2. أنواع الدساتير

2.1. الدساتير المدونة والدساتير العرفية

تنقسم الدساتير من حيث التدوين إلى دساتير مدونة (مكتوبة) ودساتير عرفية (غير مكتوبة) والدستور المكتوب هو الدستور الذي تكون قواعده الأساسية والمهمة مدونة في وثيقة رسمية أو أكثر من طرف سلطة مختصة وفقا لإجراءات عادة ما تكون متميزة ومعقدة مما يضفي على الدستور هالة كبيرة تجعله يحتل قمة هرم النظام القانوني للدولة. وهو ما يعبر عنه فقها وقضاء بمبدأ سمو الدستور. وأقدم الدساتير المكتوبة في العالم هو دستور الولايات المتحدة الأميركية الذي وضع في 1787 ولا يزال ساري النفاذ. ويمتاز الدستور المكتوب بجملة من المزايا التي جعلت منه مطلبا أساسيا لحركات التحرر خلال القرن 19، بحيث يذهب بعض الباحثين إلى أنه خلال فترة وجيزة امتدت بين 1809 و1880 ظهر في العالم أكثر من 300 دستور مكتوب، كما جعلها من ضمانات ومقومات دولة القانون التي أصبحت مطلبا ملحا لكثير من شعوب العالم في مواجهة الاستبداد والحكم المطلق الذي عانت منه لفترات ليست بالقصيرة. ومن بين أهم ما تمتاز به الدساتير المكتوبة، نذكر:

- الوضوح والدقة التي عادة ما تحققها كتابة النصوص الدستورية، وهذا خاصة إذا ما كانت الصياغة التشريعية متقنة وخالية بشكل كبير من النقائص والعيوب.    

- يسهل معرفة قواعدها والرجوع إليها لتعلمها وتحديد مضمونها؛ مما يجعل أمر تطبيقها ومطالبة الهيئات الحاكمة باحترامها والتقيد بها يسيرا إلى حد ما.     

- تسهم في الحد من الاستبداد، وذلك لأنها تجعل المواطنين يعرفون ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، كما تجعلهم والحكام يعرفون الحدود والقيود المفروضة على ممارسة السلطة، وهو ما يعد مبدئيا ضمانة مهمة نحو التزام الحكام بعدم التعسف في ممارستها، سيما إذا ما توافرت عوامل أخرى كوجود مؤسسات فاعلة وذات تمثيل حقيقي، ووجود رأي عام قوي. 

ولكن ما يعاب على الدساتير المكتوبة هو: 

- أنها من الممكن ألا تساير بعد فترة من تطبيقها الواقع الذي لا شك يعرف يوما بعد يوم تطورات ومستجدات قد لا تواكبها نصوص الدستور المكتوب، والتي في حالة عدم خضوعها للتغيير و/أو التعديل اللازمين في الوقت المطلوب فإنها ستتعرض لأمرين أحلاهما مر، وهما إما أن يتم تجاوزها في التطبيق على الصعيد العملي (ويعرف بالتعطيل الفعلي للدستور)، وإما أن تتم محاولة تغييرها بالقوة والإكراه (الانقلابات والثورات).

- أنها قد لا تعكس في بعض الحالات تطلعات الشعب وطموحاته بقدر ما تعبر عن مصالح  فئة محددة غالبا ما تكون الحاكم وحاشيته.  

       وأما عن الدستور العرفي، فإنه يمكن تعريفه بأنه الدستور الذي يستمد أهم قواعده من الأعراف والممارسات والتفسيرات المتعلقة بتنظيم السلطة وممارستها، والتي على الرغم من استقرار وترسخ العمل بها في الدولة إلا أنها لم تدون كليا في وثيقة أو مجموعة وثائق رسمية، ولذلك فليس من الغريب أن نجد إلى جانب أبرز نموذج للدساتير العرفية في وقتنا الحالي، وهو الدستور الانجليزي، بعض القواعد مكتوبة على غرار مثلا: العهد الأعظم لسنة 1215، وملتمس الحقوق لسنة 1628، ووثيقة الحقوق لسنة 1688، وقوانين البرلمان لسنة 1911.

