين، والمسؤولية الفرديّة لكلّ واحد منهم عن إدارة حياته الخاصّة، قد تكون شرعيّة بالقدر الكافي، بحيث لا يكون العصيان المدنيّ الشّامل مبَرَرًّا، حتّى لو كانت بعض سياسات هذه الحكومة - كسياساتها الضريبيّة على سبيل المثال - تُظهر قدرًا من اللّامبالاة بالكرامة الإنسانيّة، تلك اللّامبالاة الّتي - إذا زادت عن حدّها - تقضي على الشّرعيّة تمامًا"
ففيما يتعلّق بالاحترام المتساوي للمواطنين، يعني دوركين؛ أنّ الجميع ينبغي أن يكونوا أحرارًا في اختيار نموذج الحياة الّذي يناسب كلّ واحد، كما أنّه ليس من حقّ الدّولة أن تفرض أو تقول لمواطنيها كيف ينبغي عليهم أن يعيشوا.
في حين أن الاهتمام المتساوي يقصد به؛ أنّ على الدّولة أن تكفل تكافؤ فرص الحصول على الموارد اللّازمة لمواطنيها، لمواصلة نموذج العيش الذي قاموا باختياره.
فوفقًا لدوركين؛ يجب تصوّر - أوّلًا - توزيع مثاليّ للموارد، لنتخيّل أنّ كلّ الأفراد نزلوا على جزيرة مهجورة، غنيّة بالموارد المتنوّعة الّتي لا تعود لأي واحد، لتوزيع هذه الموارد على نحو عادل دون المساس بالاحتياجات الفرديّة؛ الأفضل وضعها - كلّها - في المزاد - أي المزاد العموميّ - حيث يشارك فيه كلّ الأفراد، وفيه يدفعون أثمان اختياراتهم.
يهتم دوركين بنموذج توزيع يأخذ باعتباره تباين التّطلّعات الفرديّة؛ حيث "يطلب منّا دوركين تخيّل حالة تكون فيها كلّ موارد المجتمع موضوع مزاد علنيّ، يشارك فيه كلّ أفراده، وينطلق الجميع بنفس المقدرة الشّرائيّة - في المثال المعتمد من قبل دوركين يحدّدها بمائة صدفة - يستخدمونها لاقتناء الموارد الّتي تبدو لهم موافقة أكثر لخططهم في الحياة، وإذا أنجز هذا المزاد كما ينبغي سيرضى كلّ فرد بالنّتيجة الّتي حصل عليها، أي أنّه لن يفضل أيّ أحد من الأفراد سلّة خيرات غيره عن تلك الّتي فاز بها هو لنفسه، وفي حال عدم الرّضا؛ يمكن للشّخص أن يتقدّم بعرض للحصول على الأشياء الّتي يتطلّع إليها بدلًا عن تلك الّتي حصل عليها، وإذا سار المزاد في الاتّجاه الصّحيح؛ سيجد كلّ النّاس أنفسهم في نفس الوضع، أي أنّ كلّ واحد منهم سيفضل سلّة خياراته عن تلك التي لغيره، وذلك هو ما يسمّيه دوركين "اختبار الحسد"
إنّ قبول الأفراد بنتائج المزاد وتعبيرهم عن حالة الرّضا، يعكس معاملة الدّولة لهم بطريقة متساوية، ذلك أنّه - حسب دوركين - فالتّباينات بين الأفراد لا تعبّر سوى عن اختلاف تطلّعاتهم، وعن تنوّع في التّصوّرات يضفي زخمًا على معنى الحياة، كما يحمل الأفراد مسؤوليّة اختياراتهم، وحتّى إن ظهرت التّباينات فيما بعد؛ فهي تعود - بالأساس - إلى مسؤوليّة الفرد، ورغبته في أن يعيش طريقة معيّنة في الحياة، مختلفة عن تلك التي اختارها آخرون، لذلك؛ يجب علينا أن نميّز اللّامساواة النّاشئة عن عدم المساواة في الهبات الممنوحة في الموارد منذ البداية، عن تلك النّاجمة عن الخيارات الطّوعيّة أو المخاطرة الّتي يتّخذها شخص ما، فمن الطّبيعيّ - في نظر دوركين - أنّ أولئك الّذين يختارون العمل أقلّ - على سبيل المثال - يجب أن يتكيّفوا مع عدد أقلّ من الموارد؛ فالشّيء المهمّ - بالنّسبة إلى دوركين - أنّه لا أحد يعاقب كونه غير محظوظ، وراثيًّا أو اجتماعيًّا، مع ذلك - يجب لفت الانتباه إلى المسؤوليّة الفرديّة، من هنا؛ نفهم أمل دوركين في التّوفيق بين موقف الاشتراكيّين والمحافظين، بين أنصار المساواة وأنصار الحرّية والمسؤوليّة، مع ليبراليّته المساوتيّة؛ و نظام المزاد العموميّ؛ أنّنا في حاجة - أيضًا - إلى الثّاني، كي تؤخذ في الحساب الاختيارات الفرديّة ، نتبيّن أنّ فلسفة دوركين السّياسيّة تضع الملامح الرّئيسة لاتّجاه ليبراليّ معاصر، صار يعرف الآن "اللّيبراليّة الاجتماعيّة"، وهو يسعى إلى تقديم تصوّر جديد للعدل الاجتماعيّ، يعارض به أهمّ فيلسوفَين في الفلسفة السّياسيّة المعاصرة، هما (جون رولز) الّذي انحاز في تصوّره للعدل الاجتماعيّ للمساواة على حساب الحرّيّة، و(روبرت نوزيك) الّذي ذهب في تصوّره للعدل الاجتماعيّ إلى أنّ الحرّيّة الاقتصاديّة تتعارض - تمامًا - مع المساواة.
