ماهية الدستــور

الموقع: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
المقرر: النظرية العامة للدستور
كتاب: ماهية الدستــور
طبع بواسطة: Visiteur anonyme
التاريخ: Monday، 29 April 2024، 1:37 PM

الوصف

يرتكز فهم الدستور بالأساس على تعريف فقهاء القانون الدستوري له، وعلى تحديد الطبيعة القانونية لقواعده

1. مفهوم الدستور

يرتكز فهم الدستور بالأساس على تعريف فقهاء القانون الدستوري له، وعلى تحديد الطبيعة القانونية لقواعده

1.1. تعريف الدستور

لقد لقي تعريف الدستور اختلافا وتباينا شديدا بين الفقه. ومرد ذلك عدم اتفاقهم على المعيار الواجب الاعتماد عليه في تعريف الدستور، هل هو: المعيار اللغوي أم المعيار الشكلي، أم هو المعيار الموضوعي ؟   

يستند التعريف اللغوي للدستور على تحديد المعنى اللغوي لمصطلح الدستور. الذي وبإجماع الفقه يعتبر مصطلحا فارسي الأصل دخل إلى اللغة العربية عن طريق الأتراك. ويقصد به التأسيس أو التكوين أو النظام. وهو ذات المدلول اللغوي لمصطلح constitution في اللغتين الفرنسية والانجليزية، ولمصطلح Constituzione في اللغة الإيطالية، ولمصطلح constitucion   في اللغة الإسبانية، وكذا لمصطلح verfassung في اللغة الألمانية.

وبناء على ذلك، فقد عرف الدستور وفقا لهذا المعيار (اللغوي) بأنه: '' مجموعة القواعد التي تنظم أسس الدولة وتحدد تكوينها '' 

غير أن ما يعاب على هذا المعيار هو أنه أعطى للدستور تعريفا واسعا يتعارض والتقاليد الأكاديمية التي استبعدت الكثير من الموضوعات التي تعتبر وفقا للمعيار اللغوي داخلة في مفهوم الدستور، على غرار مثلا: السلطة الإدارية التي تدرس ضمن القانون الإداري، والسلطة القضائية التي تدرس إجرائيا ضمن القوانين الشكلية، والجنسية التي تدرس ضمن برنامج القانون الدولي الخاص... الخ. 

ونتيجة لذلك، فإن النقاش الفقهي حول تعريف القانون الدستوري قد بات محصورا أكثر على ترجيح أحد المعيارين: الشكلي أو الموضوعي ؟ 

والدستور وفقا للمعيار الشكلي قد عرف بأنه: '' وثيقة أو مجموعة من الوثائق الرسمية الصادرة تحت هذا المسمى والمطبقة فعلا في دولة ما وفي زمن ما ''

وعلى الرغم من وضوح هذا التعريف وبساطته إذ يسهل التعرف على الدستور والرجوع إليه في هذه الحالة، إلا أنه قد عيب عليه بأنه:

- يتعارض وكون القواعد التي تتضمنها عادة الوثائق الدستورية أسبق منها في الظهور والوجود، كما هو الحال مثلا بالنسبة للقواعد المتعلقة بتحديد شكل الدولة ونظام الحكم فيها.

- لا ينطبق إلا على الدول التي لها دساتير مكتوبة دون الدول ذات الدساتير العرفية.

- يجعل القواعد التي تضمنتها وثيقة الدستور هي وحدها التي تعتبر قواعد دستورية، وهذا منتقد لأن الدستور حاليا يتضمن في الغالب قواعد غير متعلقة مباشرة بكيان الدولة ونظام الحكم فيها، وإنما تتصل بموضوعات الأصل فيها أنها خارجة عن نطاق القانون الدستوري، وإنما أريد لها أن تحظى بالسمو وأكبر حماية، سيما في مواجهة المشرع لذلك يلجأ إلى إدراجها في وثيقة الدستور، وكمثال عنها في الدستور الجزائري لسنة 1996 المعدل والمتمم نذكر: التوقيف للنظر (المادة 60) ، وواجب الآباء في العناية بأبنائهم والعكس (المادة 79).

