2. آثار العقد من حيث الموضوع ( تحديد مضمون العقد

ذكرنا أن العقد الصحيح يرتب التزامات متبادلة يقع على أطرافه تنفيذها، و كل طرف متعاقد لا يلتزم إلا بما ورد في العقد، غير أن تحديد نطاق العقد قد يحتاج في كثير من الأحيان إلى تفسير عباراته التي لا تكون واضحة دائما، فإذا تم تفسير الألفاظ تحدد النطاق الذي يلتزم فيه الأطراف.

المطلب الأول: تفسير العقد

لا تثور مسألة التفسير إلا عند حصول نزاع بين أطراف العقد حول تنفيذه، و لذلك يجب تحديد معناه حتى يسهل تنفيذ كل متعاقد لالتزاماته، و عادة ما تسبق التفسير عملية أخرى تسمى التكييف و الذي يقصد منه استخلاص الطبيعة القانونية للاتفاق المبرم بين الطرفين أو هو إعطاء الوصف القانوني الصحيح للآثار الأساسية التي يهدف المتعاقدان إلى تحقيقها من اتفاقهما.

و الأصل في تفسير العقد أنه لا يجب تحديد معناه بما يريده أحد الأطراف، وغنما بناء على ما اتجهت إليه إرادتهما المشتركة، هذه الإرادة التي يتم استخلاصها عن طريق تحليل و تأويل عبارات العقد فضلا عن الظروف و الملابسات التي تزامنت مع انعقاده.

هذه العباؤات التي يتضمنها العقد قد تكون واضحة الدلالة على مقصود أصحابها فلا يجد القاضي صعوبة في تفسيرها، بل الأصل أن لا يثور نزاع بشأنها نظرا لوضوحها، كما قد تكون العبارات غامضة و غير دالة دلالة كافية عما قصده و ابتغاه الأطراف، فتحتاج إلى تفسير، كما أن العقد قد يكون بين طرفين غير متكافئين من ناحية القوة الاقتصادية فيفرض أحدهما شروطه الجائرة و التعسفية على الطرف الآخر و هو ما يعرف بعقود الإذعان. لذلك سنتناول موضوع تفسير العقد في ثلاث فقرات.

أولا: حالة وضوح عبارات العقد: في هذه الحالة لا يجوز للقاضي الانحراف عن هذا المضمون الواضح، و ذلك عملا بأحكام المادة 111 ق م ج التي نصت على أنه: " إذا كانت عبارات العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها عن طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين." و يعبر بعض الفقهاء على هذه الحالة بوضوح الإرادة، بمعنى أن إرادة الأطراف واضحة و في غير حاجة إلى تفسير أو تأويل عباراتها، و هو أمر يعكس مبدأ سلطان الإرادة. و بهذا نجد أن المشرع قد اعتمد مذهب الإرادة الظاهرة للحفاظ على استقرار المعاملات و المراكز القانونية.

ثانيا: تفسير العبارات الغامضة أو المبهمة: في هذه الحالة يكون التفسير أكثر أهمية و دقة في تحديد مضمون العقد و بالتالي التزامات كل طرف، إذ يجب على القاضي أن ينتهي إلى توضيح و تفسير المعنى وصولا إلى ما قصده المتعاقدان حقيقة، و هو ما قضت به المادة 111 ف 2 ق م ج بنصها " أما إذا كان هناك محل لتأويل العقد، فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل، و بما ينبغي أن يتوافر من أمانة و ثقة بين المتعاقدين، وفقا للعرف الجاري في المعاملات."

فهذا النص يحدد هدفا لتفسير عبارات العقد و هو البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين، إذ لا يجوز للقاضي البحث في نية أحد الطرفين دون الآخر، كما لا يجوز له البحث في نية كل طرف على حدى، بل الواجب أن يبحث عن النية المشتركة التي قصد تحقيقها كلا طرفي العقد معا.

و بعد تحديد الهدف من طرف المشرع، قام هذا الأخير بوضع ضوابط يلتزم القاضي باحترامها و هو بصدد تفسير العبارات الغامضة للعقد، و تتمثل هذه الضوابط فيما يلي:

1.عدم الالتزام بحرفية الألفاظ: إذ يجب تغليب المعنى على المبنى أي المضمون على الحرفية، و بهذا فعدم تقيد القاضي بحرفية الألفاظ هو نتيجة منطقية للحاجة للتفسير بسبب غموض لابس العقد.

فأطراف العقد و بحكم افتقادهم لثقافة قانونية كافية و عدم إتقانهم للمصطلحات القانونية قد يستخدمون ألفاظ تناقض ما قصدوه من إبرام العقد، و هنا يبدو ضروريا البحث في النية المشتركة بعيدا عما يبدو من ظاهر العبارات.

