5. المنهج التاريخي

يعنى علم التاريخ بدراسة الحوادث الماضية من أجل فهم الحاضر و من ثم التنبؤ بالمستقبل و من خلال ذلك فإن الباحث في مجال علم التاريخ يقوم بتحليل الأحداث الماضية و تفسيرها بهدف الوقوف على مضامينها و تفسيرها بصورة علمية تحدد تأثيرها على الواقع الحالي للمجتمعات()

  يقول عبد الرحمن بن خلدون في أهمية الاستعانة بالتاريخ :

"إن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على الأحوال الماضيين من الأمم في أخلاقهم و الأنبياء في سيرهم و الملوك في دولتهم و سياستهم حتى تعم فائدة الاقتداء في ذلك لما يرونه في أحوال الدين و الدنيا، فهو (أي المؤرخ) محتاج إلى معارف متنوعة و حسن نظر و تثبت يفضيان إلى الحق و ينكبان عن المزلات و المغالط .

لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل لم يؤمن مزلة القدم ، و التاريخ في ظاهرة لا يزيد عن أخبار الأيام و الدول و السوابق من القرون الأولى و في باطنه (أي التاريخ) نظر و تحقيق و تحليل و علم بكيفيات الوقائع و أسبابها()

  و الجدير بالذكر أن بعض الباحثين يرون أن التاريخ لا يعتبر علما باعتبار أن من يقومون باسترجاع الأحداث الماضية لتحليلها لا يقومون بملاحظة الظواهر التي حثت فعلا حتى يمكن لهم دراستها بطريقة موضوعية و أن المؤرخين يعتمدون على الاستماع أو النقل عن الآخرين أو القيام بتجميع بعض المقالات المنشورة هنا و هناك و في كل هذه الحالات ،فإن الأمر يتطلب الحيطة و الحذر لتفادي الوقوع في الخطأ أو التأويل غير الدقيق للظواهر التي وقعت في الماضي()

إلا أن كل ذلك لا يقلل من امكانية استخدام المنهج التاريخي في البحوث ، لأن علم التاريخ عبارة عن قواعد ذات دلالات هدفها تحليل و تحقيق للكائنات من خلال سرد أو إيراد علمي منطقي للوقائع و أسبابها من لحظة تحققها في الماضي إلى غاية الوقت الحالي .

من خلال كل ذلك عرف بعض الباحثين التاريخ بأنه"التدوين للأحداث الماضية" و عرفه البعض الآخر "وصف الحقائق التي حدثت في الماضي بطريقة تحليلية ناقدة"

  من خلال ذلك ، نلاحظ أن علم التاريخ لا يمكن فصله عن المنهج التاريخي ،و ذلك باعتبار البحث أو التقصي العلمي وسيلة موضوعية هدفها الوصول إلى نتائج أو قوانين أو قواعد يمكن تعميمها و استخدامها للتنبيء بما قد يحدث في المستقبل ضمن السياق التاريخي.

  بعدما تطرقنا إلى تعريف التاريخ ، من الضروري أن نعرف الآن المنهج التاريخي ، فما هو المنهج التاريخي ؟و ماهي خصائصه؟

تعريف المنهج التاريخي:

  تعرف الدكتورة ليلى الصباغ المنهج التاريخي بأنه"مجموعة الطرائق و التقنيات التي يتبعها الباحث التاريخي ، و المؤرخ للوصول إلى الحقيقة التاريخية و إعادة بناء الماضي ، بكل دقائقه و زواياه ، و كما كان عليه في زمانه ،و مكانه و بجميع تفاعلات الحياة فيه، و هذه الطرائق قابلة دوما للتطور ، و التكامل مع تطور مجموع المعرفة الإنسانية و تكاملها و نهج اكتسابها"

  إذن يمكن القول أن المنهج التاريخي هو ذلك المنهج الذي يقوم على طريقة علمية يتبعها الباحث من أجل الوصول إلى المعرفة و الحقيقة ، و يتبع في ذلك الدراسة التحليلية للظاهرة المدروسة من خلال الإطار الزماني و الإطار المكاني ، و يكون ذلك وفق خطوات معينة تعتمد على المصادر التاريخية من أجل فهم الظاهرة كما هي في الوقت الحالي.

خصائص المنهج التاريخي:

  يتميز المنهج التاريخي بأنه يسعى إلى سد فجوات الوقائع و الأحداث الاجتماعية و السياسية ، كما يزودنا بإحساس تاريخي لأن الأحداث التاريخية ليست منعزلة أو المستقلة عن بعضها البعض،و إنما هي مترابطة في سياق زمن محدد.

خطوات المنهج التاريخي:

من أجل دراسة الظاهرة التاريخية يتطلب من الباحث أن يتبع الخطوات التالية :

1- تحديد الظاهرة محل الدراسة و البحث

2- جمع المعلومات و المصادر التاريخية بشأن الظاهرة المدروسة

3- نقد المصادر التاريخية

4- عملية التركيب و التفسير التاريخي

5- الوصول إلى نتائج

1- تحديد الظاهرة التاريخية ( المشكلة التاريخية)

  إن تحديد الظاهرة التاريخية يتعلق بتحديد المشكلة التي يريد الباحث التصدي لها في بحثه.

