2. المطلب الثــاني : أهميـــة مبــــدأ شرعية الجرائم والعقوبات


لهذا المبدأ أهمية كبيرة سواء على الصعيد الدولي أو الدستوري أو الإقليمي أوالعملي .

1-  الأهمية الدوليـــة:
نرى أن هناك كثير من الاتفاقيات و البروتوكولات أكدت على أهمية هذا المبدأ ،
كما جاء في المادة الثانية الفقرة الثالثة في البروتوكول رقم 4 لاتفاقية حقوق الإنسان الصادر في 16 تشرين الثاني عام 1963:
(( لا يجوز وضع قيود على ممارسة هذه الحقوق غير تلك التي تطابق القانون و تقضيها الضرورة في مجتمع ديمقراطي لمصلحة الأمن القومي أو الأمن العام , للمحافظة على النظام العام أو منع الجريمة أو حماية الصحة و الأخلاق أو حماية حقوق و حريات الآخرين )).
كما جاء في إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر عام 1789 الذي أصدرته الجمعية التأسيسية : (( لا يجوز اتهام أحد أو توقيفه إلا في الأحوال المنصوص عليها في القانون و بحسب المراسيم المحددة فيه)) .
2 -  الأهمية الدستــورية.
لهذا المبدأ قيمة كبيرة حيث أن الدول تعتبره من المبادئ الأساسية و تنص عليه في دساتيرها . في سوريا تبنى المشروع السوري هذا المبدأ في دساتيرها المتعاقبة التي مرت على القطر العربي السوري , حيث ورد في المادة العاشرة في دستور عام 1950, و المادة الثامنة من الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة الصادر 15 آذار 1958 و المادتين 27و 38 من الدستور السوري المؤقت لعام 1969 و كرس أخيرا في الدستور الصادر عام 1973 فنصت المادة 29 منه على أنه : ( لا جريمـة ولا عقـوبة بلا نص قانـوني ).

أما في مصر عندما صدر الدستور في عام 1923 قرر هذه القاعدة صراحة في المادة السادسة منه ( لا جريمة ولا عقوبة غلا بناء على قانون ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليه ) . كما جاء في المادة الثامنة من الدستور اللبناني :
(لا يمكن تحديد الجرائم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى قانون )
3-  الأهمية الإقليمية :
نرى أن هناك كثير من الاتفاقيات و البروتوكولات أكدت على أهمية هذا المبدأ , فقد جاء في المادة الثانية في الفقرة الأولى من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان :
( حق كل إنسان في الحياة يحميه القانون ولا يجوز إعدام أي إنسان عمدا إلا تنفيذا حكم قضائي بإدانته في جريمة يقضي فيها القانون بتوقيع هذه العقوبة ).
و قد جاء في المادة السابعة الفقرة الأولى منه :
( لا يجوز إدانة أي شخص بسبب ارتكابه فعلا أو الامتناع عن فعل لم يكن يعتبر وقت وقوع الفعل أو الامتناع جريمة في القانون الوطني أو القانون الدولي ولا يجوز توقيع عقوبات أشد من تلك المقررة وقت ارتكاب الجريمة ).
و قد جاء في الفقرة الثانية : ( لا تخل هذه المادة بمحاكمة أو عقوبة أي شخص بسبب ارتكابه فعلا أو امتناعه عن فعل يعتبر وقت فعله أو الامتناع عن فعله جريمة وفقا للمبادئ العامة لقانون في الأمم المتحضرة ) .
4 -  الأهمية العملية :
لهذا المبدأ أهمية كبيرة من الناحية العملية للأسباب التالية :
1- يعد من أسس الحرية الفردية أي صمام الأمان للحريات الفردية ويضمن حقوق الأفراد بحيث يحدد الجرائم ويحدد العقوبات المقررة لها بشكل واضح حتى لا يترك ثغرات في القانون ويكون وسيلة تسلط بيد القضاة وبالتالي القاضي لا يستطيع الحكم بالإدانة إلا إذا وجد في القانون سنداً على الجريمة والعقوبة فهو لا يملك أن ينشئ جريمة من أمر لم يرد نص قانوني بتجريمه مهما رأى فيه من الخطورة على حقوق الأفراد أو مصالح الجماعة فهو يرسم حداً فاصلاً بين المشروع وغير المشروع بحيث يكون الأفراد أحراراً في إتيان الأفعال المشروعة وإن كانت ضارة وبالتالي السلطات العامة لا تستطيع ملاحقة هذا الشخص لأنه غير مسؤول جزائياً .

