نظم الرقابة على دستورية القوانين
إذا كان من بين ضمانات قيام الدولة القانون هو وجود دستور مكتوب، فإن من بين ضمانتها المهمة كذلك ضرورة الأخذ بمبدأ تدرج القوانين، والذي يعتمد أساسا على تصنيف القوانين من حيث قوتها الإلزامية إلى مستويات مختلفة؛ بحيث لا تكون لها نفس المكانة أو المرتبة في النظام القانوني للدولة. والقيام بهذا التصنيف يرتكز على معيارين، أحدهما شكلي والآخر موضوعي. أما بالنسبة للمعيار الشكلي فينظر إلى الإجراءات والشكليات المتبعة في سن كل قانون على حدى، وبتحديد أي الإجراءات أعقد وأصعب نصل إلى أي من القوانين تحظى بالسمو الشكلي. بينما المعيار الموضوعي فينظر إلى الموضوع (أو الموضوعات) التي يختص كل قانون بتنظيمه، وهذا لكي يحدد بناء على ذلك أي القوانين ينظم موضوعات يمكن اعتبارها بالأكثر أهمية مقارنة بغيرها من المواضيع، ومن ثم يصل للحكم بأنه القانون الذي يحظى في مواجهة غيره من القوانين بالسمو الموضوعي. ولما كان الدستور الجامد بإجماع الفقه هو من تنطبق عليه مواصفات السمو، سواء من حيث الناحية الشكلية أو من حيث الناحية الموضوعية، فقد أضحى سموه مبدأ من المبادئ المسلم بها حتى ولو لم يوجد نص عليه في الدستور.
ولما كان من مقتضيات مبدأ تدرج القوانين أن القانون الأدني ينبغي أن يحترم القانون الأسمى منه، وذلك بألا يخالفه أو يعدله و/أو يلغيه، فإن ذلك قد لا يتحقق بالنسبة للدستور باعتباره أسمى قانون في الدولة إلا إذا تكلفت جهة (أو جهات) محددة بالرقابة على مدى دستورية القوانين؛ أي بمعنى مراقبة مدى احترام القوانين لنصوص وأحكام الدستور.
ولأنه لا يتصور أن يكون النظام المتبع في ممارسة هذه الرقابة هو نفسه في جميع الدول، فقد ارتأينا أن نتناوله في الدول المقارنة، ثم نتناوله في الجزائر
1. نظام الرقابة على دستورية القوانين في الدول المقارنة
1.2. الرقابة السياسية على دستورية القوانين
سميت الرقابة على دستورية القوانين في هذا النظام بالرقابة السياسية لأن الهيئة التي تتولى القيام بها ليست بجهة قضائية و/أو لأن تشكيلتها يغلب عليها العنصر السياسي.
وتعد التجربة الفرنسية في مجال تطبيق الرقابة السياسية على دستورية القوانين من أهم وأقدم التجارب في العالم. بحيث ظهر هذا النوع من الرقابة الدستورية فيها بموجب دستور السنة الثامنة للجمهورية لسنة 1799 الذي أوكل أمر القيام بها إلى مجلس الشيوخ المحافظ (أو مجلس الشيوخ حامي الدستور)، ولكنه فشل في الواقع في أدائها نتيجة سيطرت نابليون بونابرت عليه، ولكن مع ذلك فقد أعاد دستور 1852 النص عليه فيه ليتكرر الفشل هذه المرة أيضا ولكن مع نابليون الثالث، لتغيب بعدها فكرة الرقابة الدستورية إلى غاية وضع دستور 1946 أين ظهرت من جديد، ولكن هذه المرة تم إسنادها إلى لجنة استشارية تسمى باللجنة الدستورية التي كانت في الواقع محاطة بجملة من الضوابط التي جعلت من وجودها شكليا فقط، غير أن ذلك لم يثني واضعي دستور 1958 من الاستمرار في اعتماد الرقابة السياسية، وإن كان هذه المرة عن أسندت اختصاص ممارستها إلى هيئة جديدة تسمى بالمجلس الدستوري الذي يتكون من نوعين من الأعضاء: أعضاء يتمتعون بالعضوية الدائمة وهم رؤساء الجمهورية السابقين الذين لا يزالون على قيد الحياة، وأعضاء يتمتعون بالعضوية لمدة 09 سنوات غير قابلة للتجديد، ويتم تجديد ثلثهم (3/1) كل ثلاث سنوات، وعدد هؤلاء الأعضاء (09) أعضاء: (03) يعينهم رئيس الجمهورية من بينهم رئيس المجلس، و(03) يعينهم رئيس الجمعية الوطنية، و(03) الباقين يعينهم رئيس مجلس الشيوخ.
