1. أعلام أفذاذ - مشارقة-

أعلام التصوف العراقي: 

الخراز البغدادي

في منتصف القرن التاسع، في بغداد وكذلك جنوبًا في البَصرة، كان يوجد عدد كبير من الأشخاص الذين يُطلَق عليهم الصوفيون، إلا أن أبا سعيد الخراز كان من أهمِّهم من حيث الشهرة في عصره أو الاقتداء به بعد مماته. 35 ما نعلمه على وجه التأكيد عن حياة الخراز قليلٌ جدٍّا، باستثناء أنه كان كثير الترحال؛ حيث زار مدنًا مقدَّسة مثل القدس ومكة (التي مكَث فيها أحد عشر عامًا)، وكذلك زار مصر ومدينة القيروان الموجودة فيما أصبحَت الآن تونس. ويخبرنا اسمه أنه على الأقل في مرحلةٍ من حياته عمل كإسكافي، وهذا يُشير إلى البيئة الحِرفية الحضَرية التي سنُلاحظ تكرارها بين الصوفيِّين الأوائل الآخَرين. إلا أنَّنا في العموم لا يتوافر لدينا إلا قليل جدٍّا من المعلومات المتعلِّقة بسيرته الذاتية كي يُمكننا الاستعانة بها، ومن ثَمَّ فما من طريقة مُمكنة لوضع الخراز وغيره من شخصيات هذه الفترة المشابهة له في السياق، إلا طريقة خطابية متمثلة في وضع أفكاره وكتاباته وسط الأنماط الأوسع نطاقًا، الخاصة بالجدل وإنتاج الكتب التي شهدنا ظهورها في بغداد في تلك الفترة، لكن مكوَّنةً مِن شيء أشبه « الكتُب » مع الوضع في الاعتبار أننا ما زلنا في فترةٍ كانت فيها تلك بمُلاحظاتٍ مدوَّنة في مخطوطات، وليست كتبًا مخطوطةً باليد مُرتَّبة على نحوٍ رسمي. كان الذي يبدو أنه ألَّفه لنطاقٍ أوسع، وليس لنطاق « كتاب الصِّدق » الكتاب الأساسي للخراز هو مذهبي ضيِّق من القرَّاء، على الرغم من أنه كتب أيضًا عددًا من الأطروحات الأقصَر، أو ما ُعرَف بالرسائل المخصَّصة للمسائل الأكثر تحديدًا وتعقيدًا، وكانت على الأرجح موجَّهةً إلى عدد أقل من القرَّاء الذين يتشابهون معه أكثر في التفكير.

الجُنيد البغدادي:

على النقيض من الخراز والتُّستَري اللذَين سافرا كثيرًا على الرغم من قضاء أكثر فترات حياتهما المهنية نشاطًا في العراق، فقد كان الجُنيد إلى حدٍّ كبيرٍ مواطنًاطويلَ الإقامة في بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية. 46 اشتُهِر الجنيد بلقب الخزاز، وهذا يخبرنا أنه كان يكسب قُوتَه من العمل كتاجر للحرير، وهذا يُشير مرةً أخرى إلى الخلفية الِمهَنية الحضرية. إن دراسته المبكرة للفقه الإسلامي — الذي كان فرعًا معرفيٍّا ناشئًا في ذلك الوقت — جعلته بحقٍّ في قلب الاتجاه الفكري السائد في بغداد في زمنه أكثر من غيره من الشخصيات التي تناولناها. وتتَّضح هذه المؤهلات العلمية مِن عددِ الرسائل التي كتَبها — التي تَزيد عن ثلاثين بحسب إحدى الروايات — ومعرفتِه بالنقاشات الواسعة النِّطاق التي كشفتها. سعى الجنيد مثل الخراز والتُّستَري إلى بناء تعاليمه (واستقائها في واقع الأمر) من المصدرَين أنفسهما اللذَين استُخدِما لوضع قواعد الشريعة، وهما القرآن والحديث. 47 ومثلما يؤكِّد الكثير من كتابات أو الداخلي، والبُعد « الباطني » الصوفيين المتأخِّرين الذين أتوا من بعده على التناغُم بين البُعد أو الخارجي للوجود، فقد كانت تعاليم الجنيد المتعلِّقة بطبيعة الروح مُتمِّمةً « الظاهري » أو المنهج سوى « الطريقة » لقواعد الشريعة، وليست بديلة لها. فبالنسبة إليه، لم تكن «. لا إله إلا لله » : التحقيق الكامل للمَبدأ الأساسي في الإسلام المُعلَن في أذان الصلاة، أَلَا وهو عند المسيحيين « التثليث » أيْ وحدانية لله في مقابل — « التوحيد » ذلك المبدأ المعروف بمبدأ — الذي يُعدُّ المبدأَ الأكثر أساسيةً في المبادئ الإسلامية، والذي كان في نظر الجنيد أساسَ