- يخرج الكثير من القواعد التي لا تجد مصدرها في وثيقة الدستور من مصف القواعد الدستورية، وهذا على الرغم من أنها قد تنظم موضوعات ذات صلة مباشرة بإسناد السلطة السياسية وممارستها، على غرار مثلا: القواعد القانونية والتنظيمية المؤطرة لعمليات الانتخاب، وقواعد الأنظمة الداخلية للبرلمان... الخ

       وأمام هذه الانتقادات المتعددة اضطر الكثير من الفقهاء للتراجع عن الأخذ بالمعيار الشكلي، ورجحوا بدلا عنه المعيار الموضوعي.

       وذلك لأن الدستور وفقا لهذا المعيار عرف بأنه: '' مجموعة القواعد القانونية المتعلقة بالدولة والسلطة السياسية فيها، من حيث إنشائها، وتنظيمها، وإسنادها، وكيفية انتقالها وممارستها، سواء كانت تلك القواعد مكتوبة أو غير مكتوبة ''   

       وعليه، فهذا المعيار ينظر ويهتم فقط بموضوع القاعدة ومادتها ليحكم عليها بأنها قاعدة دستورية أو لا، وهذا بغض النظر عن مكان تواجدها في وثيقة الدستور أم خارجه.

       لكن ورغم ما حظي به هذا المعيار من قبول وتأييد من قبل الفقه الدستوري إلا أنه لا يزال تعترضه صعوبات في التطبيق مردها عدم اتفاق الفقهاء على ماهية الموضوعات التي يمكن القول وأنها دستورية بطبيعتها، وهذا لأنه بدون ذلك لن يكون يسيرا الحكم على قاعدة ما هل هي دستورية أم لا. 

       وعلى كل، فإن هناك موضوعات يعتبرها الفقهاء على اختلاف مذاهبهم دستورية بطبيعتها، ولذلك نجد عادة معظم دساتير العالم تنص عليها بشكل أو بآخر، وهي أساسا القواعد المتصلة:

- بشكل الدولة وممارسة سيادتها.

- بتحديد النظام الدستوري للدولة، وهذا من خلال تنظيم مؤسساتها الدستورية، وتوزيع الاختصاصات بينها، ورقابتها، وضبط العلاقات المتبادلة فيما بينها من جهة وعلاقاتها بالمواطنين من جهة أخرى.

- بحقوق وحريات المعترف بها للأفراد في الدولة، وضماناتها.

- الأسس والمبادئ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي يقوم عليها المجتمع

1.2. الطبيعة القانونية لقواعد الدستور

       يلعب الدستور دورا مهما في حياة الدول والأفراد على السواء، ولا أدل أكثر في توضيح ذلك مما جاء في ديباجة الدستور الجزائري الحالي لسنة 1996 المعدل والمتمم من أن:( الدستور فوق الجميع، وهو القانون الأساسي الذي يضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية، ويحمي مبدأ حرية اختيار الشعب، ويضفي الشرعية على ممارسة السلطات، ويكفل الحماية القانونية، ورقابة عمل السلطات العمومية في مجتمع تسوده الشرعية، ويتحقق فيه تفتح الإنسان بكل أبعاده )

       هذا ومع ما للدستور من أهمية إلا أن هناك من حاول أن ينكر بأن قواعده هي قواعد قانونية، وذلك بالقول أنها مجرد قواعد آداب مرعية تحميها جزاءات أدبية بحتة. بحيث يذهب جون أوستن إلى أن افتقار قواعد الدستور للجزاء المادي يجعلها لا تشكل قواعد قوانية، وهذا لأن القانون الوضعي في نظره هو عبارة عن أمر أو نهي يصدره الحاكم إلى رعيته الملزمين باحترامه وإلا تعرضوا لجزاء مادي يوقعه على المخالفين منهم. وعلى هذا الأساس، يرى أوستن بأن العمل الذي يخالف فيه الحاكم الدستور يكون عملا غير دستوري وليس عملا غير قانوني.

       وفي الواقع إن هذا الرأي من أوستن لقد لقي نقدا شديدا من قبل الفقه، وذلك لأن جون أوستن:

-  كان متأثرا إلى حد بعيد بآراء توماس هوبز الذي عمل على كسب التأييد للنظام الملكي المطلق في انجلترا.

