2. النظرية الوظيفية الجديدة

قامت الوظيفية الجديدة neo fonctionalism  على اسس مشابهة لأسس الوظيفية الأصلية ولكنها عكس الوظيفية تؤكد على ضرورة ايجاد انظمة وعمليات سياسية تقود الى نظام صنع قرار فوق قومي، اذ ان مسار التكامل يتأثر مباشرة بالدولة، وهو بذلك جزء غير منفصل عن المسار السياسي. ومحور هذه النظرية ان الدول تتخلى عن سلطاتها في مجالات تعتبر انه من غير الممكن تسييرها بنجاح وفعالية منفردة، ويكون ذلك بإنشاء مؤسسات اقليمية تمنح صلاحيات في هذا المجالات.

في هذا الاطار تنشا نخبة سياسية جديدة في هذه المؤسسات ذات توجهات وولاءات فوق قومية تتعمق نتيجة امتلاكها للقرار على المستوى الاقليمي ويرافق ذلك توسع عملية الاندماج الى مجالات أخرى وفق مبدأ الانتشار . وهو ما يؤدي بالتدريج الى تحول الولاءات القومية من مستوى الدولة الى مستوى المنظمة الاقليمية. ولا بد من تسييس عملية التكامل بانتقالها من ميادين السياسة الدنيا الى ميادين السياسة العليا، وتبرز فرضية عملية التكامل الآتية من منظور الوظيفية الجديدة باعتبار ان اي مستجدات او قضايا تفرزها خطوة تكاملية لا يمكن حلها الا في خطوة اندماجية متقدمة، حيث تصل العملية في نهاية المطاف الى مرحلة الانصهار في دولة اقليمية موحدة. وتشدد الوظيفية الجديدة على جماعات المصالح في دفع عمليات الانتاج نتيجة المردود المنفعي على مصالحها، مما يجعلها تقف بشدة في وجه اي محاولة من السلطة السياسية الوطنية لإيقاف مسار الاندماج.  

ارنست هاس  Ernest Hass يؤكد ان قرار القيام بعملية تكاملية او معارضتها يعتمد على توقعات الكسب والخسارة من قبل القوى الرئيسية التي تدخل في اطار تكاملي . يقول هاس: "انه بدلا من الافتراض بعدم وجود دوافع انانية وراء سلوك الاطراف ، فان الافضل والأكثر معقولية هو افتراض ذلك والتركيز على الفوائد والمصالح والقيم الني يعملون من أجلها وهي امور اعقد من ان نضعها في صياغة بسيطة كالقول بان السلام بين المانيا وفرنسا والرغبة في ايجاد ارويا الموحدة هو الدافع لقيام هيئة الفحم والصلب الأروبية، ويضيف هاس بان التكامل ينتج عن جهد النخب المعنية في القطاعين العام والخاص، وهؤلاء بدورهم مدفوعين بدوافع براغماتية بحتة، ولذلك فان النخب التي تتوخى الحصول على مكاسب لها من خلال نشاط منظمات فوق قومية، ستجد نفسها تبحث عن نخب اخرى خارج حدود بلادها تشاركها نفس الرغبة.

ويركز هاس على مسالة التسييس politicization التدريجي لأغراض وأهداف الاطراف المتكاملة، لا سيما ان هذه الاطراف اعتبرت من البداية اهدافا ليست موضع خلاف ويتم التسييس من خلال موافقة الاطراف على البحث في الوسائل التي تعتبر  الانسب لتحقيق الاهداف.