       ومع ما تتصف به الدساتير العرفية من مرونة لكونها وليدة راهن المجتمع ومعتقداته، وقدرتها بذلك على التغير و/أو التعدل بشكل آلي ويسير وفقا لما قد يشهده المجتمع من تطور، إلا أنها منتقدة بسبب أنها:

- تبقى غير ملائمة للنظم الديمقراطية التي تعتمد في قيامها على مدى وجود أسس واضحة ومعروفة سلفا بالنسبة للكافــة.

- تعطي مجالا أوسع للهيئات الحاكمة لابتداع أعراف وممارسات، وللقضاء لإعطاء تفسيرات، تصبح واجبة الاتباع باعتبارها قواعد دستورية، وهذا بدون الرجوع إلى صاحب السيادة ومصدرها في النظم الديمقراطية الحديثة وهو الشعب.   

- ما تزال يكتنفها الخلاف الدائر حول متى تكونت القاعدة العرفية.

       هذا ونشير إلى أنه يوجد اختلاف بين الدستور العرفي والعرف الدستوري، وذلك لأن هذا الأخير لا يثار إلا بالنسبة للدول التي تتبنى دساتير مكتوبة أين يتدخل في حالات معينة ليلعب دورا محددا يتلائم وما ينجم عن الصياغة التشريعية لقواعد الدستور المكتوب وأحكامه من عيوب ونقائص، بينما في الدول ذات الدساتير العرفية فإن الإشكال لا يثار فيها لأن العرف الدستوري في مجموعه هو من يشكل فيها بصفة أساسية الدستور، ولذلك فقد أضحت دساتيرها تعرف بالدساتير العرفية. وبالتالي لما كان قوام هذه الدساتير ووجودها مرتبط حتما بوجود العرف أصلا وغالبيته فيها، فإن علاقتها به تصبح واضحة ولا إشكال فيها لأنه في هذه الحالة يعد جزءا لا يتجزأ منها. بينما لما كانت الدساتير المكتوبة تعتمد في وجودها وقيامها في المقام الأول على التشريع الذي يشكل الأصل والعنصر الغالب فيها، فإن وجود العرف الدستوري إلى جانبها قد أدى إلى طرح إشكالية علاقتها به؛ أي بمعنى ثار الإشكال حول طبيعة الدور الذي يمكن للعرف الدستوري أن يقوم به في وجود الدستور المكتوب ؟  ومن هنا ظهرت للوجود أنواع العرف الدستوري المعروفة حاليا، وهي:

- العرف الدستوري المفسر: وهو العرف الذي يأتي فقط لتفسير ما غمض أو أبهم من قواعد وأحكام الدستور المكتوب، ومن ثم فهو لا يؤدي إلى وجود قاعدة دستورية جديدة لم يسبق للدستور المكتوب وأن تضمنها إما بشكل صريح أو ضمني. ونظرا لهذه الخصيصة فيه فإن الفقه الدستوري السائد يعتبره مشروعا وجزءا من الدستور المكتوب. ومثاله في فرنسا: العرف الذي فسر نص دستور 1875 على أن:(رئيس الجمهورية يكفل تنفيذ القوانين) بأنه يخول للرئيس إصدار ما يعرف باللوائح التنفيذية.

- العرف الدستوري المكمل: وهو العرف الذي يأتي لإكمال ما غفل عنه الدستور المكتوب من أحكام ولإتمام ما اعترى قواعده من نقص وثغرات. ونظرا لما يحمله هذا النوع من العرف الدستوري من جديد فيما يخص محتوى الدستور المكتوب بسبب دوره الإنشائي، فإن الفقه لم يتفق على مدى مشروعيته؛ بحيث ذهب البعض (دوفرجي) إلى اعتباره بمثابة عرف مفسر لأنه بحسبهم يقوم في هذه الحالة بتفسير سكوت المؤسس الدستوري بشأن تلك المسائل التي لم يتناولها بالتنظيم، ومدام العرف المفسر مشروع عند غالبية الفقه فكذلك يكون العرف المكمل مشروعا ويعد جزءا من الدستور المكتوب. لكن ذهب البعض (لافريير) الآخر إلى اعتباره بمثابة عرف معدل، وذلك لأن التعديل قد يكون بالإضافة كما يكون بالحذف، ولما كان العرف المكمل ينشئ أحكاما جديدة فإنه يكون عرفا معدلا بالإضافة، وهو ما لا يكون مشروعا إلا بإتباع واحترام الإجراءات والكيفيات المنصوص عليها في الدستور الجامد. ومن أمثلة هذا العرف الدستوري، نجد ذلك العرف الذي قيل بوجوده في فرنسا أثناء العمل بدستور 1875، أين نص هذا الأخير على أن الانتخاب يكون عاما ولكنه أغفل تحديد طبيعته، بمعنى هل هو انتخاب مباشر أم أنه غير مباشر، وفي ظل ذلك الوضع جرى العمل آنذاك على اعتبار الانتخاب العام يكون مباشرا، وهو ما عـد بمثابة عرف دستوري مكمل.  

