3. المطلب الثاني: مبادئ القانون الدولي الإنساني

على الرغم من أن القانون الدولي الإنساني قانون كباقي القوانين الدولية، إلا أنه ينفرد في عمله بمبادئ معينة يستند إليها، وينفرد بسمات خاصة تميزه عن غيره من القوانين الدولية، ومن هذه المبادئ :
أولاً- مبدأ الإنسانية:
يقضي مبدأ الإنسانية أن تكون الشخصية الإنسانية محل اعتبار دائم وفي كل الظروف، وبما يفيد تمتع الكائن الإنساني بالحماية هذه وبمعزل عن أي اعتبار أخر اجتماعي، أو سياسي، أو اقتصادي، أو ديني أو عسكري، فهذا المبدأ بطبيعته محايد لا يقيم وزناً لهذه الاعتبارات، ويتجاهل أي تمييز مبني على أساس العنصر، أو الجنس، أو العرق، أو العقيدة .
وقد نصت على هذا المبدأ (المواد المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 المواد 12/12/12/13 ، في الفقرة الثانية) بالقول " .... على أطراف النزاع الذين يكونون تحت سلطته أن يعاملهم معاملة إنسانية، وأن يعنى بهم، ويحظر بشدة أي اعتداء على حياتهم أو استعمال العنف معهم، ويجب على الأخص عدم قتلهم، أو إبادتهم، أو تعريضهم للتعذيب، أو للتجارب الخاصة بعلم الحياة، أو تركهم عمداً دون علاج أو رعاية طبية، أو خلق ظروف تعرضهم لمخاطر العدوى بالأمراض، أو تلوث الجروح.
2- تقرر الأولوية في نظام العلاج على أساس الدواعي الطبية العاجلة وحدها، وتعامل النساء بكل الاعتبار الواجب لجنسهن" .
كما تضمن النظام الأساسي للجنة الدولية للصليب الأحمر النص على هذا المبدأ، حيث أشار إلى أن اللجنة تستند في عملها إلى مبدأ الإنسانية، وهذا المبدأ يعد قاعدة قانونية وأخلاقية، وقاعدة مؤسسية تربط جميع عناصر العمل الجماعي ورسالة اللجنة الدولية للصليب الأحمر .
واستناداً لما تقدم فإن القانون الدولي الإنساني يطبق على جميع الناس بصرف النظر عن جنسهم، أو جنسيتهم، أو لونهم، أو عرقهم، أو معتقداتهم، أو انتماءاتهم الثقافية أو الأثنية في المناطق والبؤر التي تشهد صراعات مسلحة.
ثانياً- مبدأ الضرورة العسكرية:
ويقصد بهذا المبدأ امتناع أطراف النزاع عن القيام بأعمال عسكرية لا تبررها ضرورة، أو الإفراط في القيام بهذه الأعمال دون مبرر، أو انتهاك الحرمات والاعتداء على الأعيان المدنية وتكريساً لما تقدم نصت (الفقرة الثانية من المادة 54 من البروتكول الإضافي الملحق باتفاقيات جنيف المعقودة في 12/8/1949) والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة الدولية على أنه "يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها، والمحاصيل، والماشية، ومرافق مياه الشرب، وشبكاتها، وأشغال الري إذا تحدد القصد من ذلك في منعها عن السكان المدنيين أو الخصم، لقيمتها الحيوية مهما كان الباعث سواء كان بقصد تجويع المدنيين، أم لحملهم على النزوح أم لأي باعث أخر"، ثم جاءت الفقرة الخامسة لتنص على السماح بذلك الفعل في حدود معينة لضرورة عسكرية ملحة حيث نصت على أنه "يسمح مراعاة للمتطلبات الحيوية لأي طرف في النزاع، من أجل الدفاع عن إقليمه الوطني ضد الغزو، بأن يضرب طرف النزاع صفحاً عن الخطر الوارد في الفقرة الثانية في نطاق مثل ذلك الإقليم الخاضع لسيطرته إذا أملت ذلك ضرورة عسكرية ملحة".
ثالثاً- مبدأ التمييز:
تنص المادة 48 من البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 على أنه "تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية دون غيرها، وذلك من أجل تأمين احترام وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية"، ويقصد بالأهداف العسكرية وفقاً لنص المادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 ".... الأهداف التي تسهم مساهمة فعالة في العمل العسكري سواء كان ذلك بطبيعتها، أو بموقعها، أو بغايتها، أو باستخدامها، والتي يحقق تدميرها التام، أو الجزئي، أو الاستيلاء عليها، أو تعطيلها في الظروف السائدة حينذاك ميزة عسكرية أكيدة".
ويقضي مبدأ التمييز تحريم استخدام أي سلاح عشوائي الأثر، و يلحق بالبيئة أضراراً بالغة وطويلة الأمد.