- كان متأثرا بما كان سائدا في وقته من أن الحاكم هو مصدر السيادة وهو صاحبها، في حين أن السيادة قد أصبحت في وقتنا إما ملكا للشعب أو للأمة. ومن ثم فقد أضحى دور الحاكم مقتصرا على مباشرة جملة من الصلاحيات السياسية والقانونية المحددة بالأساس في الدستور، والتي في الواقع لم تعد في منأى عن الرقابة والمحاسبة، مما جعل إمكانية تسليط  الجزاءات التي ينص عليها الدستور أمرا واقعا في العديد من الدول.

- يتجاهل دور قواعد الدستور في حفظ السلم الاجتماعي داخل الدولة، ولذلك فإنه إذا تمادى الحاكم في خرق قواعده وعدم احترامها، فإن الجزاء على ذلك قد ينتقل من الجزاء المنظم دستوريا إلى جزاءات أخرى غالبا ما تكون أعنف من الإكراه المادي الذي يعتد به هو (أوستن)، كما في حالة وجود هيجان للرأي العام وسخطه من الوضع السائد الذي قد يصل إلى حد محاولة تغييره بالقوة من خلال الثورة أو الانقلاب على الحاكم وإبعاده من الحكم.  

       وعلى النقيض، هناك اتجاه يرى بأن قواعد الدستور هي قواعد قانونية بأتم معنى الكلمة.  إلا أنه يلاحظ على هذا الاتجاه بأنه منقسم إلى فريقين، هما:

1. فريق يعتبر قواعد الدستور قواعد قانونية رغم عدم توافرها على عنصر الجزاء، وذلك لأن هذا الأخير بحسبهم غير ضروري لاكتساب القاعدة صفتها القانونية، وهذا طالما أن المخاطبين بها يشعرون بوجوب احترامها.

2. فريق يعتبر الجزاء أمرا لا يمكن الاستغناء عنه في القاعدة القانونية، غير أنه لا يشترط فيه أن يكون دوما من قبيل الإكراه المادي؛ إذ يمكن أن يكون جزاء معنويا، وهذا لأنه لما كان توقيع الجزاء المادي منوطا فقط بالسلطة العمومية من جهة، ولما كان من جهة أخرى القانون أسبق في الوجود من السلطة العمومية، فإن العبرة تكون بوجود الجزاء لا بالجهة التي توقعه أكانت السلطة العمومية أم من غيرها.

       وأما الرأي الراجح فقها فإنه يرى بأن قواعد الدستور هي قواعد قانونية لأنها تحتوي على جزاء يتماشى وطبيعتها حتى وإن كان يختلف عن الجزاء المادي الذي تتوافر عليه باقي فروع القانون. ومن صور هذا الجزاء نذكر: الجزاء السياسي الذي يترتب على إقرار المسؤولية السياسية، ويكون بالنسبة لرئيس الجمهورية بعدم تجديد الثقة فيه عند ترشحه لعهدة أخرى، ويكون بالنسبة للحكومة بوجوب تقديم استقالتها لرئيس الجمهورية في حالة مصادقة (3/2) نواب المجلس الشعبي الوطني على ملتمس الرقابة، أو في حالة عدم موافقة النواب على لائحة الثقة التي يطلبها الوزير الأول من المجلس الشعبي الوطني. وأما بالنسبة لهذا الأخير فتكون بحل رئيس الجمهورية له مباشرة أو من خلال دعوته لانتخابات تشريعية مسبقة. ومن صور الجزاءات الدستورية نذكر أيضا:

- تدخل رئيس الجمهورية لإصدار مشروع قانون المالية في حالة تقاعس البرلمان عن المصادقة عليه في أجل (75) يوما من تاريخ إيداعه بمكتب المجلس الشعبي الوطني.  

- سقوط حق رئيس الجمهورية في إصدار القوانين التي لم يبادر بإصدارها في الآجال المحددة لذلك، ويتولى إصدارها بدلا عنه رئيس المجلس الوطني (المادة 51 من الدستور الجزائري لسنة 1963).

