1. المطلب الأول : مدلول مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات


يعني هذا المبدأ أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني
أي مصدر الصفة غير المشروعة للفعل هو نص القانون ويقال لهذا النص " نص التجريم " وهو في نظر القانون الجزائي يشمل قانون العقوبات والقوانين المكملة له والقوانين الجزائية الخاصة .
وبالتالي يحدد في كل نص الشروط التي يتطلبها في الفعل كي يخضع لهذا النص ويستمد منه الصفة غير المشروعة ويحدد العقوبة المقررة لهذا الفعل وبالتالي فان القاضي لا يستطيع أن يعتبر فعلاً معنياً جريمة إلا إذا وجد نصاً يجرم هذا الفعل فإذا لم يجد مثل هذا النص فلا سبيل إلى اعتبار الفعل جريمة ولو اقتنع بأنه مناقض للعدالة أو الأخلاق أو الدين .
و أساس هذا المبدأ هو حماية الفرد و ضمان حقوقه و حريته و ذلك بمنع السلطات العامة من اتخاذ أي إجراء بحقه ما لم يكن قد ارتكب فعلا ينص القانون عليه و فرض على مرتكبيه عقوبة جزائية
المطلب الثاني : تاريخ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات

في العصور القديمة لم تكن هذه القاعدة معروفة حيث كانت العقوبات تحكمية وكان في وسع القضاة أن يجرم أفعال لم ينص القانون عليها ويفرضوا العقوبة التي يرونها كما كانوا يرجعون إلى العرف لتجريم بعض الأفعال وتقرير العقوبة لها .
وإن كان هناك بعض مؤرخي القانون الجزائي يقولون بأن مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات عرفت لأول مرة في القانون الروماني في العهد الجمهوري بدليل وجوده عند فقيهي الرومان ( أولبيانوس ) و ( بولس ) أما العهد الإمبراطوري فلم تكن هذه القاعدة معروفة لأن القانون الروماني في هذا العهد كان يعطي للقاضي سلطة تقديرية واسعة في التجريم و العقاب .

وهذه القاعدة ترجع بذورها الأولى إلى الشريعة الإسلامية أي ترجع إلى مدة تزيد على أربعة عشر قرناً فمن القواعد الأصولية في الشريعة الإسلامية أنه :
" لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورد النص " أي أن أفعال المكلف المسؤول لا يمكن وصفها بأنها محرمة مادام لم يرد نص بتحريمها ولا حرج على المكلف أن يفعلها أو يتركها حتى ينص على تحريمها ونفهم من ذلك بأنه لا يمكن اعتبار فعل أو ترك جريمة إلا بنص صريح يحرم الفعل أو الترك فإذا لم يرد نص يحرم الفعل أو الترك فلا مسؤولية ولا عقاب على فاعل أو تارك . والمعنى الذي يستخلص من هذا الكلام هو أن قواعد الشريعة الإسلامية تقضي بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وهذه القاعدة في الشريعة لا تتنافى مع العقل والمنطق و تستند مباشرة على نصوص صريحة في هذا المعنى ومنها :
قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً )
وقوله تعالى : ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوى عليهم آياته)
و قوله تعالى : ( و إن من أمة إلا خلا فيها نذير ) .
وغيرها من النصوص قاطعة بأنه لا جريمة إلا بعد بيان ولا عقوبة إلا بعد إنذار ، وطبقوا هذه القاعدة على الجرائم ولكنهم لم يطبقونه تطبقا واحدا في كل الجرائم حيث طبقوه تطبيقا دقيقا في جرائم الحدود و القصاص بخلاف جرائم التعازير فلم يطبقونه بتلك الصورة والسبب في ذلك أن المصلحة العامة وطبيعة التعازير تقتضي ذلك . وبهذا تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية التي لم تعرف هذه القاعدة إلا في عام 1216 في إنكلترا و إن كان هذا المبدأ غير معمول به في انكلترا بالمفهوم المعروف به في الحقوق اللاتينية . ففي انكلترا لا يوجد دستور مكتوب ولا قانون عقوبات مكتوب وبإمكان القاضي أن يعتبر أي سلوك لا اجتماعي جريمة و لكن المشرع بدأ منذ أوائل هذا القرن بسن قوانين جزائية خاصة مثل ( قانون القتل –قانون السرقة ) و بالتالي حد من سلطة القاضي في خلق جرائم جديدة.
إلا أن النشأة الحقيقة لهذا المبدأ في القوانين الوضعية كان في القرن الثامن عشر حيث ظهر نتيجة للانتقادات الشديدة من قبل الفلاسفة والفقهاء لتسلط القضاة وتحكمهم في الأحكام حيث كان القضاة متأثرين بالنواحي الخلقية والدينية فكان أحكامهم يخلط بين الجريمة الجنائية والمعصية الدينية والرذيلة الخلقية فظهر هذا المبدأ بصورة واضحة في الولايات المتحدة الأمريكية وظهر في إعلان الحقوق عام 1774 وقد عرف هذا المبدأ في قانون العقوبات النمساوي الصادر عام 1787 إلا أنه أعلن لأول مرة بعد قيام الثورة الفرنسية في شرعية حقوق الإنسان عام 1789 ثم نص عليه القانون الفرنسي عام 1810 ثم انتقلت هذه القاعدة إلى غيره من التشريعات الوضعية ثم أخذت به الدساتير و القوانين في العالم ثم أخذت به الأمم المتحدة في البيان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول 1948 كما جاء في المادة السادسة من قانون العقوبات اللبناني :
( لا يقضي بأي عقوبة لم ينص القانون عليها حين اقتران الجرم ) .
أما في التشريع المصري لم تكن هذه القاعدة معروفة قبل سنة 1883 وفي هذا العام نص المشرع عليها ضمناً في المادة 18 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية وفي المادة 19 من قانون العقوبات الصادر سنة 1883 ولما صدر الدستور في عام 1923 قرر هذه القاعدة
في المادة ( 6 ) منه : (( لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها))
وبالتالي لا يشترط صدورها بقانون وإنما يكفي أن يصدر بناء على قانون ليشمل حالات التي يفوض الشارع فيها السلطة التنفيذية في تحديد الجرائم وتقرير العقوبات .
أما المشرع السوري فقد تبناها في القوانين المتعاقبة و جاء في المادة العاشرة من دستور عام 1950 و المادة الثامنة من الدستور المؤقت لجمهورية العربية المتحدة الصادر في 15 آذار 1958 في عام 1969 جاء في الدستور السوري المؤقت في المادتين 27-38 و كرس أخيرا في دستور الجمهورية العربية السورية المعلن في 12 آذار عام 1973 فنصت المادة 29 منه على أنه( ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني) )
كما جاء في المادة الأولى منه : ( ( لا تفرض عقوبة ولا تدبير احترازي أو إصلاحي من أجل فعل لم يكن القانون قد نص عيه حين اقترافه ) )
و نظمت المواد من (1-5 ) من العقوبات قواعد قانونية الجرائم والمواد ( 6-11 ) قانونية العقوبات و المواد (12-14 ) قواعد قانونية التدابير الاحترازية و التدابير الصلاحية.