2- يعطي العقوبة أساس قانوني بحيث يجعلها مقبولة من قبل الرأي العام كونه توضع في سبيل المصلحة العامة بحيث يطبق على جميع الأشخاص الذين تتوافر فيهم الشروط المنصوص عليه في هذا النص دون التميز بينهم .
3- الدور الوقائي للقانون وهذا الدور يتمثل بأن يكون الفرد على علم بالأفعال التي تعد جريمة والأفعال الغير مجرمة بحيث يمكن أن نعتبر القانون بمثابة إنذار مسبق للأفراد بعدم اقتراف الأفعال المنصوص عليه وهذا يجعل الأفراد أقرب إلى الامتثال من العصيان
4- يحمي جميع الأفراد في المجتمع المجرمين وغير المجرمين بحيث يحمي المجرم من نفسه بأن لا يقترف جريمة عقوبتها أشد من الجريمة المرتكبة وتحمي غير المجرمين من الأفعال التي قد يرتكبها المجرم .
قبل أن ندخل في مصادر التجريم والعقاب لابد لنا من التساؤل
هل تدخل التدابير الاحترازية في نطاق مبدأ الشرعية :
على الرغم من أن المشرع يستهدف من التدابير الاحترازية الوقاية الاجتماعية لا الجزاء وهو مجرد إجراء علاجي يستفيد منه المحكوم عليه ، فلا يمكن تجريد التدابير الاحترازية من الإيلام وإن كان غير مقصود ، فبعض التدابير الاحترازية تصل إلى حد سلب الحرية ولذلك يجب على الشارع أن يحدد التدابير ويحدد ماهية كل منها حتى لا يكون وسيلة استغلال بيد القضاة ، ولكن التدابير لا يطبق بالصورة الجامدة التي عرفناها في نصوص التجريم والعقاب ، وذلك لأن المشرع ينص على التدابير الاحترازية دون أن يقرر تدبير محدد لكل جريمة وإنما يترك للقاضي الحرية في أن يختار من بين التدابير التي نص عليها الشارع ما يكون مناسباً للجرم .
ونقول بأن التدابير الاحترازية تدخل في مبدأ الشرعية بحيث لا يستطيع القاضي أن يحكم بغير التدابير المنصوص عليه في القانون .
لهذا المبدأ دعائم يستند عليها هذا المبدأ وهذه الدعائم هي :

أولا : نظرية فصل السلطات :
نتيجة لتسلط القضاة في الأحكام في القرن الثامن عشر ظهر مبدأ فصل السلطات التي نادى بها مونتسيكو و مقتضى هذا المبدأ أنه :
يوجد سلطات ثلاثة في الدولة السلطة التشريعية- التنفيذية- القضائية , و كل سلطة لها اختصاصات محددة لا يجوز لها تجاوزها فالسلطة التشريعية مختصة بسن القوانين و منها النصوص الجزائية التي تجرم الأفعال و تحدد العقوبة له أما السلطة القضائية تعهد بتطبيق هذه القوانين و بالتالي القاضي لا يستطيع أن يجرم فعل غير منصوص عليه و لو اقتنع بأن الفعل منافي لعدالة لأن ذلك يعتبر تدخلا في اختصاص السلطة التشريعية وهذا لا يجوز طبقا لمبدأ فصل السلطات .

ثانيا : الدعامة المنطقية :

ترجع إلى تنديد الفقهاء والفلاسفة بتحكم القضاة وقناعتهم الأكيدة بأنه لا يمكن تقيد السلطة المطلقة للقضاة إلا بوضع نصوص مكتوبة محددة في القانون تنص على الأفعال المجرمة والعقوبات المقررة لها . وبالتالي السماح للأفراد بإتيان الأفعال التي لم ينص القانون على تجريمها ، والامتناع عن الأفعال المجرمة بنص القانون وهذا ما نادى به المحامي الإيطالي " بيكاريا " في كتابه المشهور " الجرائم والعقوبات " ونادى بيكاريا بحرمان القاضي من تفسير هذه النصوص ووجوب تطبيقها حرفياً بحيث لا يستطيع القاضي التشديد أو التخفيض أي تجريد القاضي من أية سلطة تقديرية .
ثالثا : الدعامة السياسية :

ترجع إلى نظرية العقد الاجتماعي الذي نادى به الفيلسوف " جان جاك روسو " والتي مقتضاها أنه يوجد عقد ضمني بين الدولة والأفراد حيث يتنازل الأفراد بموجب هذا العقد عن جزء من الحرية الممنوحة لهم لصالح الدولة مقابل أن تقوم الدولة بتوفير الحماية لهم واعتمدت هذه النظرية على العقد الاجتماعي كأساس لتحديد حق الدولة في العقاب فقالوا بأن العقوبة هي جماع حقوق الأفراد في الدفاع عن أشخاصهم وأموالهم التي نزلوا عنها للمجتمع وبالتالي المساواة بين الناس في العقاب لأن كل فرد نزل للمجتمع عن قدر من الحقوق معادل ومساوي لما نزل عنه غيره وهذه المساواة تقتضي وجود قانون يحدد الأفعال المجرمة ويحدد العقوبة المقررة لهذه الأفعال بحيث يكون للعقوبة أساس قانوني ويجعله مقبولة من قبل جميع الأفراد كونها ثمرة اتفاق جماعي وتوقع في سبيل المصلحة العامة والعليا للمجتمع وبالتالي يضمن للعقوبة خصائصها لتكون عادلة وعامة التطبيق على جميع الناس ومجردة من القسوة .