فإذا كانت هذه نظريّته في سياسة المساواة اللّيبراليّة الّتي تسعى إلى تحقيق العدالة والمساواة في "المزاد العموميّ" و"التّعويض من خلال نظام التّأمين"، وتطبيق ذلك على أرض الواقع من خلال "الضّرائب وإعادة التّوزيع"، فكيف هي نظريّته في فلسفة الحقّ والقانون؟
الحقّ:
يحافظ دوركين على نظريّة ليبراليّة في الحقوق، توفّر بديلًا للنّظريّة اللّيبراليّة المهيمنة في الحق "المتكوّنة من مزيج من الوضعيّة القانونيّة والنّفعيّة"، ووفقًا لدوركين؛ فإنّ الوضعيّة القانونيّة لفيلسوف القانون البريطانيّ هربت هارت لا تكفي لوصف الممارسة القانونيّة القائمة؛ لأنّها تقدّم نظريّة نفعيّة تجيب - بطريقة غير شرعيّة - عن مشكلة العبثيّة القراريّة للقضاة.
إنّ ممارسة السّلطة التّقديريّة يعني؛ أنّ القضاة لا يمكنهم أن يأخذوا قرارات اللّجوء إلى حجج المبدأ، بمعنى مقتضيات إيتيقيّة أخلاقيّة، لنضع في بداهتنا وجود مبادئ قانونيّة، يقول دوركين: "إنّ القانون لا يمكن أن يختزل إلى مجرّد نسق من القواعد
فهو يشمل - أيضًا - مبادئ تحدّد التزامات المشرّع والقاضي، وتستند إلى تصوّر سياسيّ للأخلاق، هذه المبادئ تعود إلى حقّ طبيعيّ أكثر جوهريّة وبداهة؛ الحقّ المجرّد في الاهتمام المتساوي والاحترام المتساوي، هذا الواجب الأخلاقيّ: هو "مصدر السّلطة العامّة للأهداف الجماعيّة والقيود الخاصّة المفروضة عليه في نفس الوقت"فالقضاة "مضطرون لإظهار أنّ قراراتهم السّياسيّة ترتبط بالحقوق الفرديّة، وليس بالمصلحة العامة.
الحقوق الفرديّة
وحسب دوركين: هي أصول سياسيّة محتجزة من قبل الأفراد، والأفراد لهم حقوق عندما يكون - لسبب أو لآخر - هدفًا مشتركًا ليس كافٍ لحرمانهم ممّا يرغبون في الحصول عليه كأفراد، أو حين لا يشكّل مبررًا كافيًا لفرض خسارة أو ضرر عليهم"
لذا؛ يقدّم دوركين الحقّ بعدّه تحليل تفسيريّ، ويقارن التّفسير القانونيّ بالتّفسير الأدبيّ؛ حيث تسمح له هذه المماثلة بعرض المنهج الّذي يتّبعه القضاة، ويجب عليهم اتّباعه لحل القضايا القانونيّة الصّعبة، ينبغي النّظر إلى القضاة كما الرّوائيّون في كتابة سلسة من الرّوايات، مثل روابط في سلسلة كبيرة من القانون، وهو ما يفسّر عودة دوركين إلى مبدأ "وحدة القانون" كمعيار للحكم في القضايا الصعبة، في سبيل استخلاص مبادئ قانونيّة على ضوء نظرة شموليّة إلى القانون وتسلسل العمل القضائيّ، وكأن القضاة هم كتّاب رواية واحدة، متمكّنين من بناء تنظيم قضائيّ متراتب ومتجانس.
لذلك؛ يعتقد دوركين أنّه ثمّة شرطان محدّدان لقبول تفسيرات صادرة عن ممارسات قضائيّة بعينها دون غيرها، هما:
الشّرط الأوّل: يجب ألّا يكون وفيًّا للممارسات الموجودة.
الشّرط الثّاني: يجب أن يكشف - أيضًا - عن المعنى أو القيمة.
يصبح القضاة بتبنّي مثل هذا المنهج – كما هرقل - قضاة مثاليّون يمتلكون موهبة المهارة والمعرفة، وصبرًا ما فوق بشريّ لإيجاد تفسير جيّد يقودهم إلى الاعتراف بأنّ أحد الطّرفين له حقّ يقينيّ في كسب الدّعوى، حتّى في الحالات القانونيّة الصّعبة، لهذا؛ يؤسّس دوركين نظريّته القانونيّة على تصوّر ليبراليّ للمساواة، متّبعًا في ذلك رولز، لكنّه يقبل - بخلاف رولز - بأنّ معاملة مساوتيّة يمكن أن تقتضي الأخذ بعين الاعتبار قيم الأخلاق السّياسيّة القائمة على حجج براغماتيّة وواقعيّة، وهذا ما يميّز تبريراته المتعلّقة بشأن المواقف السّياسيّة.
القانون:
بتحليل نظريّته القانونيّة "إمبراطوريّة القانون" يدافع دوركين عن نزاهة القانون الّذي يتّفق - حسب رأيه - مع أفضل وصف وتبرير للمبادئ القانونيّة"فحين يسلّط الضوء على فضيلة النّزاهة السياسيّة؛ فهو يطمح للقطع - بطريقتين - مع الفلاسفة التّعاقديّين، متجاهلًا في ذلك المنظّرين الكبار للعقد، وتتطلّب النزاهة أن يكون الفعل السّياسيّ منسجمًا، ومستندًا - من حيث المبدأ - على ضمان الحقوق الفرديّة ووحدة القانون.
"فمبدأ نزاهة المداولات يوصي القضاة بتحديد الحقوق والواجبات القانونيّة - قدر الإمكان - مع افتراض أنّهم - جميعًا - أثر خالق واحد، وأنّهم يمثّلون المجتمع في شخصه، وأنّهم تعبير عن تصوّر متماسك للعدالة والإنصاف (...)".
