نظم الرقابة على دستورية القوانين
الموقع: | Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2 |
المقرر: | النظرية العامة للدستور |
كتاب: | نظم الرقابة على دستورية القوانين |
طبع بواسطة: | Visiteur anonyme |
التاريخ: | Saturday، 21 December 2024، 3:17 PM |
الوصف
إذا كان من بين ضمانات قيام الدولة القانون هو وجود دستور مكتوب، فإن من بين ضمانتها المهمة كذلك ضرورة الأخذ بمبدأ تدرج القوانين، والذي يعتمد أساسا على تصنيف القوانين من حيث قوتها الإلزامية إلى مستويات مختلفة؛ بحيث لا تكون لها نفس المكانة أو المرتبة في النظام القانوني للدولة. والقيام بهذا التصنيف يرتكز على معيارين، أحدهما شكلي والآخر موضوعي. أما بالنسبة للمعيار الشكلي فينظر إلى الإجراءات والشكليات المتبعة في سن كل قانون على حدى، وبتحديد أي الإجراءات أعقد وأصعب نصل إلى أي من القوانين تحظى بالسمو الشكلي. بينما المعيار الموضوعي فينظر إلى الموضوع (أو الموضوعات) التي يختص كل قانون بتنظيمه، وهذا لكي يحدد بناء على ذلك أي القوانين ينظم موضوعات يمكن اعتبارها بالأكثر أهمية مقارنة بغيرها من المواضيع، ومن ثم يصل للحكم بأنه القانون الذي يحظى في مواجهة غيره من القوانين بالسمو الموضوعي. ولما كان الدستور الجامد بإجماع الفقه هو من تنطبق عليه مواصفات السمو، سواء من حيث الناحية الشكلية أو من حيث الناحية الموضوعية، فقد أضحى سموه مبدأ من المبادئ المسلم بها حتى ولو لم يوجد نص عليه في الدستور.
ولما كان من مقتضيات مبدأ تدرج القوانين أن القانون الأدني ينبغي أن يحترم القانون الأسمى منه، وذلك بألا يخالفه أو يعدله و/أو يلغيه، فإن ذلك قد لا يتحقق بالنسبة للدستور باعتباره أسمى قانون في الدولة إلا إذا تكلفت جهة (أو جهات) محددة بالرقابة على مدى دستورية القوانين؛ أي بمعنى مراقبة مدى احترام القوانين لنصوص وأحكام الدستور.
ولأنه لا يتصور أن يكون النظام المتبع في ممارسة هذه الرقابة هو نفسه في جميع الدول، فقد ارتأينا أن نتناوله في الدول المقارنة، ثم نتناوله في الجزائر
1. نظام الرقابة على دستورية القوانين في الدول المقارنة
انقسمت الدول المقارنة بشأن النظام الذي اتبعته في ممارستها للرقابة على دستورية القوانين إلى نظامين، هما: الرقابة القضائية والرقابة السياسية
1.1. الرقابة القضائية على دستورية القوانين
يعد هذا النظام أقدم نظام متبع في الرقابة على دستورية القوانين. وسمي بالرقابة القضائية لأن الذي يتولى القيام بها وممارستها هو القضاء، سواء في مجموعه أو ممثلا في هيئة واحدة عادة ما تكون المحكمة العليا أو تكون المحكمة الدستورية.
وتأسيسا على ذلك يميز الفقه الدستوري بين الرقابة القضائية عن طريق الدفع التي يخول بممارستها كافة محاكم الدولة على اختلاف مستوياتها، وبين الرقابة القضائية عن طريق الدعوى التي عادة ما يتكفل الدستور بتحديد الجهة القضائية الوحيدة التي يؤول إليها اختصاص ممارستها.
1. الرقابة القضائية عن طريق الدفع (رقابة الامتناع):
هذا النوع من الرقابة هو أقدم أنواع الرقابة على دستورية القوانين على الاطلاق. وقد ظهر في الولايات المتحدة الأميركية بشكل تلقائي، وهذا بمناسبة فصل رئيس المحكمة الاتحادية العليا القاضي جون مارشال سنة 1803 في القضية الشهيرة والمعروفة في تاريخ القضاء الدستوري بقضية ماربوري ضد ماديسون. ليتم تبني هذا النوع وتطبيقه أيضا في دول أخرى مثل كندا وأستراليا والمكسيك... الخ
وتفترض هذه الرقابة وجود نزاع مطروح أمام إحدى الجهات القضائية في الدولة، وكان حل هذا النزاع يقتضي تطبيق قانون معين باعتباره القانون الواجب التطبيق في هذه الحالة، فإن نظام الرقابة هنا يجيز للطرف الذي قد يطبق عليه القانون أن يدفع بعدم دستوريته، وهذا لاستبعاده في قضية الحال من خلال امتناع القاضي عن تطبيقه إذا ثبت له أن القانون فعلا مخالف للدستور. وعليه، فهذه الرقابة تتميز بما يلي:
- أن الدعوى التي تمارس بمناسبتها لا تتعلق بها هي، وتعبير آخر هذه الدعوى التي تمارس فيها الرقابة ليست موجهة في الأساس ضد القانون المطعون فيه بعدم الدستورية.