2.الاسترشاد بطبيعة التعامل: قد يتضمن العقد عبارات تتناقض فيما بينها في المعنى، و لا يكون واضحا مقصد الطرفين من وضعها، و في هذه الحالة يستعين القاضي في التفسير بطبيعة المعاملة، بمعنى أن يفسر هذه العبارات بما يتفق مع طبيعة العقد، لأن الأقرب إلى المنطق و المعقول أن يظل العقد محكوما بقواعده العامة، ما لم ينص صراحة في جزئية من جزئياته على استبعاد تلك القواعد.

3.إعمال الكلام خير من إهماله: قد يحتمل العقد بعض العبارات التي تحتمل عدة معاني، فإذا كان بعض هذه المعاني لا ينتج أثرا في التعاقد بين الطرفين، فإنه يتعين استبعاد هذا المعنى غير المنتج، و معنى ذلك وجوب حمل العبارات العقدية على المعنى الجاد و ليس على محمل اللغو في الكلام، ذلك أن المتعاقد العاقل لما يضع بندا في العقد فإنه يقصد من ورائه ترتيب أثر قانوني معين، و مثال ذلك إذا تضمن العقد معنى يتفق مع كون العقد صحيح و معنى يجعله باطلا وجب ترجيح المعنى الذي يحافظ على صحة العقد و عدم بطلانه.

4.تفسير بنود القد بعضها في ضوء البعض الآخر: و معنى ذلك أن البند الغامض يفسر في ضوء البنود الأخرى، بمعنى أنه لا يجوز عزل عبارة عن باقي العبارات الأخرى، بل يجب تفسيرها باعتبارها جزءا من كل و هو العقد. فقد تكون العبارة مطلقة و لكن تحددها عبارة سابقة أو لاحقة، أو قد تكون العبارة أصلا و لكن يرد عليها استثناء قبلها أو بعدها، و مثال ذلك أن يتضمن عقد البيع بندا يقضي بأن العقار المبيع خال من الارتفاقات ثم تظهر عبارة أخرى في العقد تنص على أن البائع لا يضمن إلا أفعاله الشخصية، فهنا ينبغي تفسير العبارتين على ضوء بعضهما البعض بمعنى أن العبارة الثانية قد خصصت العبارة الأولى، فيكون البائع غير ضامن إلا للارتفاقات التي يعلمها دون تلك التي قد يكون رتبها أسلافه.

5.تفسير العقد وفقا لمقتضى حسن النية و الأمانة الواجبة: يعد حسن النية و الأمانة من المبادئ الرئيسية التي تهيمن على تنفيذ العقود في العصر الحالي، و هو ما يعني الالتزام بهذه المبادئ عند تفسير العبارات الغتمضة في العقود، و بالتالي يجب على المحكمة إلغاء كل تفسير مبني على سوء النية و الغش و التضليل، و أن تأخذ بما تمليه الثقة المشروعة في المعاملات.

 6.تفسير العبارات وفقا لما يقتضيه عرف التعامل: و هو ما أشارت إليه المادة 111 ق م ج ضمن وسائل التفسير الأخرى، و يحتل العرف مكانة واضحة في بعض صور المعاملات خاصة في نطاق العقود التجارية، فهو يفسر ما كان مبهما من عبارات العقد، بل إنه أيضا يكمل النقص في المسائل التي يسكت المتعاقدان عن تنظيمها، بل إنه يكمل النقص عن المسائل التي سكت المتعاقدان عن إدراجها.

و لكن القاضي لا يرجع إلى العرف إلا إذا لم يجد في نصوص القانون ما يفسر أو يكمل العقد، أو كانت شروط العقد لا تسعفه في استظهار مقصد المتعاقدين، أو كانت بنوده مبهمة في هذا الخصوص.

8.تفسير الشك لمصلحة المدين: نصت المادة 112 ق م ج على أنه " يفسر الشك لمصلحة المدين. و مع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضارا بمصلحة الطرف المذعن."

 و بالتالي نجد أن النص المذكور جاء بالقاعدة العامة و هي أن الشك يفسر لمصلحة المدين على أساس أنه هو من يتحمل عبئ الالتزام، و الأصل في الإنسان براءة الذمة و مخالفة الأصل غير جائز التوسع فيها، و من ناحية أخرى فإن الداءن هو من يتحمل عبئ الإثبات، فإن قام شك في حدود هذا الحق و عجز صاحب هذا الحق عن إثبات ما يزيل هذا الشك بقي الحال لمصلحة المدين. و من ناحية ثالثة فإن الدائن و هو الذي يملي عادة صيغة الالتزام عليه تحمل مغبة ما قد يشوبه من شك.

و من تطبيقات ذلك أنه لو قام شك حول استحقاق فوائد الدين وجب ترجيح عدم استحقاقها، و إذا قام شك حول مبدأ استحقاق التعويض الاتفاقي و هل هو عن التأخير في التنفيذ أو عدم التنفيذ وجب ترجيح المعنى الأخير.