حسب قانون النزاهة؛ فإنّ الأطروحات القانونيّة صحيحة، إذا كانت تظهر في مبادئ العدالة
والإنصاف، أو في إجراء ضمان محاكمة عادلة تحمل التّفسير الأكثر بنائية للممارسة القانونيّة الجماعيّة، أو ما إذا كانت مستمدّة من هذه المبادئ"
إنّ النّزاهة لا تعني - فقط - توحيد القواعد القانونيّة في نسق حقيقيّ من القانون؛ إنّما تتطلّب - أيضًا - دمج الأفراد في مجتمع سياسيّ حقيقيّ، بهذا المعنى، يدافع دوركين عن تصوّر أخويّ للمجتمع، يدعو إلى إعادة تعريف الالتزامات السّياسيّة، فالاندماج لا يعني فضيلة ميتافيزيقيّة، لكنّ المثل الأعلى للأخوّة الّتي من خلالها تعدّ المسؤوليّة الجماعيّة ككلّ، تسبق مسؤوليّة القادة المعتبرة بشكل فرديّ، وإذا كانت المؤسّسة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة تميل - صراحة - إلى الوضعيّة التي أسسها هارت في مفهومه للقانون، موجّهًا جهده نحو تقديم وصف عامّ للظّاهرة القانونيّة؛ فإنّ الأمر بالنّسبة إلى دوركين يبدو على خلاف ذلك؛ إذ يعدّ خطأ الوضعيّة متأتّ من نزوعها إلى التّمييز الجذريّ للأخلاق عن القانون، وممّا يعزّز هذا التّأكيد في الوضعيّة: التّمييز الصارم بين خطاب وصفيّ يتعلّق بالوقائع، وخطاب توجيهيّ يحمل القيم الأخلاقيّة.
هذا الاختلاف في الطّبيعة يدين الهوس الوضعيّ للتّجريب والاختبار التّحقيقيّ؛ فهذا يُفحَص على حساب إعادة تشكيل المسألة القانونيّة، بالتّالي، لا يسعنا أن نميّز الأسئلة حول القانون، كما هو عن الأسئلة حول القانون كما يجب أن يكون؛ فالاعتبارات الوصفيّة والتّوجيهيّة ضرورة مرتبطة بطبيعة التّفسير لمفهوم الحقّ والقانون.
هذه البنية تخصّ المسار الجديد المفتوح من قبل دوركين في كتابه الشّهير الّذي صنع شهرته: "أخذ الحقوق على محمل الجدّ"، ويمدد دوركين هذه الفرضيّة النّظريّة بمنح الفرق بين القواعد والمبادئ الأساسية دورًا مهمًّا، وقد بنى حوله جهازًا إثباتيًّا يسمح بالعودة إلى الظّاهرة القانونيّة في مجملها، هذه هي المهمّة الّتي يقوم بها دوركين في كتابين من أعماله الرّئيسة؛ "مسألة مبدأ"، و"إمبراطوريّة القانون"، تكمل - هذه المهمّة - عمله النّظريّ، ثم يسعى إلى عرض الاعتراضات الّتي أثارها الوضعيّون ضدّ نظريّته وتطويرها، وتفريع الآثار الأوليّة لنظريته في تفسير القانون، فانطلاقًا من مختلف المفاهيم الّتي أبدعها؛ يبحث دوركين في نموذج الإكراهات الّتي تفرض على القضاة ومفسّري القانون.
يبدو دوركين - انطلاقًا من "إمبراطوريّة القانون" - ملزمًا بتطبيق نظريّته في القانون، ومقارنة المبادئ المنصوص عليها من قبل القضاة، لتسليط الضوء على تلك الّتي - في الواقع - هي أساس النّظم القانونيّة.
لقد قاده هذا الطّريق إلى الحوار مع الفلسفة السياسيّة، خاصّة، مع نظريّات العدالة، مؤكّدًا وموسّعًا تصوّرًا محدّدًا لحقوق الإنسان.
لقد أظهر دوركين - منذ بدايته الفلسفيّة - قلقًا سياسيًّا إزاء واقع سياسيّ مأزوم نتيجة افتقاده للشّرعيّة الأخلاقيّة؛ فنظريّته في القانون مؤسّسة على عدم الفصل بين الأحكام الوصفيّة والتّوجيهيّة، ملتمسًا ضمنيّات أخلاقيّة ملموسة من نظريّته في القانون، والتّأكيد على مبادئ في صميم النّظم القانونيّة انطلاقًا من أمثلة الأنجلوسكسونيّة، متماثلة مع فلسفة سياسيّة أصليّة يسمّيها اللّيبراليّة المساوتيّة، مبديًا التزامه السّياسيّ بالدّفاع عن حقوق الإنسان وحمايتها؛ حيث نتذكّر نقده الحادّ للمحاكم العسكريّة، والطّبيعة الاستثنائيّة لسجن غوانتنامو، لتناقضه مع القواعد الأساسيّة للمحاكمة العادلة، أو - أيضًا - إثارة الحقوق الاجتماعيّة كمسكّن ضروريّ لعدم المساواة العرضيّة في الحياة، مقدّمًا برنامجًا في الضّمان الاجتماعيّ، هذه البرامج النّظريّة والسّياسيّة لدوركين أثارت ردود أفعال سواء بين العقيدة الأنجلوسكسونيّة أو خارجها، مثل أيّ فكر يسعى إلى تنظيم مجاله والبحث عن التّموقع في الحياة العامّة.
لقد اعترضت دوركين ردود فعل مختلفة بعضها سلبيّة والبعض الآخر إيجابيّة؛ حيث تمثّلت ردود الفعل الإيجابيّة في تشجيع دوركين على استخدام منهج العقلانيّة العمليّة، والدّفاع عن الخبرة القانونيّة وحماية القانون، أمّا ردود الفعل السّلبيّة؛ فهي تعترض وتدحض هذه الحجج وهذا التّمشّي، وأول خصومه كانوا من الوضعيين، من هنا؛ نفهم مهاجمة دوركين لكتاب هارت، وسعيه إلى إبطال الفرضيّة الأساسيّة للوضعيّة القائمة على ضرورة التّمييز الجذريّ للمعرفة القيميّة عن معرفة الوقائع، كما يثير دوركين معارضة قويّة داخل تيّارات واقعيّة أو ذات نفس سوسيولوجيّ، تنطلق من تحليل للحقوق من حيث علاقات القوّة.
