2. الروح العلمية وخصائصها

-الروح العلمية

   من المعروف، أن الإنسان قبل ممارسته لأي نشاط أو عمل أن يستعد له، من خلال تهيئة الظروف والشروط التي تحقق وتضمن النجاح فيه لاحقا. كذلك هو الأمر بالنسبة للبحث العلمي، فالباحث العلمي لا يمكنه الانطلاق في مغامرة البحث إلا بالتحضير الذهني له وهو ما يسمى بالروح العلمية.

   فالروح العلمية هي"سلوك يتميز ببعض الاستعدادات الذهنية الأساسية بالنسبة إلى الطريقة العلمية"[xi]. وعليه فالروح العلمية عبارة عن استعداد ذهني خاص يكتسب عن طريق الممارسة والتجربة، بمعنى أن الانغماس في عملية البحث العلمي هو السبيل لتنمية القدرات الخاصة بالروح العلمية. والتدرب على الروح العلمية ليس أمر سهل، لأن الأمر يتطلب جهدا كبيرا لكن وبمجرد إكتسابه لها، سيشعر بالارتياح والسعادة في ميدان البحث، كما أن النتائج العلمية التي سيتوصل إليها لاحقا ستكون موثوقة ودقيقة، لأنها بنيت على أسس علمية صحيحة. ونؤكد هنا أن إكتساب الروح العلمية أمر ضروري لجميع من يمارس البحث العلمي سواء كان طالب مبتدئ أو باحث متمرس ومحترف[xii].

-خصائص الروح العلمية

   تتميز الروح العلمية بستة استعدادات ذهنية وهي: الملاحظة، المساءلة، الاستدلال، المنهج، التفتح الذهني، وأخيرا الموضوعية. ولكل واحدة من هذه الاستعدادات دور في إنجاز البحث العلمي (أنظر الشكل).

1- الملاحظة

   الملاحظة في البحث العلمي هي الفضول والاهتمام بشيء معين، فهي مرادف للرغبة الإيجابية في الإطلاع. وهذه الصفة تتواجد عند جميع الأشخاص لكن بدرجات متفاوتة لكن وجودها عند الباحث بدرجة عالية أمر ضروري، فالباحث من خلال ملاحظته يسعى دائما لمعرفة أي شيء عن كل شيء، وبالتالي فإن روح الملاحظة هي روح فضولية.

   يظهر الاستعداد الذهني للروح العلمية من خلال الميل للاهتمام بكل ما يحيط بنا . فكلنا قد وجدنا في أماكن عامة، وقمنا بملاحظة المحيط حولنا، وهذا الأمر يعبر على الرغبة في الكشف عما تخفيه المظاهر الخارجية، وفي الحقيقة هو يمثل خطوة أولى من جهد لمحاولة فهم محيطنا.

   يقول موريس أنجرس أن الروح العلمية التي تميل إلى الملاحظة تمر بمراحل. وإستنادا إلى تقسيمSelye  (1973) فإن روح الملاحظة تمر بثلاث مراحل تتمثل في: الإدراك، التعرف والتقييم. فالإدراك يتم بالمعاينة أو المشاهدة لظاهرة أو شخص ما، ثم يأتي التعرف، الذي يربط ما تشاهده العين بالمعارف السابقة، وفي الأخير، يتم تقييم ما تم مشاهدته وفق معيار محددة، كالمعرفة المسبقة من عدمها أو استخراج الصفات والمظاهر الخارجية. وجميع هذه العمليات تتم في الذهن في وقت وجيز ولكن لا يمكن دائما الوصول إلى كل هذه المراحل. وهنا يكمن الفرق بين الانسان العادي الذي يكتفي بالملاحظة البسيطة، وبين الباحث الملتزم بالروح العلمية الذي عليه أن يمر بجميع المراحل الثلاث السابقة.