و يستعين الباحث في مجال العلوم القانونية بالمنهج التاريخي حيث يقوم بتحديد الظاهرة التاريخية المتعلقة بموضوع بحثه و مثال ذلك : أصل الدولة و نشأتها في مجال القانون الدستوري – التطور التاريخي للعقوبات في النظم القانونية المختلفة ....إلخ

2- جمع المعلومات و المصادر التاريخية :

  تعتبر مرحلة جمع المعلومات و الوثائق و المصادر التاريخية من أهم مراحل المنهج التاريخي، و يكن تقسيم المصادر التاريخية إلى قسمين: مصادر أولية ، و مصادر ثانوية

   * المصادر الأولية : تتمثل في الآثار و الوثائق الرسمية مثل المعاهدات و الاتفاقيات و الخطب ، و المؤتمرات الصحفية ..... و تسمى هذه المصادر كذلك بالمصادر الأصلية أو المباشرة

   * المصادر الثانوية : و تتمثل في كل ما نقل و كتب بالاستناد إلى المصادر الأولية و يمكن القول أن المصادر الثانوية هي الأعمال العلمية و الأدبية التي تكتب تحليلا للمصادر الأولية.

3- نقد المصادر التاريخية:

  تعتبر هذه المرحلة بالنسبة للباحث من أصعب مراحل البحث التاريخي لأنها تتعلق بنقد الوثائق التاريخية التي تشكل الركيزة الأساسية للدراسة التاريخية.

  و تتعلق هذه المرحلة بالبحث عن صحة الوثيقة المعتمد عليها في البحث التاريخي و التأكد من شخصية أصحابها و مدى نسبتها لهم، بمعنى أن الباحث يتطرق إلى مدى صحة أو خطأ أو تزييف المصادر التاريخية.

  و النقد الذي يقوم به الباحث إما أن يكون نقدا خارجيا أو نقدا داخليا.

 * النقد الخارجي : و يتعلق بالتأكد من صحة الوثيقة من خلال مظهرها الخارجي و علاقتهما فعلا بعصر من العصور التي صدرت فيها من خلال الدراسة الزمانية و المكانية انطلاقا من نوع الخط و اللغة المستعملة في الكتابة و شخصية مؤلفها و ربط زمن صدور الوثيقة بحياة شخصية هذا المؤلف.

  * النقد الداخلي : و يسمى بالنقد الباطني ، و يتعلق النقد الداخلي بالتفاصيل الموضوعية التي تتضمنها الوثيقة و هو نوعان :

  - نقد باطني إيجابي ( نقد داخلي إيجابي) و يتعلق بتفسير النص التاريخي و هدف المؤلف منه.

  - نقد باطني سلبي ( نقد داخلي سلبي) و يتعلق بتحليل شخصية المؤلف و ظروفه ، مدى صة ما ورد من حوادث .

من خلال ذلك فإن النقد الداخلي يفرض على الباحث أن يقارن الوثيقة التاريخية المعتمدة في البحث مع وثائق أخرى صادرة عن نفس الشخص لمعرفة مدى تطابق الآراء الواردة فيها أو تناقضها أو تقاربها ، لأن التضارب قد يدلنا على أن الوثيقة منسوبة إلى شخص آخر.

كما يقوم الباحث بدراسة الفترة الزمنية التي كتبت فيها تلك الوثيقة و هل تتوافق مع ما ورد فيها و ذلك من خلال وثائق أخرى.

كما يقوم الباحث بدراسة كل الوثائق التي تتعلق بنفس الظاهرة المدروسة و معرفة مدى انسجامها مع بعضها البعض من حيث مضمونها.

4- عملية التركيب و التفسير التاريخي:

بعد الانتهاء من عملية نقد المصادر التاريخية يقوم الباحث بالانتقال إلى عملية التركيب و التنظيم و كذلك التفسير استنادا إلى التفسير السببي للظاهرة التاريخية.

 و يتتبع الباحث في هذه العملية خطوات معينة هي :

-تكوين محصلة واضحة للباحث حول كل حقيقة من الحقائق التي جمعها و اكتشفها.

- يقوم الباحث بتنظيم الحقائق المتوصل إليها عن طريق تصنيفها إلى حقائق جزئية استنادا إلى التسلسل التاريخي للأحداث.

- ملء الفراغات التي تحدث أثناء تصنيف الحقائق ، و يؤدي ذلك إلى اسقاط حوادث لم ترد في الوثائق أو استنتاج حوادث لم يتم ذكرها في الوثائق و لكنها وقعت.

- استعمال عملية ربط العلاقات بين الحقائق التاريخية ربطا حتميا و سببيا بمعنى الخضوع إلى عملية التسبيب و التعليل التاريخي.

5- الوصول إلى استخلاص النتائج :

  و هذه المرحلة الأخيرة حيث يتوصل المؤرخ أو الباحث إلى مجموعة من النتائج.

هذه هي خطوات المنهج التاريخي الذي يستخدمه المؤرخ في دراسته التاريخية العلمية ، كما يمكن تطبيق المنهج التاريخي في الدراسات القانونية و السياسية ،و هذا ما سنحاول التطرق له فيما يلي

  المنهج التاريخي في العلوم القانونية

تستعين العلوم القانونية بمختلف فروعها بالمنهج التاريخي ،فإذا درسنا أصل القانون أو تطور حركة التشريع ، فلا بد أن نرجع إلى الحضارات القديمة ، و كمثال على ذلك الحضارة البابلية ، فقد عرفت هذه الأخيرة ما يسمى بــ"قانون حمورابي"،و في الحضارة الرومانية هناك"الألواح الأثني عشر لجوستنيان" و بذلك فعند دراستنا للنظم القانونية السابقة لا بد علينا استخدام المنهج التاريخي .

  و عند دراستنا للعقوبة و تطورها التاريخي عبر النظم القانونية المختلفة لابد علينا التقيد بظوابط المنهج التاريخي في هذه الدراسة العلمية.