وفي السّياق نفسه؛ يلقي عليه بعض الفلاسفة السّياسيّين اللّوم، بسبب دفاعه عن ليبراليّة مساواتيّة على أساس حماية قضائية واسعة للحقوق، غير أنّه، مهما تكن الانتقادات الموجّهة ضدّ النّظريّة الحقوقيّة والقانونيّة الدّوركينيّة؛ فإنّه لا يمكن نكران فضله في تأسيس نظريّة فلسفيّة في الحقوق والسّياسة العمليّة؛ حيث إنّه كثيرًا ما يستشهد بها من قبل المدافعين عن أشكال العقلانيّة التّطبيقيّة، ويرى فيها هؤلاء منهجًا وطريقة في التّفسير يمكن أن تمثّل شكلًا من أشكال العقلانيّة القصديّة المتميّزة عن العقلانية المعرفيّة الخالصة، الّتي كثيرًا ما وقع تبنّيها من قبل الفاعلين القانونيّين والجهات القانونيّة، خاصّة، القضاة الّذين يبحثون عن توصيف لممارساتهم الخاصّة في عرض الحقّ في أفضل حالاته.
كلمة “جماعاتية Communitarianism” عبارة عن تسمية تم إدراجها من قبل أخرين لوصف النقاش الذي تمخض عن بعض الانتقادات التي وُجّهت إلى الليبرالية سواء من قبلي أو من قبل أخرين.
الجماعاتية تقترح أن القيم السائدة في أية جماعة معطاة وفي أي زمن معطى هي قيم عادلة، و طريقة التفكير في العدالة هي النظر في الآراء التي تصدرها الأغلبية في أية جماعة خاصة، وفي أي وقت معطى، وإطلاق اسم “العدالة” عليها، و “الجماعاتية” تقترح الأغلبوية أو نوعا معينا من النسبية الأخلاقية.
إذا كانت الليبرالية نظرية تحيل الى الفردانية ونظرية الحقوق الخاصة، فان الفرد في العالم المعاش لا يجد نفسه متفردا بدون سياق اجتماعي يحتضنه، ومن هنا سؤال البعد الاجتماعي لليبرالية، وسؤال الأولوية بين الفرد والجماعة.فإذا كان اليمين الليبرالي يقول بأولوية الفرد على المجتمع انطلاقا من القول بأولوية الحرية على المساواة، كان اليساريون و يحاولون التوفيق بين الفرد وسياقه الاجتماعي عبر تقديم قيمة المساواة عن الحرية أو مزاوجتهما، فان التيار اليبرالي يقول بأهمية السياق الاجتماعي في حياة الأفراد يفرض نفسه، يتقدم فيه المجتمع عن الفرد، من حيث أنه يحتضنه مشكلا إطاره الفكري والتصوري العام ، هذا التيار وإن كان ليبرالي المرجعية فانه يقول بأولوية وأهمية المجتمع، وينطلق من فكرة أن الفرد الليبرالي وحقوقه الفردية لا يمكن أن توجد إلا في اطار مجتمع ليبرالي، وهذا التيار يسمى بالجماعاتية أو المجتمعية(Communautarisme.)
الجماعاتية هي"فلسفة سياسية تأخذ في اعتبارها ضروريات الاعتراف الاخلاقي والقانوني للجماعات
".وفيها تبرز عدة أسماءفكرية بارزة والزر، تايلور، الكسندر ماكنتاير
فإذا كان والزر لا يقر بصريح انتماءه الى توجه معين، فان أفكاره يمكن أن تدراجها في تيار الجماعاتية، وذلك نظرا لانها لا تتمثل خارج اطار العدالة الاجتماعية، وقد كان من أهم ما طرحه والزر في فلسفة العدالة: نظرية المساواة المعقدة ونظرية الحرب العادلة._ العدالة المجتمعية
يرفض والزر المقاربة الليبرالية القائلة بالفردانية والكونية سواء في شكلها الكلاسيكي أوكما قال بهاجون رولز أو كما تراها النظرية الليبرتارية في سياقها التاريخي فبالنسبة لمايكل والزر لا يمكن الحديث عن العدالة خار-الاجتماعي، من هنا يوجه نقده لنظرية رولز في العدالة، حيث ينتقد الخلفية الغير تاريخية و"الطابع التجريدي لبناء رولز ويرى غياب العلاقة بينه وبين الحقيقة الفعلية لجماعة إنسانية ما .
في هذا السياق يرفض والزر تماما فكرة العقد الاجتماعي التي تحيل الى تخيل حالة مبدئية مجردة عن الوضع الأصلي للبشرية، يمكن من خلاله تحديد مبادئ العدالة بإرادية وعقلانية، فالطابع الفرضي المجرد الذي يستند لمسلمة الطبيعة الذرية والعقلانية لتاريخي لبشر لا يقوم على أي أساس فكرة الطبيعة .
وبالتالي فان الخلفية ووعي القيمي للفرد يتشكل داخل الاطار الاجتماعي، هذا ما يقود
الاطار الجماعاتي الرافض للمايكل وازلر الى تبني الطروحات الليبرالية لمرجعية القيم الفردية، حيث أنه"لا يمكن ان يوجد مجتمع عادل مادام المجتمع غير موجود
_ من هنا يقترب والزر من التصور النفعي ويبتعد عن التصور الكوني الليبرالي.
_ تنفي بعض النظريات الجماعاتية المعاصرة مثلما هو الحال عند مايكل والزر فكرة الارادة الفردية، حيث تركز على تجذر القيم والأفكار داخل مرجعية تقاليد أو قيم مجتمعية موجودة سلفا، ومن هنا تظهر أهمية المرجعية الاجتماعية في كل نقاش حول العدالة ميتافيزيقية عن العدالة وهذا ما يحيل الى رفض كل الأسس، حيث أن العدالة باعتبارها نتاجا مجتمعيا، تخضع الى منطق الصيرورة التاريخية وتغيراتها، أي بمعنى أنها تخضع لسنن التغير والنسبية والتعدد. فبسبب تعدد المجتمعات وإختلاف العادات والتقاليد والمرجعيات، فانه يستحيل فعليا إيجاد معيار عدالة كونية تستند مطلقة الى أسس إنسانية مطلقة.
_تقود النزعة الجماعاتية والزر الى تصور محافظ عن قضية الهجرة.حيث يبدو متحفظا حيال موجات تدفق المهاجرين الأجانب ، ويدعو إلى تقييدها وقنونتها بما يخدم مصالح المجتمع المستضيف، فبالنسبة له فإن موجات هجرة غير محسوبة قد تشكل خطرا على المجتمع المستضيف ذاته ورفاهية أفراده المنتمين ، لذا فإنه يعطي حق التصرف في قبول المهاجرين منعدمه الى القرار السيادي للمجتمع والدولة الراعية له ، وإلا فإنه"لن تكون هنالك جماعات لها طبيعة البعض وشعور تجاه بعضه رابط حمي خصوصية تتصف بالاستقرار التاريخي ، تشتمل على رجال ونسوة تربطه بالانتماء.