  تكمن أهمية روح الملاحظة، في أنها المرحلة الأولى للتحقق من الفرضيات التي وضعها الباحث لبحثه، عن طريق ربط الجانب النظري مع الواقع، وهو السبيل للوصول إلى عمل يقوم على أسس علمية. فالملاحظة بالنسبة للعلماء هي إنشغال أساسي ينبغي أن يظل تفكيرهم متشبثا به، كما يتشبث سائق السيارة بالطريق.[xiii]

2-المساءلة

   يقول غاستون باشلار "بالنسبة إلى الروح العلمية، فإن كل معرفة هي جواب لسؤال. إذا لم يكن هناك سؤال، لا يمكن أن تكون هناك معرفة علمية"[xiv]. فالمعرفة العلمية تنطلق من المساءلة التي تعتبر بمثابة المفتاح الذي لا غنى عنه لفتح أبواب المعرفة، فالملاحظة في العلم لا تتم دون تحضير حيث يجب أن تكون دائما مسبوقة بتساؤلات تقود إلى التركيز على بعض الوقائع وتجاهل وقائع أخرى.

   يفسر طرح الأسئلة في العلم بالتشكيك في الأسس التي تقوم عليها الأشياء والمسلمات، وهذا الأمر نابع من الفكر الحر، الذي يتميز بالشك الإيجابي أي القدرة على عدم قبول الأشياء وكأنها مكسب أبدي. والشك بهذا المفهوم يمكن من أن يؤدي إلى الاكتشافات. وفي نفس السياق، يدخل مفهوم الفكر النقدي أي الفكر القائم على التساؤل قبل قبول أي فكرة مهما كانت، وهذا لا يعني اتخاذ موقف مخالف دائما لما تم التوصل إليه، بل ينبغي الإيمان، ببساطة، بأنه لا يوجد يقين مطلق في العلم.

   تظهر أهمية روح التساؤل في عدم إمكانية الاستغناء عنها في عملية البحث، باعتبار أنها المحدد لموضوع البحث. فالسؤال يمثل نقطة الانطلاق، طالما أن الوقائع لا تكشف بنفسها عن مكامنها، فإذا تم الاستغناء عن التساؤل الهادف أثناء عملية الملاحظة، فمهما طالت مدة هذه الأخيرة، فإنها ستكون خالية من أي قيمة مفيدة للمعرفة العلمية.[xv] 

3-الاستدلال

   يقول موريس أنجرس أن " المساءلة ليست اعتباطية ولا هي عفوية، بل هي نتيجة لفعل رزين ومتعقل وقائم على الاستدلال، وبالتالي فإن العقل يفرض نفسه كأداة مفضلة".

  فالاستدلال هو فعل التصور عن طريق الذهن، يستعمله العقل بطريقة موهوبة، فيقوم بتوظيف الأدوات الفكرية الضرورية من أجل الوصول إلى التقصي والتساؤل عن طبيعة الأشياء والكائنات.

   تتمثل الأداة الأساسية التي تستند عليها روح الاستدلال في التجريد، ففعل التجريد في الواقع هو القيام بعملية عزل جزء مكون لكل بواسطة التفكير. كفصل عنصر ما من عناصر الظاهرة، واعتباره مستقلا عن بقية العناصر. إذن الاستدلال يساعد على تفكيك الظاهرة محل الدراسة بتجريد عناصرها التي بنيت عليها، وبالتالي الوصول إلى الحقائق التي ساهم تجمعها بطريقة معينة في تشكلها.