- إذا ارتأى المجلس الدستوري أو قرر عدم دستورية معاهدة أو نص تشريعي أو تنظيمي، فإنه لا يسمح بتطبيقه، وذلك بالامتناع عن المصادقة على المعاهدة المعنية، أو بالامتناع عن إصدار التشريع أو التنظيم المعني، وفي حالة إصداره فإنه يعتبر لاغيا بقوة الدستور ابتداء من يوم قرار المجلس الدستوري

2. أنواع الدساتير

تنقسم الدساتير إلى عدة أنواع، وهذا بالنظر إلى تعدد المعايير المعتمدة في تصنيفها. ولكننا سنكتــفي هنا بذكر أهم هذه الأنواع، وهما الدساتير المدونة والدساتير العرفية، والدساتير الجامدة والدساتير المرنة

2.1. الدساتير المدونة والدساتير العرفية

تنقسم الدساتير من حيث التدوين إلى دساتير مدونة (مكتوبة) ودساتير عرفية (غير مكتوبة) والدستور المكتوب هو الدستور الذي تكون قواعده الأساسية والمهمة مدونة في وثيقة رسمية أو أكثر من طرف سلطة مختصة وفقا لإجراءات عادة ما تكون متميزة ومعقدة مما يضفي على الدستور هالة كبيرة تجعله يحتل قمة هرم النظام القانوني للدولة. وهو ما يعبر عنه فقها وقضاء بمبدأ سمو الدستور. وأقدم الدساتير المكتوبة في العالم هو دستور الولايات المتحدة الأميركية الذي وضع في 1787 ولا يزال ساري النفاذ. ويمتاز الدستور المكتوب بجملة من المزايا التي جعلت منه مطلبا أساسيا لحركات التحرر خلال القرن 19، بحيث يذهب بعض الباحثين إلى أنه خلال فترة وجيزة امتدت بين 1809 و1880 ظهر في العالم أكثر من 300 دستور مكتوب، كما جعلها من ضمانات ومقومات دولة القانون التي أصبحت مطلبا ملحا لكثير من شعوب العالم في مواجهة الاستبداد والحكم المطلق الذي عانت منه لفترات ليست بالقصيرة. ومن بين أهم ما تمتاز به الدساتير المكتوبة، نذكر:

- الوضوح والدقة التي عادة ما تحققها كتابة النصوص الدستورية، وهذا خاصة إذا ما كانت الصياغة التشريعية متقنة وخالية بشكل كبير من النقائص والعيوب.    

- يسهل معرفة قواعدها والرجوع إليها لتعلمها وتحديد مضمونها؛ مما يجعل أمر تطبيقها ومطالبة الهيئات الحاكمة باحترامها والتقيد بها يسيرا إلى حد ما.     

- تسهم في الحد من الاستبداد، وذلك لأنها تجعل المواطنين يعرفون ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، كما تجعلهم والحكام يعرفون الحدود والقيود المفروضة على ممارسة السلطة، وهو ما يعد مبدئيا ضمانة مهمة نحو التزام الحكام بعدم التعسف في ممارستها، سيما إذا ما توافرت عوامل أخرى كوجود مؤسسات فاعلة وذات تمثيل حقيقي، ووجود رأي عام قوي. 

ولكن ما يعاب على الدساتير المكتوبة هو: 

- أنها من الممكن ألا تساير بعد فترة من تطبيقها الواقع الذي لا شك يعرف يوما بعد يوم تطورات ومستجدات قد لا تواكبها نصوص الدستور المكتوب، والتي في حالة عدم خضوعها للتغيير و/أو التعديل اللازمين في الوقت المطلوب فإنها ستتعرض لأمرين أحلاهما مر، وهما إما أن يتم تجاوزها في التطبيق على الصعيد العملي (ويعرف بالتعطيل الفعلي للدستور)، وإما أن تتم محاولة تغييرها بالقوة والإكراه (الانقلابات والثورات).

- أنها قد لا تعكس في بعض الحالات تطلعات الشعب وطموحاته بقدر ما تعبر عن مصالح  فئة محددة غالبا ما تكون الحاكم وحاشيته.  

       وأما عن الدستور العرفي، فإنه يمكن تعريفه بأنه الدستور الذي يستمد أهم قواعده من الأعراف والممارسات والتفسيرات المتعلقة بتنظيم السلطة وممارستها، والتي على الرغم من استقرار وترسخ العمل بها في الدولة إلا أنها لم تدون كليا في وثيقة أو مجموعة وثائق رسمية، ولذلك فليس من الغريب أن نجد إلى جانب أبرز نموذج للدساتير العرفية في وقتنا الحالي، وهو الدستور الانجليزي، بعض القواعد مكتوبة على غرار مثلا: العهد الأعظم لسنة 1215، وملتمس الحقوق لسنة 1628، ووثيقة الحقوق لسنة 1688، وقوانين البرلمان لسنة 1911.