أي ان على كل دولة ان تحدد استراتيجياتها الخاصة في ما يخص قبول المهاجرين الأجانب، وبهذا فانه
الكونية ويقول بالخصوصية التي هي خاصة التصورات الجماعاتية بامتياز يقطع مع طرح.
اذا كانت العدالة لا تحدد مرجعية مطلقة وفق أسس مشروعيتها تؤسس، فان الحل بحسب والزر يكمن في رعايتها والسهر على تطبيقها عبر المؤسسة الراعية للمجتمع، أي الكيان السياسي أو الدولة فوالزر من المدافعين الصريحين عن تدخل الدولة في حماية المنظومة القيمية للمجتمع، وهو بهذا يبتعد عند مبدأ الحياد الليبرالي، الذي يرفض أي تدخل للدولة في الحياة الخاصة والاجتماعية للأفراد فهو اذا يقف ضد كل من الليبراتريين والفوضويين مدافعا عن تدخل تدعمه الدولة أكثر لصالح العدالة الاجتماعية، ضد الفقر، ومن أجل المساواة
_ في هذا السياق يرى بأنه لا يمكن وجود مجتمعات فردانية حرة بدون عمليات مجتمعية وثقافة للفردانية ونظام سياسي يحمي كل هذا.
يرفض والزر أن تكون العدالة عبارة عن منظومة مطلقة تمثل بنية واحدة، فالعدالة بالنسبة له ليست مبدأ ميتافيزيقيا قبليا، بل انها قيم بعدية تتحقق في علاقتها مع محيطها الخارجي، من هنا لم تعد العدالة كلا واحدا، بل أصبحت طبيعتها متنوعة ومتعددة بحسب الحقول والمجالات التي تشتغل فيها وبها، ان وجود عدة حقول أو عدة دوائر للعدالة يقتضي اذا وجود عدة معايير، حيث يختلف المعيار باختلاف الحقل، باعتبار هاته الحقول مختلفة ومتشابكة في ما بينها داخل النسيج الاجتماعي، "ينتهي والزر الى تعدد دوائر العدالة وهي دوائر يحكمها الصراع والتنافي، وتنظر الى المقومات الاجتماعية على أنها مقومات غير متجانسة فيما بينها، و بمعنى آخر لا توجد نظرية نمطية في العدالة صالحة لكل مجالات الحياة الاجتماعية.فكل مجال من هاته المجالات يمثل حقلا قيميا خاصا تحكمه معيارية عدالة خاصة به.فالسياسة لها معيارها الخاص المتمثل في المصلحة، في حين أن السوق له معياره الخاص المتمثل في العرض والطلب، والتعليم معياره الكفاءة والأسرة لها معيارها الخاص وهكذا... ان وجود حقول للعدالة، يفضي الى القول بأن"كل واحد منها له طريقته الخاصة في التوزيع، حيث يمكن أن يتشكل شعور باللاعدالة حينما يهيمن مجال على مجال آخر. مثلا حين يهيمن معيار السوق على كافة المجالات الاخرى في الدولة، بحيث يلغي كافة المعايير الاخرى، خاضعة كلها لمنطق العرض فتصبح السياسة والأسرة والتعليم فان ذلك يفضي بنا الى حالة اللاعدالة وطغيان معيار مجال معين على بقية المجالات.
_ يفرق والزر بين المساواة البسيطة على ما تمثلها المقاربة الليبرالية النمطية القائمة على واحدية معيار العدالة، وبين المساواة المعقدة على ما تمثله مقاربته في العدالة.فيدافع والزر عن مساواة معقدة من حيث"أنها ليست مساواة في كل مجال، بل هي نوع من التوازن .
_ من هنا يصل والزر الى تعريف للطغيان يحيله الى الهيمنة والاحتكار،حيث أن الطغيان يعني أن
يستعمل الفرد السلطة التي حصل عليها منأحد المجالات ويفرضها على المجالات الأخرى.وتعريف الطغيان عنده يقارب هنا تعريف بليز باسكال
_ان القول بحقول العدالة وتعدد معاييرها، اضافة للإطار الاجتماعي التاريخي لبلورة أفكار العدالة، يحيل الى نظرية معقدة المحددات حول العدالة، يبلورها مايكل والزر تحت مسمى"المساواة المعقدة."ويظهر منها مبدئيا دفاعه عن التعددية القيمية، وإمكان الاختلاف الثقافي والحضاري.لكن اذا كان نقد والزر لأفكار الكونية الليبرالية يمتد الى اليمين واليسار الليبرالي، فان نقده لليبرالية السياسية ذات الصفة الكونية والمجردة.
_نظرية الحرب العادلة
يعتبر والزر أهم من تكلم عن مفهوم"الحرب العدالة"في الفلسفة السياسية الراهنة، لكن باعتبار والزر منظرا
لنظرية المساواة المعقدة وما تجسده من خلفية جماعاتية تدع تصورا عن التعددية القيمية والثقافية والنزعة النسبية، فان
السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تتلائم نظرية"الحرب العادلة"التي تستلزم معيارا ثابتا ومطلقا عن العدالة، مع التعددية المعيارية والقيمية التي يدعو اليها والزر في أفكاره عن العدالة السياسية والاجتماعية.