الانتشار spill-over:استخدم هاس مصطلح الانتشار الذي قصده ميتراني من قبل بمصطلح التعميممramification وقد لاحظ هاس من خلال دراسته لهيئة الصلب الاروبية انه في البداية كان هناك عدد قليل نسبيا ممن يؤيدون المشروع بقوة وبعد عدة سنوات من عمل الهيئة اصبح الجزء الاكبر من قادة اتحادات العمال والأحزاب السياسية من انصار هذه الهيئة، بل ان هذه القوى بعد ان لمست فوائد الهيئة وضعت نفسها في طليعة الساعين للتكامل الاروبي. وهذا يعني ان الذين يحققون منافع من المنظمات فوق القومية في قطاع محدد يميلون بشكل ملحوظ الى تأكيد عملية التكامل في قطاعات اخرى. وينبه هاس الى ان التعميم لا يحدث بشكل آلي، لكنه مرتبط بإرادة الاطراف واستعدادها للتكيف مع الواقع الجديد من جهة، وتعميمها للنجاح في قطاع على قطاعات اخرى من جهة ثانية. يقول هاس:" ان تجربة التكامل في اروبا الغربية بعد عام 1967 تدل على ان المصالح المستندة لاعتبارات براغماتية هي مصالح معرضة للزوال مالم تدعم بالتزام ايديولوجي او فلسفي عميق، وبالتالي فان الاتحاد السياسي القائم على المصالح البراغماتية وحدها من الصعب دوامه.

فجوهر الوظيفية الجديدة عند هاس، هو الانتقال من السياسة الدنيا الى السياسة العليا عن طريق مبدأ الانتشار، وقد يكون بطريقة آلية وإلا يستلزم تدخل الارادة. كما ان المصالح البراغماتية تصبح غير مهمة في حالة تعثر المسار، ولذلك لا بد من دعمها بالتزام ايديولوجي سياسي.

اميتاي ايتزيوني Amitay Etsiouni

اتجهت دراسة ايتزيوني الى تتبع تطور عملية التوحيد السياسي بغرض بناء نموذج نظري لعملية الاندماج ويستند هذا النموذج لاربع مراحل:

-حالة ما قبل التوحيد

-عملية التوحيد من خلال القوى الفاعلة فيها

-عملية التوحيد من خلال القطاعات التي يشملها

-نضج عملية التوحيد ووصولها للنهاية الرسومة لها.

وليتم الوصول الى هذا النموذج ، درس ايتزيوني اربع حالات توحيد او تكامل وهي:

-اتحاد الويست انديز: 1958-1962

-اتحاد الشمال: 1953-1964

-الجمهورية العربية المتحدة:1958-1961

-السوق الاروبية المشتركة: 1958-1964

المرحلة الاولى:لابد من وجود اعتماد متبادل بين الاطراف في قطاعات معينة،  ثم تبدأ هذه القطاعات تتسع، في اطار نظام الاعتماد المتبادل القائم بين الدول الاطراف. ولا يركز ايتزيوني في هذه المرحلة على العوامل المشتركة التي قد تكون موجودة في مرحلة ماقبل التوحيد، مثل التجانس الثقافي او التواصل الاقليمي(الحوار الجغرافي)، او الاعتماد الاقتصادي المتبادل. وتلعب النخب الخارجية في هذه المرحلة الدور الرئيسي في عملية التوحيد، حيث انها تكون المشجع الرئيسي على الوحدة مثل الدور الامريكي في التوحيد الاروبي، او الدور الاروبي في التكامل العربي خاصة دول المغرب العربي، والنفوذ الاستعمار القديم، وتأثيره على دول وسط وغرب افريقيا للتوحيد، حيث وصل الى تحقيق الوحدة النقدية المتمثلة في الفرنك الإفريقي، وأيضا تأسيس جامعة الدول العربية بدفع من بريطانيا.

المرحلة الثانية: في هذه المرحلة، تبرز قوى التوحيد التي يكون لها طبيعة قصرية او نفعية مرتبطة بالهوية الاجتماعية، وتخضع هذه القوى التوحيدية للنخبة الداخلية. وهنا يشير ايتزيوني الى ان النخبة من داخل النظام تكون هي الدافع الرئيسي لعملية التوحيد وليست النخبة الخارجية، ويطلق ايتزيوني على عملية الانتقال من النخبة الخارجية الى النخبة الداخلية مصطلح التذويت internalization اي بعدما كان الدفع من الخارج، يصبح الدور للداخل، عن طريق توجيه قوى التوحيد الى ضرورة التكامل الذاتي سواء لاعتبارات التقاريب او المنفعة او الخطر.