النقد :
على الرغم من أهمية هذا المبدأ والقيمة الحقيقية له إلا أنه لم يسلم من النقد :
1) ذهب البعض بأنها قاعدة جامدة ورجعية أما الجامدة لأنه لا يستطيع مواكبة التطورات والمستجدات التي تطرأ على المجتمع بحيث تظهر أفعال جديدة مخلة بأمن ونظام المجتمع ولم ينص القانون على تجريمه , و يزداد هذا الأمر صعوبة في العصر الحديث حيث خلفت الحضارة الإنسانية المتشعبة و الحياة الاجتماعية المتشابكة أنواعا مختلفة من أنماط السلوك البشري سريعة التغيير و التجدد بحيث لا يمكن مواجهته بجمود النصوص و ثباته ولكن يمكننا الرد عليهم بأن المشكلة ليست من النص القانوني و إنما المشكلة من السلطة التشريعية التي تنص القوانين بحيث تتقاعس احيانا عن صدور القوانين لمواجهة المستجدات إلا أننا نستطيع التغلب على هذه المشكلة بوجود سلطة تشريعية يقظة و تزويده بجميع الوسائل التي تتمكن من خلاله من ملاحقة الصور الإجرامية المستحدثة .
أما القول بأنها رجعية لأنه يفرض الجريمة ككيان قانوني متجراً من شخص المجرم بحيث يحدد العقوبة في كل جريمة حسب الأضرار المادية المترتبة عليه لا وفق الخطورة الكامنة في شخص المجرم مثلاً في جريمة السرقة يفرض العقوبة بنفس القدر دون أن يراعي الظروف المحيطة بالمجرم ( فالشخص الذي يقدم على السرقة بدافع الفقر هو أقل خطورة عن الشخص الذي يقدم عليه بدافع حسب المال والجشع ) .
لذلك نادو بضرورة تقسيم المجرمين بدلاً من تقسيم الجرائم فليس المهم هي الجريمة كواقعة مادية وإنما المهم هو المتهم الذي هو محور الدعوى الجنائية ولذلك نجد أن المشرع رجعت عن نظام العقوبات المحددة إلى نظام تفريد العقوبة حيث أعطى القاضي سلطة تقديرية واسعة نوعاً ما في هذا الشأن بحيث حدد في بعض الجرائم حدين للعقوبة ( حد أدنى – حد أعلى ) وترك للقاضي سلطة اختيار العقوبة الملائمة ضمن هذين الحدين حسب شخصية المتهم والظروف المحيطة بالجريمة كما حدد لبعض الجرائم عدة عقوبات وترك الحرية للقاضي باختيار العقوبة المناسبة لشخص كل مجرم .
ولكن سلطة القاضي في هذا الشأن ليست مطلقة لأن القانون هو الذي يحدد حدود الملائمة ويجب على القاضي مراعاة هذه الحدود وبالتالي لا يوجد تعارض بين تفريد العقاب ومبدأ الشرعية . كما يمكن الرد عليهم بأن السلطة الواسعة قاضي صحيح تجعله قادرا على فهم شخصية المجرم و علاجها إلا أن هذه السلطة قد تساء استخدامها ومن المستحسن أن ينوع المشرع العقوبات و التدابير لكل جرعة و أن يمنح القاضي سلطة تقديرية لكي يختار من بينها ما يلاءم شخصية المجرم .
2) وذهب الآخرون إلى أن هذا المبدأ لا يوفر الحماية الكاملة للأفراد ضد الأفعال الجديرة في ذاتها بالتجريم كونها قاصرة عن الإحاطة بجميع الأفعال المخلة بالأمن والاستقرار في المجتمع ، ونزع أية سلطة تقديرية للقاضي في معاقبة العابثين بالأمن والنظام بحجة عدم وجود نص يجرم هذا الفعل سواء تعلق بالسلوك الفردي أو بالسلوك الجماعي .
فيما يتعلق بالسلوك الفردي فكثيراً ما تقع من الأفراد أفعال مخلة بالنظام ومنافية للأخلاق لا تجرمها الكثير من القوانين فمن يتناول طعاماً في مكان خاص كالمطاعم والمقاهي ثم يمتنع عن دفع ثمن الطعام ففعله هذا لا يقل خطورة عن السرقة ومع ذلك فإن الكثير من القوانين لا تنص على تجريمها .
أما فيما يتعلق بالسلوك الاجتماعي : فالمشرع ليس في وسعه حصر جميع الأفعال الضارة والمخلة بالنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة .
الرد : إن المشرع يستطيع أن يستعمل في نصوص التجريم والعقاب عبارات بحيث يحقق التوازن بين مصلحة المجتمع وحقوق الأفراد فلا تكون هذه العبارات ضيقة بحيث يطبقه القاضي حرفياً ولا واسعاً بحيث يستغل القاضي هذه النقطة ويجرم أفعال لم ينص عليه القانون وبالتالي إهدار حقوق الأفراد ، كما يمكننا القول بأن الاستقرار القانوني يعلو على حماية المصالح المشتركة ، فإذا تبين للمشرع أن فعلاً ما منافي للنظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي بادر إلى تجريمه بنص .