الحرب العادلة بما هي مفهوم اخلاقي ذو بعد كوني،رلا تشمل فقط المعيارية القيمية لكل مجتمع على حدة،بل هي تمتد لتشمل محددات اخلاقيات المجتمع الدولي أحد اهبعامة،حيث يحيل الخوض فيها الى اشكالية عويصة داخل بنية فكر مايكل والز ذاته، أي جدل الخصوصية والكونية .فوالزر يسيرعلى"النهج نفسه الذي سار عليه مفكري الحرب العادلة في العصور الوسطى والعصر الحديث، وتقليد الحرب العادلة عنده هو مجموعة من مبادئ والمعايير الأخلاقية التي تحدد الوسائل والغايات بالنسبة لاستخدام العنف من جانب الدولة. وهذه المبادئ والمعايير الأخلاقية مُلزِّمة، كما ان المفهوم عن الحرب العادلة يحيل الى مفارقة وعدم تناسق في داخل أفكار والزر عن العدالة ذاتها. لتجاوز هاته المفارقة يلجأ والزر الى العدالة المجالية، من الخلفية الجماعاتية لأفكاره ومرجعيتها الاجتماعية، فبالرغم فإن النقطة التي تسوغ أفكاره هنا، وما يساعده على إيجاد حل نظري لهذه المفارقة هي مقولة"العدالة المجالية"،حيث أن لكل مجال طبيعته الخاصة من أفكار العدالة، فالعدالة في المجتمع لها محدداتها الخاصة، والعدالة في الحرب بالمثل.
عموما يحاول والزر أن يقترح حلا توفيقيا بين عدالة المجتمع وعدالة الحرب، حيث أن"حقوق الأفراد بالنسبة إلى والزر تعد قيما أساسية تنبع مما يدعوها لأخلاقيات المُجملة التي تشترك فيها مع ما يدعوه
الأخلاقيات المفصلة. أي المبادئ الأخلاقية الخاصة بكل مجتمع على حدة.وهذه الأخلاقيات المُجملة مشتركة بين كل المجتمعات الانسانية، أي أنها ذات إجماع مُتداخل بين التقاليد الأخلاقية.
يرفض والزر المقاربة السلمية لمذهب المسالمة(pacifisme)،حيث يقبل ظاهرة الحرب لكن بشرط ان تخضع للمعايير الأخلاقية.فيقترح في هذا السياق عدة ضوابط أخلاقية لشن الحروب، تجعل منها تشرعن فقط وفق حالتين ألا وهما التدخل الانساني و"الحرب الاستباقية" كما أن الممارسة الحربية يجب ان تخضع لمجموعة من الضوابط والأخلاقية السلوكية، من شأنها أن تجعل من الحرب أمرا مقبولا وخاضعا لمعيارية الأخلاق والعدالة.
وتنطلق النسوية من فكرة أن أفكار العدالة في شكلها المتعارف عليه تستند الى رؤية قيمية صاغتها الفلسفة الكلاسيكية التي تهيمن عليها الصبغة الذكوررية، ترى كثير من النسويات أن المبادئ الفلسفية التي صيغت تحت تأثير حصري من العقليات والمصالح الذكورية، غير قادرة على معرفة احتياجات المرأة بطريقة مناسبة
حيث أن مجمل القيم الناتجة عنها هيمنة الذكر متحيزة لتكريس الذكورةعلى حساب الأنوثة بطريقة أو بأخرى، وهو ما يشكل مدى فكريا شاملا ومخيالا جمعيا ومحكوما بمسلمات ذات طبيعة ذكورية، تشكل في مجملها ما يعرف ب"الثقافة الأبوية"، وهذه الأخيرة هي ذاتها المسؤولة عن تهميش المرأة ودورها في المجتمع، كما أنها مسؤولة أيضاعن منح الامتيازات للذكر على حساب الأنثى، بحيث يمارس الذكر الوصاية على الأنثى، وهو ما يفسر فارق الانجازات والامتيازات والقدرات بين الذكر والأنثى، التي تتشكل بعديا وقبليا حتى أن مقاربات النسوية الجذرية ترد كل الفوارق بين الذكر والأنثى لأسباب ثقافية بحتة، فهي ترفض بهذا تعريف العدالة كما هو متعارف عليها،لا بل تعتبره تهميشا لدور المرأة، لهذا تقترح الدراسات النسوية أن تبدأ العدالة أولا من فحص إشكالية المساواة بين الجنسين.
_تدعو النسوية في أشكالها الأكثر جذرية إلى نظرية ما يعرف ب"التمييز الايجابي"،القائل ب"ضرورة تدخل الدولة في الحياة الاجتماعية وذلك لحماية المرأة من ممارسات إجتماعية غير ليبرالية، كما يجب ضرورة ممارسة الدولة التمييز لصالح المرأة، لتعويضها عن التمييز والقهر قرونا طويلة، ولتحقيق التوازن مع الرجل في المجتمع.ويشمل التمييز من وجهة نظرها سياسات دعم المرأة عبر منحها امتيازات للتوظيف،و"نظام المحاصصة في المناصب العامة، بحيث تكون هذه الممارسات مؤقتة حتى تتحقق المساواة الفعلية بينالرجال والنساء.
اذا كانت النسوية تتفق بشكل واسع مع الرؤية الليبرالية، بالخصوص مع اليسار الليبرالي الذي يقول بأولية قيمة المساواة، فإنها من جهة أخرى تنتقد وجهات نظر الليبرالية الكلاسيكية، حيث ترى كثير من النسويات أن المشكل يكمن في المبادئ المغلوطة منذ البداية، فالمنظرون الكلاسيكيون سواء تعلق الأمر باليساريين أو اليمينيين متحيزون جنسيا، للمساواة محكوم بتصور تبعية المرأة للرجل وأن تصوره
_ إن التنظيرات الليبرالية الكلاسيكية التي تؤس للفصل بين الخاص والعام، تستند الى مقدمات مغلوطة عن علاقة الرجل والمرأة في هذا المجال الغير قابل لحسابات القيمة الأخلاقية، .البنى الثقافية القبلية والأسرة بهذا المعنى وفق تصورات النظريات النسوية تغدو البنية الأولى لتشكل علاقات الهيمنة واللامساواة بين الذكر والأنثى داخل النسيج الاجتماعي، وهذا ما يتجلى أيما تجل في نظريات العقد
الاجتماعي، التي تهمل تماما بنى العدالة داخل الاسرة، مثلما يظهر عند رواد النظرية في عصر التنوير وحتى عند جون رولز بصيغة أخف، لهذا فإن الرهان يتحول مع الرؤية النسوية نحو تسليط الضوء على محددات العدالة داخل الأسرة، نظام الكوتا أو المحاصصة يعني تخصيص مجموعة معينة من الحصص لفئة معينة، بهدف ضمان نوع التوازن والانصاف في التوزيع، بحيث تكون القسمة مؤطرة قبليا وفق مخطط هذه الحصص، مثل تخصيص عدد مقاعد معين ان تشغله نساء في البرلمان او المجلس، ويسمى أيضا بنظام المحاصصة النسائية الذي يهدف الى فرض حضور المرأة في محيط معادي لهن وفق الشروط العادية.