رابعاً- مبدأ التناسب:
يقصد بمبدأ التناسب وجوب عدم تجاوز الأعمال العسكرية للمتطلبات الكفيلة بتحقيق الهدف العسكري المنشود، وهو تدمير أو إضعاف القوة العسكرية للعدو، وألا يلحق المتحاربون بخصومهم أضراراً لا تتناسب مع الغرض من النزاع المسلح.
ويرى (الدمج، أن مبدأ التناسب يعني "كيفية التعاطي مع الهدف المراد مهاجمته بعد تحديد شرعية هذا الهجوم بفضل مبدأ التمييز، ويحدد مبدأ التناسب الوسيلة، ومستوى التدخل لتحقيق التوازن بين الضرورة العسكرية، والمعاملة الإنسانية، وأن أي خلل في تطبيق هذا المبدأ إنما يعرض مرتكبه لواقع انتهاك القانون تحت عنوان الاستخدام المفرط".
وقد أرسى إعلان بيترسبورغ لسنة 1868 أسس هذا المبدأ في ديباجته التي جاء فيها ".... يجب أن يكون من شأن تقدم المدنية التخفيف بقدر الإمكان من كوارث الحرب، ويجب أن يكون الغرض الشرعي الوحيد الذي تستهدفه الدول أثناء الحرب، هو إضعاف قوات العدو العسكرية" .

كما تكرس هذا المبدأ في المادة 35 من البروتوكول الاضافي الأول لسنة 1977 والتي نصت على: "1- أن حق أطراف النزاع في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس بالحق الذي لا تقيّده قيود.
2- حظر استخدام الأسلحة والقذائف والمواد ووسائل القتال التي من شأنها إحداث إصابات أو آلام لا مبرر لها.
3- يحظر استخدام وسائل وأساليب القتال يقصد بها، أو قد يتوقع منها أن تلحق بالبيئة الطبيعية أضراراً بالغة واسعة الانتشار وطويلة الأمد" .
خامساً- مبدأ المحاكمة العادلة:
وفقاً (للمادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 والمادتين 11 و58 من البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977) فإن الانتهاكات الجسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني ترقى إلى جرائم حرب وتعتبر محرمة دولياً، ويتعين معاقبة فاعلها.
وقد حددت (المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لسنة 1998) الانتهاكات الجسيمة بأنها:
"أ- الانتهاكات الجسيمة وفقاً لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 اّب 1949.
ب- الانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين، والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطاق الثابت للقانون الدولي.
جـ- في حالة وقوع نزاعات مسلحة غير ذات طابع دولي، تعتبر الانتهاكات جسيمة وفقاً للمادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة في 12 اب 1949.
د– الانتهاكات الخطيرة الأخرى لقوانين الحرب والأعراف السارية على المنازعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي، في النطاق الثابت للقانون الدولي".
وتتميز هذه الانتهاكات بما تتخذه الدول من إجراءات عقابية من جهة، والالتزام بالتعاون القضائي، وتسليم المجرمين للدولة المختصة بمحاكمتهم من جهة أخرى، وهذا التزام لا تتحمله أطراف النزاع فقط بل تتحمله كذلك كل الأطراف السامية المتعاقدة، أما الانتهاكات غير الجسيمة فتعتبر أفعالاً غير قانونية تعرض مرتكبها للمسؤولية الفردية، ويجب على الأطراف السامية المتعاقدة اتخاذ إجراءات إدارية أو تأديبية أو جزائية.
ونحن نرى أن المبادئ الخمسة السابق عرضها تشكل أساساً ومنطلقاً للقانون الدولي الإنساني، وأن نجاح هذا القانون في تحقيق أهدافه يتوقف على مدى التزامه بمبادئه، فكلما التزم بمبادئه اقترب من تحقيق أهدافه، وكلما ابتعد عن مبادئه ابتعد عن أهدافه وغاياته وفقد مبررات وجوده وما يتمتع به من احترام في المجتمع الدولي.
أما بالنسبة لعلاقة القانون الدولي الإنساني بالقوانين الأخرى فيمكن إيجازها بما يلي:
أولاً- العلاقة بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العام:
يرى عمر سعد الله أن القانون الدولي العام هو "مجموعة القواعد القانونية المقررة للحقوق، والواجبات بين أعضاء المجتمع الدولي وعلاقة بعضهم ببعض وحماية كرامة الأفراد والشعوب والمحافظة على التعايش السلمي بين الدول وانماء التعاون بينها".
أما الغنيمي فيرى أن القانون الدولي هو "مجموعة المبادئ والقواعد التي تعتبرها الدول المتمدنة ملزمة في علاقاتها المتبادلة".