       ومع ما تتصف به الدساتير العرفية من مرونة لكونها وليدة راهن المجتمع ومعتقداته، وقدرتها بذلك على التغير و/أو التعدل بشكل آلي ويسير وفقا لما قد يشهده المجتمع من تطور، إلا أنها منتقدة بسبب أنها:

- تبقى غير ملائمة للنظم الديمقراطية التي تعتمد في قيامها على مدى وجود أسس واضحة ومعروفة سلفا بالنسبة للكافــة.

- تعطي مجالا أوسع للهيئات الحاكمة لابتداع أعراف وممارسات، وللقضاء لإعطاء تفسيرات، تصبح واجبة الاتباع باعتبارها قواعد دستورية، وهذا بدون الرجوع إلى صاحب السيادة ومصدرها في النظم الديمقراطية الحديثة وهو الشعب.   

- ما تزال يكتنفها الخلاف الدائر حول متى تكونت القاعدة العرفية.

       هذا ونشير إلى أنه يوجد اختلاف بين الدستور العرفي والعرف الدستوري، وذلك لأن هذا الأخير لا يثار إلا بالنسبة للدول التي تتبنى دساتير مكتوبة أين يتدخل في حالات معينة ليلعب دورا محددا يتلائم وما ينجم عن الصياغة التشريعية لقواعد الدستور المكتوب وأحكامه من عيوب ونقائص، بينما في الدول ذات الدساتير العرفية فإن الإشكال لا يثار فيها لأن العرف الدستوري في مجموعه هو من يشكل فيها بصفة أساسية الدستور، ولذلك فقد أضحت دساتيرها تعرف بالدساتير العرفية. وبالتالي لما كان قوام هذه الدساتير ووجودها مرتبط حتما بوجود العرف أصلا وغالبيته فيها، فإن علاقتها به تصبح واضحة ولا إشكال فيها لأنه في هذه الحالة يعد جزءا لا يتجزأ منها. بينما لما كانت الدساتير المكتوبة تعتمد في وجودها وقيامها في المقام الأول على التشريع الذي يشكل الأصل والعنصر الغالب فيها، فإن وجود العرف الدستوري إلى جانبها قد أدى إلى طرح إشكالية علاقتها به؛ أي بمعنى ثار الإشكال حول طبيعة الدور الذي يمكن للعرف الدستوري أن يقوم به في وجود الدستور المكتوب ؟  ومن هنا ظهرت للوجود أنواع العرف الدستوري المعروفة حاليا، وهي:

- العرف الدستوري المفسر: وهو العرف الذي يأتي فقط لتفسير ما غمض أو أبهم من قواعد وأحكام الدستور المكتوب، ومن ثم فهو لا يؤدي إلى وجود قاعدة دستورية جديدة لم يسبق للدستور المكتوب وأن تضمنها إما بشكل صريح أو ضمني. ونظرا لهذه الخصيصة فيه فإن الفقه الدستوري السائد يعتبره مشروعا وجزءا من الدستور المكتوب. ومثاله في فرنسا: العرف الذي فسر نص دستور 1875 على أن:(رئيس الجمهورية يكفل تنفيذ القوانين) بأنه يخول للرئيس إصدار ما يعرف باللوائح التنفيذية.