أن غاية العدالة في النظريات النسوية هي بالعموم تحقيق المساواة ،وذلك عبر القضاء على أشكال التفاوت النوعي بين الجنسين.
_العدالة الاجتماعية عند نانسي فرايزر تعتبر المفكرة الأمريكية نانسي فرايزر احدى أكثر الوجوه الفكرية التي يمكن تصنيفها في التيار النسوي تأثيرا وإنتاجا في الساحة الفلسفية.فلها اهتمامات خاصة بالعدالة، حيث وجهت أبحاثها نحو البحث في اشكالية العدالة وتأثيراتها
في حياة الانسان الراهنة، كما أن أعمالها الفكرية تعتبر مقاربة نقدية لنظريات اليمين الليبرالي وخصوصا النيوليبرالية.
كذلك فقد قامت بدراسات وافية تنتقد فيها أعمال كبار فلاسفة ومفكري المدرسة النقدية الألمانية وعلى رأسهم أكسل هونيث و يورغن هابرماس. كمنظرة نسوية منخرطة في اليسار الليبرالي، فان مفهوم العدالة عند فرايزر يحيل ضرورة الى تصورالمساواة كقيمة أولية للعدالة الاجتماعية، فترفض فرايزر مسلمة
_الحياد الأخلاقي للدولة التي يدعو اليها أنصار اليمين الليبرالي، وترى بأن هذا الحياد المزعوم في النظرية الليبرالية يخفي وراءه أشكال من اللامساواة والهيمنة المسكوت عنها في مسلمات النظرية الليبرالية.فطبيعة تصور العلاقات الاسرية ومحددات سوق العمل بين الرجل والمرأة في المقاربة الليبرالية، تؤسس لتفاوت جذري بين الجنسين، كما أنه حتى دعوات الليبرالية الجديدة المتأثرة بصعود خطاب الحقوق النسوي، تؤسس
الى تسليع المرأة وشكل مخفي من التفاوت بدلا أن تحقق المساواة المرجوة، هنا تعيب فرايزر على بعض التوجهات النسوية سذاجتها وغفلتها التي دفعتها الى التحالف مع الليبرالية الجديدة، وهو ما جعلها تفرط في حقوقها طوعا، لأشكال جديدة من التفاوت تحت دعوى الحصول على امتيازات زائفة تؤس.
فرايزر تتفق مع جون راولز _الذي بدوره له عدة تقاطعات مع التوجهات النسوية_في دعواها إلى إقرار العدالة الاجتماعية، لكن هذا الأمر يضعها من جهة أخرى في صدام نقدي مع أه دعاة نظريات العدالة الاجتماعية
حيث ترى في هذا إقصاء لعديد الفئات المهمشة تاريخيا وعلى.مفهوم كبديل تدعو لتأسيس مفهوم جديد قادر على استيعاب الفئات المهمشة والمستبعدة فالعدالة بحسبها لا تتحقق فقط بتحقيق توزيع
اقتصادي عادل يكون بمثابة سياسية عادلة جدلية الصراع من أجل الاعتراف لا يمكن تصورها خارج سياق الانوثة حيث ترى فرايزر أن منظور هونيث للعدالة هو منظور أحادي البعد
فالاعتراف هو علاج للمظالم لإنسانية في ذاتها.
_فالتصور الشمولي للاعتراف عند هونيث هو ما يجعله يحصركل القيم في براديغم الاعتراف ويهمل جوانب أخرى من المقاربة القيمية.حيث"أن براديغم الاعتراف هذا صار براديغم سياسي فحسب، و بإمكانه مجابهة باقي الإشكالات الأخرى القائمة خارج أفق السياسة، ضمن مسار الحياة العامة للمجتمعات الغربية المعاصرة
".وهذا التنميط والاختزال هو وجه القصور في مقاربة الاعتراف عند هونيث من وجهة نظر فرايزر، والتي تقترح أن يحصل الجميع على الحق في البحث عن الاعتراف في شروط توفر فرصا مساوية بين الجميع، وهذا الذي لا يحدث في منظومات تأويل مؤسسة تحط بطريقة دائمة من حضور الأنوثة واللون الغير الأبيض والمثلية الجنسية، كل ما يمثلها ثقافيا ومن هنا فمن الأفضل ان يكون الاعتراف أحد قضايا العدالة، من أن يكون كافيا في ذاته للتعبير عنها.
إذن فبحسب فرايزر فان التنظير لمفهوم صائب عن العدالة الاجتماعية، يتطلب أولا معالجة سياقات تبلور اللاعدالة، والتي تراها تنشأ في مجالين رئيسين:
_الأول هو لاعدالة التوزيع، حيث أن توزيع الموارد الاقتصادية يمثل عاملا رئيسيا في تولد اللاعدالة داخل المجتمع ومعالجته تتطلب مقاربات في عدالة التوزيع كما يقترحها جون رولز.
_الثاني هو لاعدالة الاعتراف، حيث أن التهميش وغياب الاعتراف واستبعاد فئات معينة لأسباب جنسية أو عرقية أو عقائدية، يمثل اه محددات اللاعدالة الثقافية، كما تضيف شرطا هو المشاركة السياسية
_ثالثا حيث تربط المشاركة السياسية حتى يشمل كل الفئات المهمشة العدالة بتحقيق مبدأ المساواة.
تربط نانسي فرايزر تحقق العدالة الاجتماعية بتحققها في ثلاثة سياقات رئيسية :الثقافية والاقتصادية والسياسية.
ومقاربة العدالة عند فرايزر هي ما تجعلها تذهب إلى البحث في خطابات الاحتياجات والعوائق المعرفية والأخلاقية المتصلة به من أجل العثورعلى حل ولتنصف هؤلاءالذين يعانون التهميش والتمييزالعنصري داخل فضاء المجتمعات الرأسمالية المتأخرة، وهو ما يجعلها تتبنى الدفاع عن قضايا من قبيل النسوية والمثلية الجنسية وغيرها.