ويظهر الارتباط بين القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي العام بصورة جلية في نص المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الصادر في 16 ديسمبر1920 الذي نص على أن "مهمة المحكمة هي الفصل في الخلافات المعروضة عليها وفقاً للقانون الدولي وهي تطبق في هذا الشأن:
أ- الاتفاقيات الدولية ب- العرف الدولي جـ- مبادئ القانون العامة د- القرارات القضائية ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام هــ- لا يترتب على هذا النص أي إخلال بصلاحية المحكمة في أن تفصل في القضية استناداً الى مبادئ العدل والإنصاف إذا وافق المتداعون على ذلك" .
ثانياً- العلاقة بين القانون الدولي الانساني، والقانون الدولي لحقوق الانسان: يرى سعد الله عمر أن القانون الدولي لحقوق الانسان "عبارة عن مجموعة القواعد والمبادئ القانونية الدولية، التي تكفل لجميع الأفراد والشعوب التمتع بحقوقهم الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وبالحقوق المدنية والسياسية، وتهدف بصورة مباشرة إلى تحقيق رفاهيتهم".
ويتشابه القانونين في أن كل منهما يسعى إلى حماية حقوق الانسان، ويختلفان من النواحي التالية:
‌أ- قواعد القانون الدولي الإنساني تهدف إلى حماية حقوق الإنسان وممتلكاته أثناء النزاعات المسلحة، في حين أن قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان تمتد إلى حماية حقوق الانسان في زمني السلم والحرب.
‌ب- يتمتع ضحايا النزاعات المسلحة وفقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني بالعديد من الحقوق للتخفيف من آلامهم ومعاناتهم، ومن هذه الحقوق، الحق في الرعاية الصحية، وحق المحتجزين في مراسلة عائلاتهم، أما قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان فتهتم بمسائل حرية التفكير، والعقيدة، وتكوين الجمعيات، والحق في التنمية.
‌ج- قواعد القانون الدولي الإنساني ملزمة لأطراف النزاع، في حين أن قواعد القانون الدولي ملزمة للحكومات في علاقتها بالأفراد بن عمران
ثالثاً- العلاقة بين القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي: يتفق القانونان في أن كل منهما يسعى إلى تأكيد المسؤولية الجنائية الدولية للفرد عن الجرائم التي يرتكبها، والعقاب الذي يجب أن يخضع له عن جرائمه، ويرى شلالدة أن قواعد القانون الدولي الجنائي، تمثل النصوص الإجرائية لقواعد القانون الدولي الإنساني، فهي تحدد إجراءات التقاضي أمام المحاكم الجنائية الدولية، وطرق الطعن في الأحكام القضائية الدولية في حالة الانتهاك الجسيم لقواعد القانون الدولي الإنساني، أما قواعد القانون الدولي الإنساني فتشكل القواعد الموضوعية لقواعد القانون الدولي الجنائي.
رابعاً- العلاقة بين القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي للّاجئين: اللّاجئ هو كل شخص يجد نفسه، أو يكون خارج بلده الأصلي مهدداً بالتعرض للاعتداءات أو للانتهاك لحقوقه الأساسية، بسبب شخصه، أو معتقداته، هذا الشخص لا يستطيع أو لا يرغب بالعودة إلى وطنه لأن حكومة بلده غير قادرة، أو لا تريد حمايته .
ويختلف تطبيق كلاً من هذين القانونين على اللاجئ وفقا للاعتبارات التالية:
- اللاجئ إلى دولة ليست طرفاً في النزاع المسلح، تطبق عليه قواعد القانون الدولي للاجئين.
- اللاجئ الى دولة طرفا في النزاع المسلح، تطبق عليه قواعد القانون الدولي الإنساني وبخاصة اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 المتعلقة بالمدنيين، والمادة 73 من البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 على أساس أنهم أجانب يقيمون في أرض دولة ليست طرفاً في النزاع .
خامساً- العلاقة بين القانون الدولي الإنساني والقوانين الداخلية: يقصد بالقوانين الداخلية، مجموعة القواعد القانونية التي تطبقها الدول على مواطنيها داخل الدولة. وتبرز العلاقة بين القانون الدولي الإنساني، والقوانين الداخلية من خلال ما يلي:
- ترجمة التشريعات الوطنية لأحكام القانون الدولي الإنساني.
- تبني تشريع داخلي مطابق لمعايير القانون الدولي الإنساني.
- إنشاء هيئة وطنية في مجال القانون الدولي الإنساني.
ونحن نرى أن علاقة القانون الدولي الإنساني بغيره من القوانين علاقة وثيقة وجوهرية، على الرغم من وجود فضاء خاص يعمل من خلاله القانون الدولي الإنساني، غير أن علاقته بباقي القوانين هي علاقة تكاملية، يستمد منها الكثير من القوة في عمله، ولا يوجد أي تنافر أو تضاد أو تعارض بينه وبين القوانين الأخرى.

ولمزيد من التوضيح للمبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني، عليك بالاطلاع على الفيديو الموالي.