1. الدولة الحمادية:

1.3. الانتقال إلى بجاية:

لمّا استفحل أمر الهلايين و لم يكفّوا عن عيثهم، و تخريبهم، و قطعهم السابلة في المدن والضواحي، لم يجد الناصر بن علناس بدّا من البحث عن بديل لهذه العاصمة، بإيجاد موضع أكثر حصانة من القلعة، و في مكان بعيد عن تأثير العرب الهلالية و أعمالها التخريبية، بعدما استحال عليه أمر ترويضها كما يرويه صاحب الاستبصار. فاختار موضع بجاية لبناء مدينته و العاصمة الثانية لدولته، و الّتي تشكّل ملجأ حصينا ضدّ الهلاليين، فهي بعيدة عن مجال تحرّكاتهم، نظرا لوجود حواجز جبلية تفصل هذه المدينة عن المناطق الّتي تصول و تجول فيها خيل العرب الهلالية، و في ذلك يذكر ابن خلدون محدّدا سبب بناء المدينة قائلا: «...وما كانوا يسمونهم بالقلعة من خطة الخسف و سوء العذاب بوطء ساحاتها و العيث في نواحيها، و تخطّفوا النّاس من حولها لسهولة طرقها على رواحلهم، و صعوبة المسالك عليهــا في الطريق إلى بجاية لمكان الأوعار، فـاتّخذ بجاية هـذه معقلا، و صيّـرها دارا لملكه، وجدّد قصورها». و ببناء الناصر لمدينة بجاية انتقل إليها سنة 461هـ/ 1068م، وجعلها مستقرّا له، و سعى إلى تعميرها، فشيّد القصور و الحمّامات و الأبراج، كما بنى دارا لصناعة الأساطيل و المراكب و الـسفن، و ذلك بعدما نقل السكّان إليـها من القلعة بعـد تخريبها، فغدت حينها عاصمة الحماديين خلفا لمدينة القلعة. وفي ظلّ ما يراه بعض المؤرّخين من أنّ تراجع الدور السياسي لمدينة القلعة بعد بناء الناصر بجاية و الانتقال إليها ما هو إلاّ نتيجة حتمية لما آلت إليه أوضاع تلك المنطقة من نهب و تخريب الهلاليين للمدن و القرى و المنازل و الزروع، فإنّ السؤال الّذي يطرح هو: هل يقتصر سبب بناء الناصر لمدينة بجاية على ما ذكرناه آنفا أم أنّ هناك أسبابا أخرى؟ ثمّ هل انتقل الناصر إلى يجاية من القلعة بشكل نهائي و انقطع عنها؟ للإجابة على الشطر الأوّل من السؤال الّذي طرحناه، نقول بأنّه تعدّدت آراء المؤرّخين حول سبب بناء الناصر مدينة بجاية، ففي الوقت الّذي يرى البعض أنّ السبب هو تخريب القلعة، فإنّ هناك مـن المؤرّخـين من كان له رأي آخر، و يتزعم ذلك الرأي الجـغرافي ياقوت الحموي والمؤرّخان ابن الأثير والنويري، بحيث يذكرون أنّ السبب في بنائها، هو رغبة الناصر بن علناس في إيجاد ميناء بحري حربي لعاصمته القلعة، و كذلك بهدف مواجهة القوة الزيرية، بل و حتىّ التوسّع على حسابها، و دخول مدينة المهدية، فيذكر الحموي ذلك قائلا: «...وأشار عليه ببناء بجاية... وأراه المصلحة في ذلك الّتي تحصل له من الصناعة وكيد العدو»، وبناء على هذا فلا يمكننا أن نحمّل العرب الهلالية المسؤولية الكاملة في تراجع الدور السياسي لمدينة القلعة، بعد التخريب الّذي أحدثته في تلك المنطقة، بل إذا صحّت الروايات التاريخية الّتي ذكرناها، فإنّ لأطماع الناصر بن علناس في ملك بني عمومته، و طموحاته التوسّعية على حسابهم، دور كبير في تراجع دور القلعة بعدما بنى بجاية و اتّخذها عاصمته السياسية. أمّا بخصوص انتقال الناصر إلى بجاية فإنّ ابن خلدون يشير إلى أنّ الناصر بعد انتقاله إلى يجاية سنة 461هـ/1068م، بقـي يتردّد على القلعة، و لم يغادرها بشـكل نهائي، حـتىّ هلك سنة 481هـ/1088م، فخلفه ابنه المنصور، الّذي لم ينتقل إلى بجاية حتىّ سنة 483هـ/ 1090م.