مسعى كلِّ الصوفيِّين. ولم يكن كافيًا مجردُ الشهادة بوحدانية لله باللسان، أو القبول بها بالعقل، بل كان لازمًا العيش بها واختبارها كواقع. 48 واعتمادًا على الفكرة القرآنية نفسِها القائلة بوجود الميثاق، التي ناقَشَها التُّستَري في البصرة في الوقت نفسه، زعم الجنيد أنَّ الأرواح البشرية تَتُوق إلى حالة الوجود الأصلية؛ حيث كانت في حالةِ وجودٍ سابق لفرديتها في لله. 49 وعلى غرار التُّستَري مرة أخرى، قال الجنيد إنَّ الطريق إلى استعادة هذه الحالة الروح الفردية الدُّنيا أو النفس. ويقول الجنيد مُتحدِّثًا عن « فناء » الأصلية يتمثَّل في عملية استحوذتْ عليَّ رؤيةٌ طاغية، ووهج برَّاق، حفَّزا » : تجربته الشخصية فيما يتعلَّق بهذا الفناء فيَّ حالةَ فناء؛ ممَّا جعلني أخُلَق من جديد بالطريقة نفسها التي خلقني لله بها عندما لم 50,

الحلَّاج البغدادي:

أشهر صور هذا التوتُّر الناشئ بين السلطة القائمة على الإلهام الشخصي والسلطة القائمة على الإجماع، هو ما نراه في حياة حسين بن منصور، المعروف بالحلَّاج (وكلمة حلَّاج تَعني الشخص الذي يَندِف الصوف). 56 وُلِد الحلَّاج في جنوب إيران حوالي عام ٨٥٧ ، وأصبح تابعًا للتُّستَري، ثم لشيخ صوفي آخَر في البصرة يُدعَى عمرو بن عثمان المكي قبل التحاقه بحلقة الجنيد في بغداد. يَبدو أنه كان عاجزًا عن الالتزام بأن يُصبح مريدًا لأيٍّ مِن هؤلاء الشيوخ؛ ربما بسبب أنه كان يطمح في جذب أتباعٍ لنفسه. لقد كان الحلاج كثيرَ التَّرحال للغاية حتى مقارَنةً بأكثر مُعاصِريه ارتحالًا؛ فلم يتجوَّل عبر إيران فحسب، بل وصَل أيضًا إلى أقاصي التوسُّعات الإسلامية في آسيا الوسطى والهند. في هذه الرحلات اختفى الحلاج من آفاق التوثيق التاريخي المَحدودة، لكنَّه معروفٌ لنا على نحوٍ أساسيٍّ من خلال وجوده في عاصمة الأدب والفكر في العالَم الإسلامي في هذا الوقت؛ حيث أثار جدلًا كبيرًا حول آرائه في بغداد، وأعُدِم هناك في النهاية عام ٩٢٢ . ومثل بقية ضحايا الفكر، كان إعدامه تتويجًا لمسيرته؛ إذ ضمنَ تخليدَه على يد كثيرٍ من كُتَّاب السِّيَر الذاتية والشعراء الصوفيِّين في القرون اللاحقة، الذين سيتذكَّرونه فيما بعدُ باعتباره شهيدًا عظيمًا أعُدِم بسبب الحديث عن حقيقة الحب الإلهي.

كتاب التصوف -العراق أنموذجا-، نايل جرين تر: صفية جبران، مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، ط/ 2017م.