1. النظرية الوظيفية التقليدية
تقوم الوظيفية على منهج معاكس للمنهج الدستوري، اذ ان منطق التكامل لا يجب ان يكون فوقيا(دستوريا)، بل بالتركيز على التعامل مع الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في المقام الاول.
وتهدف الوظيفية الى تجنب قضايا ومجالات النزاع لتركز على قضايا ومجالات التعاون. وتحاول خلق شبكة كثيفة من المصالح والاهتمامات المشتركة بين الدول وهو ما يؤدي في نهاية الامر الى اقامة مجتمع دولي مسالم وخال من الحروب عبر التعاون في المجالات الاقتصادية والمنفعية.
ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى لاحظ ميتراني أن الدولة القومية عاجزة من حيث الإمكانيات عن تحقيق السلام أو تحسين المستوى الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيها، واعتبر أن الصراع والحرب هما نتيجة تقسيم العالم الى وحدات قومية منفصلة ومتناحرة، وكبديل لهذه الوضعية اقترح ميتراني الإنشاء التدريجي لشبكة من المنظمات الاقتصادية والاجتماعية عبر القومية والعمل على تشكيل وقولبة التوجهات والولاءات لجعل الجماهير أكثر تقبلا للتكامل الدولي.
يقول ميتراني: "ان تزايد التعقيد في النظم الحكومية ادى الى تزايد كبير في الوظائف،لم تؤد فقط الى زيادة الطلب على الاختصاصيين المدربين على المستوى الوطني، لكنها لعبت دورا في المشكلات الفنية على المستوى الدولي، واذا اصبح من الممكن ايلاء مثل هذه المشكلات للمتخصصين، وفصل نشاطهم الى حد ما عن القطاع السياسي، فانه من الممكن انجاز التكامل الدولي".
وتعتبر هذه المدرسة ان التعاون في مجالات السياسة الدنيا يتم من خلال اعطاء الخبراء والفنيين سلطة كافية وذلك بمنحهم الصلاحيات المطلقة في اعداد وتنفيذ السياسات في المجالات الدنيا. وهذه السياسات لا بد ان يكون لها مردود منفعي على قطاعات واسعة في الدول المعنية ، كما انها ستؤدي حتما الى خلق تعاون في مجالات اخرى وفق مبدا التعميمramification او الانتشار spill-over . وهكذا تصبح السلطة السياسية اسيرة شبكة من الانساق المصلحية وتصبح الدول غارقة في التفاعلات التي تتسع مع الوقت، بحيث يصبح ثمن تعطيل الاطر الوظيفية الجديدة من قبل السلطة السياسية امرا مكلفا جدا. وعليه فان التركيز يتوجه الى توفير لرفاه والرخاء الاقتصادي بدل الدخول في متاهات وصراعات السياسة العليا.
وحسب الاتجاه الوظيفي، فانه ليس ضروريا ان يحدث اي تغيير في البنية السياسية للدولة باتجاه انصهار سياسي، ولكن ما يحدث هو ان دور الدولة ومفهوم السيادة يفقدان قيمتهما العالمية، وتتحول هذه القيمة وهذا الدور الى المنظمات الوظيفية المتخصصة، مثل الرجوع الى منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي ...اي ان مفهوم السيادة يتغير.
على العكس من النظريات الدستورية التي تعتبر القرار السياسي هو المتغير المستقل في تحديد التكامل تنظر المدرسة الوظيفية بعين الحذر إلى القرار السياسي والمسائل المتعلقة بالسيادة فتعتبرها من المسائل الحساسة التي ينبغي تفاديها على الأقل في المراحل الأولى من التكامل حيث تحرص الدول والسلطات القائمة فيها بشدة على عدم التفريط فيها وتدعو غلى التركيز على التكامل في الميادين الفنية والاقتصادية والثقافية التي لا تتمتع بهذه الدرجة من الحساسية ومن ثم يميز الوظيفيون بين نوعين من السياسات : السياسات العليا وهي تلك الميادين الحساسة المتعلقة بالسيادة مثل الدفاع والسياسات اله خارجية والسياسات الدنيا وهي الأقل حساسية وأكثر قابلية للاندماج مثل الميادين الاقتصادية والعلمية والرياضية ...إلخ
وظل ميتراني متفائلاً بإمكانية كسر الروابط التقليدية بين السلطة والدولة وربط المجتمعات المختلفة بشبكة من النشاطات الاقتصادية والثقافية التي تتجاوز الدولة والإقليم وتسعى إلى الكونية حيث عارض ميتراني التكامل الإقليمي لأنه يؤدي – حسب رأيه – إلى زيادة قوة البنية التنظيمية الجديدة الإقليمية وبالتالي يزيد من القدرة على استعمال القوة في العلاقات الدولية مما ينقل الصراعات من صراعات بين الدول إلى صراعات بين أقاليم كما عارض ميتراني المدرسة الدستورية مؤكداً على أن يكون التكامل تعبيراً عن مصالح الجماهير في الدول المختلفة و ليس فقط شكلاً تنظيمياً فوقياً إذ ان هذه المصالح الجماهيرية المنفعية هي الكفيلة بإقامة "مجتمع" دولي مسالم متماسك و ليس مجرد توقيع الاتفاقيات والمواثيق بين الدول .
ويرى الوظيفيون أن التكامل في مجالات السياسة الدنيا والذي يجب أن يكون له مردود منفعي على الجماهير في الدول المتكاملة سيكفل أن ترتبط الشعوب في الدول المختلفة بشبكة من المصالح المتبادلة والأنساق المشتركة ويفرض على القيادات السياسية في هذه الدول انتهاج سيساسات رشيدة خالية من العنف ويدفعها إلى مزيد من التعاون بحيث يصبح تعطيل هذه المصالح بفعل أي توتر في العلاقات بين هذه الدول أو حرب باهظاً مما يقلل من إمكانات لجوء القيادة السياسية لهذا الفعل كما يكفل هذا النهج تعليم الجماهير عبر الدول المختلفة التعامل مع المشاكل التي تواجهها بطرق تجريبية ويصبح التركيز على توفير الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي بدلاً من الدخول في متاهات وصراعات السياسات العليا.
وهكذا تعطي المدرسة الوظيفية دوراً هاماً لجماعات الضغط والجماعات الوسيطة التي تعبر عن مصالح الجماهير في التكامل وتستطيع فرض هذه المصالح على قياداتها.
تعرضت الوظيفية للنقد من قبل كل من الوظيفيين الجدد والاتصاليين وخاصة ما يتعلق بالفصل بين السياسة الدنيا والعليا وافتراض الانتقال من التكامل على المستوى الوظيفي غلى المستوى السياسي تلقائياً كما انتقدت من حيث افتراضها بإمكانية اقتطاع أنشطة معينة من أنشطة الدول المتكاملة دون أن يتأثر ذلك بالقرارات السياسية التي قد تعوق التكامل الوظيفي نفسه أو أن يؤثر ذلك التكامل الوظيفي في السياسة العليا مما قد يهدد بإيقافه من جانب القيادات السياسية.