- العرف الدستوري المكمل: وهو العرف الذي يأتي لإكمال ما غفل عنه الدستور المكتوب من أحكام ولإتمام ما اعترى قواعده من نقص وثغرات. ونظرا لما يحمله هذا النوع من العرف الدستوري من جديد فيما يخص محتوى الدستور المكتوب بسبب دوره الإنشائي، فإن الفقه لم يتفق على مدى مشروعيته؛ بحيث ذهب البعض (دوفرجي) إلى اعتباره بمثابة عرف مفسر لأنه بحسبهم يقوم في هذه الحالة بتفسير سكوت المؤسس الدستوري بشأن تلك المسائل التي لم يتناولها بالتنظيم، ومدام العرف المفسر مشروع عند غالبية الفقه فكذلك يكون العرف المكمل مشروعا ويعد جزءا من الدستور المكتوب. لكن ذهب البعض (لافريير) الآخر إلى اعتباره بمثابة عرف معدل، وذلك لأن التعديل قد يكون بالإضافة كما يكون بالحذف، ولما كان العرف المكمل ينشئ أحكاما جديدة فإنه يكون عرفا معدلا بالإضافة، وهو ما لا يكون مشروعا إلا بإتباع واحترام الإجراءات والكيفيات المنصوص عليها في الدستور الجامد. ومن أمثلة هذا العرف الدستوري، نجد ذلك العرف الذي قيل بوجوده في فرنسا أثناء العمل بدستور 1875، أين نص هذا الأخير على أن الانتخاب يكون عاما ولكنه أغفل تحديد طبيعته، بمعنى هل هو انتخاب مباشر أم أنه غير مباشر، وفي ظل ذلك الوضع جرى العمل آنذاك على اعتبار الانتخاب العام يكون مباشرا، وهو ما عـد بمثابة عرف دستوري مكمل.  

- العرف الدستوري المعدل: وهو العرف الذي يأتي لإحداث تغيير جزئي في نصوص الدستور المكتوب، وذلك إما بإضافة أحكام جديدة إليها أو بحذف أحكام منها. والتعديل بالإضافة على خلاف العرف المكمل لا يأتي عند غياب النص، وإنما العكس هو يأتي ليغير في مضمون نص موجود من خلال إضافة شيء جديد له لم يكن يتضمنه في الأصل، وهو ما يعد في الواقع إعادة تنظيم للمسألة التي سبق للنص وأن نظمها من قبل. ومن أمثلته في فرنسا ذلك العرف الذي قيل بوجوده عندما كان البرلمان في ظل دستور 1875 يفوض للحكومة إصدار قواعد عامة عن طريق المراسيم، وهذا على الرغم من أن الدستور المذكور كان ينص على اختصاص البرلمان المطلق بالسلطة التشريعية، وبذلك فالعرف المعني قد أضاف حكما معدلا لما تضمنه الدستور المكتوب وهو إمكانية تفويض البرلمان سلطته التشريعية. وأما فيما يخص التعديل بالحذف، فإنه يأتي لإسقاط أحد نصوص الدستور المكتوب واستبعادها من التطبيق، وهذا النوع من العرف المعدل يعتبر في الغالب عرفا كاشفا، وذلك لأنه يبين سقوط نص من نصوص الدستور المكتوب عندما يجري العمل على تركه وعدم استعماله لفترة طويلة من الزمن، ومن ثم فهذا النص لا يمكن العمل به مستقبلا لأنه وإن وجد ماديا ضمن نصوص الدستور إلا أنه يعتبر في حكم الملغى. ومن بين الأمثلة الشهيرة على التعديل بالحذف نذكر أن عدم استعمال ملوك بريطانيا لحقهم في الاعتراض على القوانين منذ سنة 1707 قد جعل بعض الفقهاء الإنجليز يرون بأن هذا الحق قد سقط بموجب عرف دستوري.

       وعليه يمكن القول في الأخير بأن العرف الدستوري هو ما جرى واستقر العمل به على أنه واجب الاتباع فيما يخص مسائل دستورية ليس فيها نص دستوري أصلا أو فيها نص ولكنه غامض أو غير مكتمل. ويتضح من خلال هذا التعريف استبعادنا للعرف الدستوري المعدل بالحذف لأنه لا يمكن التسليم بمشروعيته في ظل الدساتير الجامدة نظرا لما في ذلك من مخالفة للغايات التي من أجلها وجدت هذه الدساتير وهي حمايتها من أي مساس قد يطالها من السلطات العمومية في الدولة خارج الأطر والإجراءات المحددة.