_نظرية أخلاق العناية
يعد مفهوم"أخلاق العناية" مفهوما حديثا في الفكر الراهن وهو أحد المفاهيم النظرية التي أنتجتها
التنظيرات النسوية الراهنة الذي يرجع بأصوله الى أعمال منظرات النسوية الامريكان المعاصرات، على رأسه خوان تورنتو، كارول جيليغانو، صاحبة فكرة التفريق بين نمطين من الأخلاق أخلاق العدالة ذات الطبع الذكوري، وأخلاق العناية فهي ذات الطبيعة الأنثوية.على خطى جيليغان توافق خوان ترونتو على فكرة وجود نمطي الأخلاق هذان كما نظرت لهما جيليغان، لكنها تخالفها في رفض أن يكون كل نمط أخلاقي خاص بجنس معين، فالذكور أيضا يشملهم نمط أخلاق العناية، كما ترى بأن استبعاد المرأة من الحياة العامة لفترات طويلة عبر التاريخ هو المفسر الفعلي لافتقادها لحس متطور عن أخلاق العدالة.
"ان عمر أخلاق العناية هو عقود قليلة فقط، وبعض المنظرين لا يحب تسمية هذا الاتجاه في معالجة القضايا الأخلاقية بلفظة عناية، وحاولوا استبداله بلفظة أخلاق المحبة أو الأخلاق العلائقية، ولكن المناقشة
تعود باستمرار للعناية بوصفها حتى الآن أكثر التسميات التي أخذت بعين الاعتبار، على الرغم من أن البعض يبقى غير راض عنها، ولمفهوم العناية ميزة عدم إهمال العمل المتعلق بالعناية بالناس، وعدم السماح بتفسير الأخلاق على أنها شيء مثالي وغير عملي، قد يقدم بعض منظري أخلاق العناية أفكاره على أنها مناقضة ل"اخلاق العدالة، كما يظهر عند كارول جيليغان لكن بشكل أو بآخر فان أخلاق العناية هي مقاربة في العدالة بمفهومها الواسع.
_مقاربة العدالة المجردة فعلى عكس ذلك فان نظرية أخلاق العناية تعمد على ادخال الاخلاق و الجوانب العاطفية في عملية التقييم ،وهو ما كانت الأخلاق الكلاسيكية تعمد على تجتنبه سابقا، انطلاقا من التصور الذي يفصل بين العدالة والعاطفة، حيث ترفض أخلاق العناية رأي النظريات الأخلاقية السائدة التي تقول: كلما إزداد التفكير في المشكلة الأخلاقية تجريدا إزدادت صحته، لأنه كلما إزداد امكان تجنب الانحياز والعشوائية اقتربنا من النزاهة ، فمع أخلاق العناية تصبح الانفعالات
العاطفية مكونا أساسيا من مكونات القيم الأخلاقية، وليست نقيضا لها.
تمثل أخلاق العناية بهذا نقدا جذريا لمقاربة العدالة التجريدية ،من حيث أنها تتعلق بحالات جزئية متفردة، بدلا من القوالب الكلية النظرية كما يظهر في مقولات الأخلاق التقليدية، فأخلاق العناية هي أخلاقيات للمعاش اليومي، وهي بهذا تمثل قطيعة مع التصورات الأخلاقية الكلية. أخلاق العدالة في تصورها الأخلاقي سواء في شكلها النفعي أو المثالي،َ تعلق الأمر بمرجعية عقلانية أو دينية، تشترك في سمة مميزة هي أنها تعمد فصل القيمة الاخلاقية عن الانفعال العاطفي _تهدف مقاربة أخلاق العناية أولا الى كسر نمطية ثنائية العام والخاص في الليبرالية، التي تدرج الاسرة الاسرة في المجال الخاص الخارج عن حقل معيارية العدالة و بالتالي خارج امكانية تدخل الفعل السياسي ، كما بينت الحركة كيف أن القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية العظيمة للرجال نظمت هذا الاطار الخاص من غير مصلحة للنساء والأطفال وكيف جعلت النساء غالبا تابعات للرجال وخاضعات لتقسيم ظالم جدا للعمل في الأسرة
_ ترفض نظرية أخلاق العناية التصور الفرداني الليبرالي للذات البشرية، من حيث أنه تصور للذات الانسانية في امتدادها الذري المبعثر والأناني.فتصور أخلاق العناية للذات البشرية لا يمكن فصله عن السياقات العلائقية بين البشر في أبعاده العائلية والاجتماعية والسياسية، حيث أن هذه العلاقات تفترض وجود نوع من المسؤولية والعناية بين الأنا والآخر، وهو ما يخرج عن مسلمات التصور الليبرالي الكلاسيكي عن الذات البشرية.
تقول نظرية أخلاق العناية بأولوية العناية في منظومة القيم ، فالعناية تسبق العدالة، لأنها أكثر أهمية، حيث يمكن للبشر أن يعيشوا بدون عدالة، لكن لا يمكنهم ان يعيشوا بدون عناية، .فلولا العناية لما تمكن الرضيع من النشوء والترعر ولقيمة العناية أهمية جوهرية بالنسبة لكل أشكال الحياة، فهي توجد حتى عند الحيوانات التي قد تفتقر لاي حس أخلاقي لكنها تجد نفسها مجبولة على العناية بصغارها بحكم الغريزة فالعناية هي المبدأ الوحيد الذي يكسر قسوة الحياة ووحشيتها، وهذا ما يستوجب جعل العناية قيمة جوهرية في النظرية الأخلاقية بحسب منظري أخلاق العناية. لقد تطورت أخلاق العناية في السنوات الأخيرة الماضية بوصفها بديلا واعدا عن الاتجاهات الأخلاقية السائدة التي طرحت خلال القرنين الماضيين، فهي تغيرالطرق المعتادة في تفسير المشاكل الأخلاقية وتغيرأيضا رؤية الكثيرين لما يجب أنتكون عليه المقاربة المفضلة لمعالجة المشاكل الأخلاقية.