المرحلة الثالثة:تبدأ هذه المرحلة مع تزايد تدفق السلع والأفراد والاتصالات بين الوحدات المتكاملة وفق مبدأ الانتشار. هنا يتبنى ايتزيوني المقاربة الوظيفية الجديدة لهاس، والاتصالية لدويتش، سواء كان التوحيد تلقائيا، او تطلب تدخل الارادة السياسية.

المرحلة الرابعة:ويسميها ايتزيوني حالة ألانتهاء، يكون الاتحاد قد انتشر في مختلف القطاعات، ووصل الى نقطة النهاية. ويشير ايتزيوني هنا الى ان الاتحادات الناضجة -اي التي اكتملت فيها عملية الاندماج - تختلف فيما بينها من حيث مستويات التوحيد التي توقفت عندها، وتختلف مستويات التكامل باختلاف الاهداف.

 استنتاجات:

توصل ايتزيوني من خلال دراسته للنماذج السابقة الى مجموعة من الاستنتاجات:

1- الاتحادات ذات النخب القليلة، تكون اوفر حظا للنجاح من تلك التي تضم نخبا عديدة، على اساس ان العدد الاكبر يوفر الفرصة للمزيد من المشكلات.

2- الاتحادات القائمة على المساواة بين اطرافها، تكون اكثر احتمالا للنجاح، والنخبة الاكثر فعالية هي التي يسميها ايتزيوني بالنخبة النظام، وليست النخبة التي تكون مجموعة من الافراد. فالنخبة النظام تمتلك القدرة على الحسم مقارنة بالنخبة الفرد، لكن مع امكانية تعميم الالتزامات الموجودة بين الاتحادات التي تتصف بالمساواة بين اعضائها. وتحقيق الحسم يكون بوجود مركز مهيمن لصنع القرار، اما تعميم الالتزامات، قيتم نتيجة ان النخبة النظام تمثل جميع الاعضاء في الإتحاد، فضلا عن كونها تمثل الاتحاد ككل، على عكس النخبة الفرد الذي يمثل دولته داخل الاتحاد.

3-  كلما كانت المنفعة الناتجة عن مبادرة وتوجيه النخبة اكبر، او كلما تدعمت الهوية الاجتماعية للاتحاد اكثر، ازدادت احتمالات النجاح. وتتضح صحة هذه الفرضية في المجموعة الاقتصادية الاروبية، التي ادت الى زيادة النفع العائد على الاعضاء، وهو ما ادى بدوره الى تدعيم شخصية المجموعة(القيم، المشاعر، الرموز،الروح القومية). اما في الويست انديز، فان الاتحاد لم يتحكم في موضوع المنفعة ولا حتى توزيع القوة بين الأطراف،  وهو ما دفع بالدولتين الاكبر في الاتحاد وهما ترينيداد وجامايكا الى الانسحاب منه.

خلاصة

عارض الوظيفيون الجدد منطلقات كل من الدستوريين والوظيفين إلى التكامل وبدلاً من أن يركزوا على القرار الحكومي أو المصالح الجماهيرية الاقتصادية كمدخل للتكامل على اعتبار أن الإرادة السياسية ليست معزولة عن الاقتصاد

وفي حين عارض ميتراني التكامل الإقليمي ودعا إلى تكامل على المستوى العالمي يؤكد أرنست هاس وهو من أبرز الوظيفيين الجدد على الإقليمية مقابل العالمية في التكامل من منطلق أن المنظمات الإقليمية أكثر قابلية لإحلال التكامل من المنظمات العالمية بسبب التقارب القيمي والثقافي المفترض بين مجتمعات الإقليم الواحد وهو ما تفتقر إليه غالباً المنظمات العالمية التي يتمثل فيها مدى واسع من القيم الثقافية المختلفة.