       وبذلك نخلص إلى أنه وإن كان العرف الدستوري يتفق والدستور العرفي في أن كلامهما قواعد غير مكتوبة مصدرها العرف، إلا أنه يختلف عنه في أن قواعد العرف الدستوري لا تشكل هي الأصل في الممارسة الدستورية، وذلك لأنها تدور وجودا وعدما مع الدستور المكتوب، ولذلك لا يتصور وجودها إلا لتفسيره أو تكميله أو لتعديله كما ذهب البعض. بينما على النقيض تعد قواعد الدستور العرفي هي الأصل في الممارسة الدستورية وليست القواعد المكتوبة، ولذلك لا نجد أن العرف في ظل الدستور العرفي يلعب ذات الأدوار التي يلعبها في ظل الدستور المكتوب

2.2. الدساتير المرنة والدساتير الجامدة

تنقسم الدساتير من حيث إجراءات تعديلها إلى دساتير مرنة ودساتير جامدة. ويكون الدستور مرنا إذا كان يمكن تعديله وفقا لنفس الإجراءات التي يسن ويعدل بها البرلمان  القوانين العادية. ولهذا فالدساتير المرنة لها نفس مرتبة القوانين العادية، ومن ثم فإن البرلمان يستطيع، من الناحية القانونية، إدخال ما يشاء من تعديلات على الدستور بما أنه يسن ويعدل بذات إجراءات سن وتعديل القانون العادي. وبهكذا لا يمكن القول في هذه الحالة بأن الدستور المرن يسمو على القوانين العادية على الأقل من الناحية الشكلية. ومن الدول التي لها دساتير مرنة نيوزيلندا، الصين، وبريطانيا.

       هذا ويكون الدستور جامدا إذا ما كانت إجراءات تعديله مغايرة، ولو بشكل يسير، للإجراءات التي يتم بموجبها تعديل القوانين العادية. وهذا التغاير في الإجراءات يظهر عادة في شكل:

- إجراءات خاصة ومعقدة يحظى بها التعديل الدستوري دون غيره، ويتجلى ذلك غالبا في الجهة التي يخول لها حق المبادرة بالتعديل الدستوري، أو في الإجراءات التي يتعين أن يمر ويصادق بها على التعديل المزمع القيام به.   

- حظر ومنع إدخال تعديلات على الدستور. والحظر قد يتعلق بوقت إجراء التعديل (الحظر الزمني)، وذلك بمنع إجراء التعديل خلال مدة محددة دستوريا قد تكون (05) سنوات مثلما نص الدستور الكويتي لسنة 1965 و/أو خلال ظروف معينة؛ فمثلا المادة 194 من الدستور الجزائري لسنة 1976 نصت على أنه لا يمكن الشروع في إجراء أي تعديل أو مواصلته إذا ما كان هناك مساس بسلامة التراب الوطني، وقد يحظر التعديل إلى غاية تحقق شرط معين، كاشتراط مثلا الدستور الأردني لسنة 1958  بلوغ ولي العهد سن الرشد.  كما قد يتعلق الحظر بموضوع التعديل (حظر موضوعي)، وذلك بحظر كل أو بعض مواد الدستور. وعلى كل، يمكن القول وأن الحظر ينقسم إلى أنواع: فمن جهة: يقسم إلى حظر زمني وحظر موضوعي، ومن جهة أخرى: يقسم الحظر الزمني إلى حظر نهائي وحظر مؤقت، ويقسم الحظر الموضوعي إلى حظر مطلق وحظر نسبي. وللإشارة، فإن هناك إجماعا على أنه لا يمكن حظر تعديل الدستور حظرا مطلقا ونهائيا ولو جد نص على ذلك لأنه باطل ولا قيمة له. وأما الحظر الزمني فإن الغرض منه عادة هو محاولة إرساء وترسيخ نظام سياسي جديد أقامه الدستور الممنوع تعديله، أو هو السماح بتطبيق الدستور لفترة محددة من الزمن دون إمكانية المساس به خلالها.

       ويمكن في الأخير القول وأن الدساتير الجامدة تمتاز:

- بالثبات والاستقرار، وهذا لأن الجمود يجعلها في منأى عن أهواء الأغلبية البرلمانية.

- بالاحترام ونوع من القدسية لدى الأفراد.

- بكون جمودها ينصرف إلى كل المسائل المتضمنة فيها ولو لم تكن من طبيعة دستورية.

- باحتلالها قمة هرم النظام القانوني في الدولة، أي سموها على غيرها من القواعد القانونية، وهو ما يطرح ضرورة وجود آلية تسهر على فرض احترامها (الرقابة على دستورية القوانين)