4-المنهج

   إن القيام بالمراحل السابقة من ملاحظة قائمة على التساؤل المبني على الاستدلال، لا تتم بطريقة فوضوية، وإنما لابد من القيام بها وفق منهج محدد. والمنهج هو مجموعة من الاجراءات والطرق الدقيقة المتبناة من أجل الوصول إلى نتيجة. يعرفه المعجم الفلسفي بأنه "وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة"[xvi]. فالمنهج عبارة عن طريق أو مسلك ضروري وصارم، على كل من يمارس البحث العلمي السير وفقا له، من أجل الوصول إلى نتائج دقيقة. كما أنه يمثل سلسلة من المراحل المتتالية التي ينبغي اتباعها بكيفية منسقة ومنظمة[xvii].                                                                                                                                

   تعتمد صحة أي بحث علمي على المنهج المعتمد فيه. وبشكل عام، فإن هناك مجموعة من المسلمات التي يؤمن بها المنهج العلمي وينطلق منها في دراسة الظواهر نشير إليها كما يلي:

-يفترض المنهج العلمي أن لكل ظاهرة سبب أو أسباب أدت إلى ظهورها تستشف من الحوادث التي سبقتها.

-يؤمن المنهج العلمي بأن الظواهر الطبيعية تتصف بالثبات نسبيا، من خلال احتفاظها بخصائصها ومميزاتها لمدة محددة في ظروف محددة، لذلك يتمكن الباحث من دراستها والوصول إلى نتائج علمية، فلو كانت سريعة التغير لما أمكنه دراستها لتغيرها أثناء مراحل البحث.

-يؤمن المنهج العلمي بأن بعض الظواهر والأشياء متشابهة بصفة كبيرة، لذا يمكن تصنيفها إلى فئات يمكن تعميم النتائج عليها.

   فالباحث المنهجي يؤمن بوجود هذه المسلمات، لذا يقوم بتوجيه جهده للبحث عن الترابط الموجود في الظواهر والعلاقات القائمة بينها، وهذا ما يؤدي إلى إنشاء النظرة المنظومية أو التنظيمية. فمثلا إذا انطلق الباحث من فكرة أن الظاهرة الاقتصادية تؤدي إلى الهجرة، فإنه يصل بالتبعية إلى أن الهجرة تؤثر على ظواهر أخرى، اجتماعية أو تربوية أو أخلاقية، لترابط هذه العوامل مع بعضها.[xviii]

  تظهر أهمية المنهج في البحث العلمي في أن الباحث عندما يسير وفق منهج دقيق فإنه يصل إلى نتائج صحيحة، وهو ما يجعله مطمئنا أثناء عملية البحث ومتأكدا مما سيصل إليه، ما يعني نجاحه في عمله[xix].

5-التفتح الذهني

   التفتح الذهني هو عبارة عن موقف أو سلوك يسمح بتصور طرق جديدة في التفكير. فهو يساعد على قبول إمكانية عدم تطابق الواقع مع تفكيرنا أو مع المعرفة العامية المقبولة من طرف أغلب الناس، والتي تعرف بالحس المشترك.

  يجب على الروح العلمية أن تتقبل تجاوز الأحكام المتفق عليها، وأن تبتعد عن العفوية في التفكير، وأن ترضي بالتصورات المغايرة للأشياء غير تلك التي تعودت عليها. كما تتطلب مزيدا من التحكم في الذات، بتربيتها على ترك الأحكام المسبقة، وقبول النتائج حتى لو كانت مناقضة للأفكار المكتسبة أو لما تم التعود عليه.

   تكمن أهمية التفتح الذهني في أنه يعمل على إكتشاف الأبعاد الجديدة للظاهرة محل الدراسة، التي يمكن للخلفيات والأفكار السابقة أن تحجبها أو ترفض الإقتناع بها، خاصة وأن العقل إذا تعود على شيء ما يصبح غير قادر على رؤية ما هو جديد. وكما هو معروف فإن العلم يتطور عن طريق رفض الأفكار القائمة ودحض النتائج السابقة، لذا يقول Kuhan وهو أحد فلاسفة العلوم، أن الثورات العلمية تنشأ عندما يتجرأ العلماء على سلوك الممرات غير تلك المعتادة، وذلك عندما يشعرون بأنهم غير قادرين على إيجاد حل لظاهرة غير عادية ضمن النظرية والتجارب السابقة. فهم يصارعون من أجل رؤيتهم الجديدة للعالم[xx].