- العرف الدستوري المعدل: وهو العرف الذي يأتي لإحداث تغيير جزئي في نصوص الدستور المكتوب، وذلك إما بإضافة أحكام جديدة إليها أو بحذف أحكام منها. والتعديل بالإضافة على خلاف العرف المكمل لا يأتي عند غياب النص، وإنما العكس هو يأتي ليغير في مضمون نص موجود من خلال إضافة شيء جديد له لم يكن يتضمنه في الأصل، وهو ما يعد في الواقع إعادة تنظيم للمسألة التي سبق للنص وأن نظمها من قبل. ومن أمثلته في فرنسا ذلك العرف الذي قيل بوجوده عندما كان البرلمان في ظل دستور 1875 يفوض للحكومة إصدار قواعد عامة عن طريق المراسيم، وهذا على الرغم من أن الدستور المذكور كان ينص على اختصاص البرلمان المطلق بالسلطة التشريعية، وبذلك فالعرف المعني قد أضاف حكما معدلا لما تضمنه الدستور المكتوب وهو إمكانية تفويض البرلمان سلطته التشريعية. وأما فيما يخص التعديل بالحذف، فإنه يأتي لإسقاط أحد نصوص الدستور المكتوب واستبعادها من التطبيق، وهذا النوع من العرف المعدل يعتبر في الغالب عرفا كاشفا، وذلك لأنه يبين سقوط نص من نصوص الدستور المكتوب عندما يجري العمل على تركه وعدم استعماله لفترة طويلة من الزمن، ومن ثم فهذا النص لا يمكن العمل به مستقبلا لأنه وإن وجد ماديا ضمن نصوص الدستور إلا أنه يعتبر في حكم الملغى. ومن بين الأمثلة الشهيرة على التعديل بالحذف نذكر أن عدم استعمال ملوك بريطانيا لحقهم في الاعتراض على القوانين منذ سنة 1707 قد جعل بعض الفقهاء الإنجليز يرون بأن هذا الحق قد سقط بموجب عرف دستوري.

       وعليه يمكن القول في الأخير بأن العرف الدستوري هو ما جرى واستقر العمل به على أنه واجب الاتباع فيما يخص مسائل دستورية ليس فيها نص دستوري أصلا أو فيها نص ولكنه غامض أو غير مكتمل. ويتضح من خلال هذا التعريف استبعادنا للعرف الدستوري المعدل بالحذف لأنه لا يمكن التسليم بمشروعيته في ظل الدساتير الجامدة نظرا لما في ذلك من مخالفة للغايات التي من أجلها وجدت هذه الدساتير وهي حمايتها من أي مساس قد يطالها من السلطات العمومية في الدولة خارج الأطر والإجراءات المحددة.

       وبذلك نخلص إلى أنه وإن كان العرف الدستوري يتفق والدستور العرفي في أن كلامهما قواعد غير مكتوبة مصدرها العرف، إلا أنه يختلف عنه في أن قواعد العرف الدستوري لا تشكل هي الأصل في الممارسة الدستورية، وذلك لأنها تدور وجودا وعدما مع الدستور المكتوب، ولذلك لا يتصور وجودها إلا لتفسيره أو تكميله أو لتعديله كما ذهب البعض. بينما على النقيض تعد قواعد الدستور العرفي هي الأصل في الممارسة الدستورية وليست القواعد المكتوبة، ولذلك لا نجد أن العرف في ظل الدستور العرفي يلعب ذات الأدوار التي يلعبها في ظل الدستور المكتوب