1. انفصال قواعد القانون الإداري عن قواعد القانون الخاص و مراحل نشأته
يرجع الفضل الكبير في إرساء قواعد القانون الإداري بمفهومه الضيق الغني إلى القضاء الفرنسي ، بحيث كرس حكم محكمة التنازع الفرنسية في قضية الطفلة Blancoانفصال قواعد القانون الإداري عن قواعد القانون الخاص ، ثم سرعان ما تطور هذا القانون على يد مجلس الدولة الفرنسي الذي أثرى القانون الإداري بالعديد من النظريات و المبادئ و المفاهيم .
- حكم محكمة التنازع الفرنسية في قضية Blanco :
إن الحذر الذي راود الكثير من رجال الفقه و الإدارة في فرنسا لم يكن من القضاء العادي فقط ، بل كان التخوف مركزا أكثر على قواعد القانون الخاص . لذلك فإن تخصيص قضاء مستقل للإدارة كانالهدف منه إحداث نواة لقانون متميز بحكم نشاطها ، و كانت مهمته هذه في غاية من الصعوبة ، خاصة من ناحية تعليل عدم صلاحية قواعد القانون الخاص لأن تحكم بعض صور نشاط الإدارة ، و لقد تجسدت النقلة النوعية في قرار بلانكو الشهير ، و نظرا لأهمية تسوق وقائعه و منطوقه .
تعرضت بنت صغيرة تدعى اجنيربلانكو لحادث تسببت فيه عربة تابعة لوكالة التبغ التي كانت تنقل انتاج هذه الوكالة من المصنع إلى المستودع ، فقام ولي البنت برفع دعوى لتعويضه الضرر المادي الذي لحق ابنته أمام المحاكم العدلية (محاكم عادية) على أساس أحكام القانون المدني الفرنسي . إلا أن وكالة التبع اعتبرت أن النزاع يهم الإدارة و أن مجلس الدولة الفرنسي هو صاحب الاختصاص ، لذلك طالبت بإيقاف النظر في الدعوى حتى ثبت محكمة تنازع الاختصاص في هذا الإشكال ، و حال عرض الأمر عليها أجابت محكمة تنازع الاختصاص بتاريخ 08 فيفري 1973 بما يلي :
- حيث أن المسؤولية التي يمكن أن تتحملها الدولة بسبب الأضرار التي يلحقها أعوان المرفق العام بالأفراد لا يمكن أن تخضع لمبادئ القانون المدني التي تضبط علاقة الأفراد فيما بينهم .
- و حيث أصبحت بالتالي السلطة الإدارية وحدها المختصة بالنظر في هذا النزاع و هو ما يجعل قرار رئيسالمقاطعة في رفع القضية أمام المحكمة قرارا صائبا يستوجب إقراره .
و هكذا يتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك أن هذا القرار أحدث هزة لا مثيل لها بخصوص إثبات ذاتية القانون الإداري على اعتبار أنه مجموعة قواعد تحكم الإدارة العامة و تتضمن أحكاما استثنائية غير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص .
و إذا أمعنا النظر في حيثيات هذا القرار و منطوقه نستنتج ما يلي :
- أن هذا القرار أعلى عن وجود قواعد خاصة تحكم نشاط الإدارة بحيث ذهب إلى أنه " حيث أن المسؤولية التي يمكن أن تتحملها الدولة لا يمكن أن تخضع لقواعد القانون المدني ... " و يفهم من هذه الحيثية أن قواعد القانون المدني لم تعد تواكب نشاط الإدارة و لا تليق بطبيعة عملها لذا وجب استبعادها لعدم صلاحيتها و قصر تطبيقها فقط على الأفراد بحسب ما أشير إليه صراحة . و حين يستبعد القانون المدني يقتضي المنطق القانوني التفكير في قواعد بديلة أكثر ملاءمة لطبيعة النشاط الإداري اصطلح على تسميتها فيما بعد بقواعد القانون الإداري .
-أ ـكد هذا القرار على خضوع الدولة للمسؤولية ، فعدم خضوعها لقواعد القانون المدني لا يعفيها من تحمل المسؤولية ، و في هذا المسلك مخالفة للقناعة السائدة في ذلك الوقت و هي عدم مسؤولية الدولة ، و الحقيقة التي لا يمكن انكارها أن القانون الإداري كفرع من فروع القانون العام ما كان ليظهر للوجود دون تطبيق فكرة مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها .
- أفصح هذا القرار عن المعيار المعتمد لمعرفة طبيعة المنازعة و هل يختص بالفصل فيها القضاء الإداري أمام القضاء العادي و هذا المعيار اصطلح على تسميته بمعيار المرفق العام ، فهو الذي فرض مثل هذه القواعد غير المألوفة في مجال روابط القانون الخاص .
- أقرت محكمة التنازع الفرنسية صراحة أن القواعد التي يخضع لها المرفق العام غير مستقرة و ثابتة ، بل إنها تتغير كلما فرضت مصلحة المرفق ذلك ، فهي إذن في حركة مستمرة . و إزالة لكل خوف لدى الأفراد المتعاملين مع الإدارة أعلنت محكمة التنازع إن هذه القواعد غير المألوفة ينبغي أن يراعي فيها التوفيق بين مصلحة الإدارة و حقوق الأفراد .
- اعترف هذا القرار التاريخيللقاضي الإداري بتطبيق قواعد القانون الإداري . و لقد كان لهذا القرار بصمة واضحة ليس من ناحية إقرار مسؤولية الدولة فحسب بل من ناحية تعريف القانون الإداري و تحديد أسسه و رسم نطاقه و ولايته.