  باختصار، فإن الذهن المتفتح يبحث باستمرار عن الانفصال عن الأفكار المسبقة، وهذا لا يعني نفي جميع المعارف السابقة، بل لا ينبغي قبولها دون اختبارها. فالمعرفة العامية شيء، والمعرفة العلمية شيء مغاير تماما، ودور التفتح الذهني يكمن في ضرورة الاحتياط من الأولى وإعادة تقييم الثانية.[xxi]

 6-الموضوعية

   الموضوعية هي ميزة من يتطرق للواقع بأكبر صدق ممكن. ويكون ذلك باستبعاد العوامل الشخصية والعاطفية والمجاملات من البحث العلمي، وبالتالي انجاز الدراسة بحياد، وبمنأى عن التحيز والمحابات والمحسوبية، وهو ما يفرض على الباحث التحلي بصفات النزاهة والأمانة والصدق في جميع مراحل البحث. وفي هذا يقول ابن خلدون" فإن النفس إذا كانت في حال الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى يتبين صدقه من كذبه، ولكن إذا خامرها تشيع لرأي أو محلة فإن التشيع يحد الباحث من حريته ويجعله أسيرا لهذا الرأي"[xxii].

   ورغم أنه من الصعب جدا مناقضة الشخص لنفسه وذاته باتخاذ الموضوعية كعنوان لبحثه، إلا أن اتخاذ الحيطة والحذر من كل العوامل الذاتية تعد خطوة أولى نحو الموضوعية، فالشخص الموضوعي هو الذي يتنكر لذاتيته ويجعل مصلحته وطاقته كلها في خدمة مشروع البحث الجاري إنجازه.

   يلعب النقد دورا مهما وضروري للابقاء على درجات عالية من الموضوعية، لذا وجب على الباحث أن يستعين بزملائه في الميدان العلمي، أو ما يعرف بالمجموعة العلمية، في تقييم عمله من خلال التغذية الراجعة، وقبول أراء الغير ونقدهم بصدر رحب. خاصة وأن الانتقادات هي الضمان الأكثر يقين لاستمرار الموضوعية في عمل ما. [xxiii]

خاتمة

   في نهاية هذا البحث نستخلص أن منهجية البحث العلمي تقوم على ثلاث عناصر أساسية  تتمثل في، أولا، نشاط البحث العلمي في حد ذاته، والذي يسعى دائما لتفكيك المعرفة السابقة، من أجل إيجاد معارف جديدة، تساعد على فهم الواقع، وإيجاد الحلول للإشكالات القائمة. وثانيا، الكادر البشري المتمثل في الباحث باعتباره المحرك الأساسي للنشاط البحثي، والذي لا يمكنه توجيه نشاطه والوصول لنتائج دقيقة وصحيحة، إلا إذا توفر فيه صفات وخصائص منها الذاتية ومنها الموضوعية، هذه الأخيرة هي التي تعرف بالروح العلمية.

   تتميز الروح العلمية بستتة استعدادات ذهنية هي: الملاحظة، المساءلة، الاستدلال، المنهج، التفتح الذهني والموضوعية. وكل واحدة منها تستعمل أدوات خاصة بها لها دور في إنجاز مرحلة من مراحل البحث العلمي. فالملاحظة من خلال المشاهدة والمعاينة تساعد على التحقق من الفرضيات، والمساءلة من خلال الشك الإيجابي تعمل على تحديد موضوع البحث، أما الاستدلال عن طريق التفكير التجريدي تستطيع استخلاص مشكل البحث، ويلعب المنهج دور المنظم والمنسق للبحث، كما أن التفتح الذهني يسمح بواسطة العفوية في التفكير والنظرة المغايرة للواقع، بالابتعاد عن الأفكار المسبقة. وأخيرا تبقى الموضوعية عن طريق التصادم مع الذاتية وقبول النقد مثلا أعلى ينتظر بلوغه.