ينظر الوظيفيون الجدد و منهم هاس إلى التكامل لا باعتباره حالة يتم فيها تحقيق الوحدة السياسية (كما يرى الدستوريون) أو قيم ومصالح (كما يرى الوظيفيون والاتصاليون). ولكن يركزون أكثر من ذلك على الطبيعة التعددية للمجتمع الحديث التي تتنافس فيها وتتصارع النخب والمصالح ومن ثم يرون أن التكامل عملية تعيد فيها النخب بطريقة سياسية متدرجة صياغة مصالحها بمصطلحات وأساليب تعبر عن توجه إقليمي أكثر منه توجهاً وطنياً خالصاً فالتكامل لدى هاس هو " العملية التي يكون فيها الفاعلون السياسيون في مختلف المواقع الوطنية مقتنعين بتحويل ولاءتهم وتوقعاتهم ونشاطاتهم السياسية نحو مركز جديد أكبر له مؤسسات ومطالب قانونية على الدول الوطنية السابقة"

وعملية إعادة التوجه هذه من الدولة إلى النظام الإقليمي لا تحدث بطريقة مثالية ودوافع من الإيثار لدى قسم من النخبة المعنية ولكن بسبب إدراكهم للمؤسسات فوق القومية باعتبارها أفضل الطرق لإشباع مصالحهم العملية ولذا يركز الوظيفيون الجدد على تنمية عملية صنع القرار الجمعي والطريقة التي يغير بها النخب الحكومية وغير الحكومية تكتيكاتهم وتنظيماتهم وفقاً لتحولات عملية صنع القرار من المستوى القوي إلى المستوى فوق القومي.

فالمسألة لا تتعلق فقط بتسليم مطلق بفوائد التكامل وإمكانية الانطلاق من مجال وظيفي نجح فيه التكامل إلى مجال آخر وهكذا فحسب ولكن يتوقف نجاح العملية التكاملية على مدى الاتفاق بين الجماعات المنخرطة في عملية التكامل على الأهداف والإجراءات المتبعة في هذه العملية وفي نفس الوقت تمايز المهام المتضمنة من الناحية الاقتصادية مما يضع حداً للمخاوف السياسية التي قد تعرقل التكامل

وهكذا نجد أن الوظيفيين الجدد قد بنوا نظرياتهم على أسس مشتركة مع رؤية الوظيفيين خاصة فيما يتعلق بالفصل بين السياستين العليا والدنيا والانتقال من مجال وظيفي إلى آخر إلى أن يتم التكامل السياسي ولكنهم كانوا أكثر جرأة وواقعية في التأكيد على وزن الإرادة السياسية للنخب في صنع التكامل ودفع العملية التكاملية وقد اهتموا بالنخبة في مقابل تركيز الوظيفيين على المصالح الجماهيرية كما امتازوا عن الوظيفيين بالتنبيه إلى أهمية الاتفاق القيمي والإجرائي وعملية توزيع المهام داخل مؤسسات التكامل حتى لا تتعثر عملية التكامل ويحدث العكس فتتغلب المخاوف والعقبات السياسية على المصالح المشتركة.

من أهم الانتقادات الموجهة للنظرية الوظيفية الجديدة فضلاً عن ارتباطها بخبرة معينة هي الخبرة الليبرالية الديمقراطية افتراضها إمكانية انتقال الولاء من الدولة إلى المنظمة الإقليمية وهذا إن كان قد حدث في الجماعة الأوربية لدى أفراد فهو لم يحدث بعد على مستوى اجتماعي واسع ولا زالت القوميات الأوربية المختلفة داخل الجماعة الأوربية تتمسك بهويتها المستقلة بل وتتفجر فيها حركات تؤكد هذا الاستقلال وتعارض الانصهار.