وقد أسندت صلاحية إخطار المجلس الدستوري في فرنسا إلى كل من: رئيس الجمهورية، ورئيس الجمعية الوطنية، ورئيس مجلس الشيوخ، والوزير الأول، و(60) نائبا أو شيخا في البرلمان.
وصلاحيات المجلس الدستوري الفرنسي في مجال الرقابة الدستورية تشمل الرقابة السابقة فقط، وهي نوعان: رقابة وجوبية عندما يتعلق الأمر بالقوانين العضوية والأنظمة الداخلية للبرلمان، ورقابة اختيارية عندما يتعلق الأمر بالقوانين العادية والمعاهدات الدولية.
وتعود أسباب تمسك فرنسا بالرقابة السياسية على حساب الرقابة القضائية إلى عدة أسباب، منها ما هو تاريخي يرجع إلى أن رجال الثورة الفرنسية كانوا ناقمين على جهاز القضاء (البرلمانات) لكونه كان جهازا محافظا وكان يحاول جاهدا عرقلة الإصلاحات التي كانوا يسعون إلى تجسيدها، كما عارضوا بشدة تكليف القضاء بالرقابة الدستورية نظرا للفساد الذي كان مستشريا فيه. ومنها ما هو سياسي يرجع لكون القانون تعبير عن الإرادة العامة التي يجسدها البرلمان باعتباره ممثلا لسيادة الأمة، ومن ثم لا يمكن للقضاء أن يكون رقيبا على القانون وإلا كان أعلى من الأمة. ومنها أيضا ما قانوني بحيث نادوا بالتطبيق الصارم لمبدأ الفصل بين السلطات ومن بينها السلطتين التشريعية والقضائية.
وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبه ولا يزال يلعبه المجلس الدستوري الفرنسي في حماية الدستور، وبالأخص منه تلك المتعلقة بالحقوق والحريات، إلا أن الفقه الدستوري لا يزال يوجه الكثير من سهام النقد للرقابة السياسية على دستورية القوانين، وذلك من عدة أوجه :
- تأثر أعضاء الهيئة المكلفة بالرقابة بالاتجاهات السياسية والحزبية التي ينتمون إليها.
- عدم استقلالية الأعضاء سواء كانوا منتخبين أم معينين عن الجهات التي أتت بهم.
- عدم تمتع الأعضاء في الغالب بالتكوين والتأهيل القانوني اللازم لممارسة هكذا رقابة.
- هذه الرقابة عادة ما تكون وقائية فقط، ولأن عدد جهات الإخطار محدود جدا وليس متاحا للمواطنين، فإن ذلك قد يؤدي إلى إفلات قوانين من الرقابة رغم ما يشوبها من عدم دستورية.
- عدم تمكين المواطنين من إخطار الهيئة المكلفة بالرقابة رغم أنهم قد يكونون هم المتضررين الأوائل من القانون المشكوك في عدم دستوريته.
- قصر حق الإخطار على السلطتين التشريعية والتنفيذية في ظل الأنظمة السياسية المغلقة دائما ما يحمل في طياته شبهة التواطؤ السياسي بينهما بشأن تمرير بعض القوانين العادية دون عرضها على الرقابة للتأكد من عدم دستوريتها