- أن القاضي لا يثير هذا الدفع الذي يمارس من خلاله هذه الرقابة من تلقاء نفسه، بل لابد وأن يثيره الخصم الذي له مصلحة في ذلك فقط.
- أن سلطة القاضي فيها ضيقة جدا، وذلك لأنه إذا ثبت له فعلا عدم دستورية القانون المطعون فيه، فإنه يمتنع عن تطبيقه فقط في قضية الحال ولا يجوز له إلغائه (الحجية النسبية للحكم). ومن ثم فللقاضي ذاته ولغيره من القضاة أن يطبق ذلك القانون في حالات أخرى ما لم يعدل أو يلغى أو يدفع بعدم دستوريته من جديد. وبذلك فتطبيق القانون في هذه الحالة يعرف نوعا من التذبذب لأنه سيطبق أحيانا ولا يطبق أحيانا أخرى، وهو ما يطرح بإلحاح مسألة احترام مبدأ المساواة أمام القانون الذي يفترض أن يطبق القانون على جميع من تتوافر فيهم شروط تطبيقه بدون تمييز أيا كان مرده.
- أنها لا تجد أساسها في الدستور، وإنما في مبدأ قانوني عام وهو مبدأ تدرج القوانين. ولذلك فالاستمرار في ممارستها لا يتأثر مبدئيا بسقوط الدستور وإنهاء العمل به.
- أنها غير مقيدة بأجل محدد، وذلك لأن الطاعن لا يعلم مسبقا متى سيتم تطبيق القانون المطعون فيه عليه.
- أنها سهلة المنال وغير مكلفة، وذلك لأنها لا تتطلب إلا تقديم الدفع أمام الجهة القضائية.
- أنها لا تمس بمبدأ الفصل بين السلطات.
2. الرقابة القضائية عن طريق الدعوى (رقابة الإلغاء):
تفترض هذه الرقابة أن الدستور يخول لذوي المصلحة أن يرفعوا ضمن شروط وإجراءات محددة دعاوى ضد القوانين قبل أو بعد دخولها حيز النفاذ ليطعنوا بموجبها في عدم دستورية تلك القوانين أمام الجهة القضائية التي أنشأها الدستور خصيصا لهذا الغرض أو التي نص على أنها وحدها صاحبة الاختصاص بنظر هكذا دعاوى.
ولهذه هذه الجهة القضائية بعد أن تتأكد من أن قبول الدعوى شكلا، التصدي لبحث مدى دستورية القانون المطعون فيه أمامها؛ فإذا تبين لها بأن القانون مخالف فعلا للدستور، فإنها تحكم بإلغائه بحسب الحالة كليا أو جزئيا، وذلك ابتداء من تاريخ نفاذه، أما إذا تبين لها عدم تأسيس الدعوى، فإنها تقضي برفضها والإبقاء على القانون ساري النفاذ.
هذا وتعد أحكام هذه الجهة القضائية أحكاما باتة لأنها لا تقبل الطعن فيها بأي من طرق الطعن. كما تعد كذلك أحكاما ذات حجية مطلقة، أي أن آثارها تسري على كل من في الدولة من مواطنين وسلطات.
وقد طبق في الواقع هذا النوع من الرقابة القضائية على دستورية القوانين في العديد من البلدان كسويسرا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا، مصر، الكويت، السودان... الخ
وللإشارة، فإنه يوجد إلى هذين النوعين من الرقابة القضائية، نوعين آخرين لكنهما لم يعرفا انتشارا في التطبيق، وهما:
1. الرقابة القضائية عن طريق الأمر القضائي: ظهرت في انجلترا ثم في الولايات المتحدة الأمريكية، وتتم هذه الرقابة من خلال تقديم أحد الأفراد طلبا إلى المحكمة يلتمس فيه منها أن تصدر أمرا بوقف تنفيذ قانون ما ضده لعدم دستوريته.
2. الرقابة القضائية عن طريق الحكم التقريري: فيها يلجأ الشخص إلى المحكمة ليطلب منها إصدار حكم تقرر بموجبه دستورية أو عدم دستورية القانون الذي يريد الموظف تنفيذه عليه، وإلى أن تصدر المحكمة حكمها يتم إيقاف تنفيذ القانون بحقه، فإذا صدر الحكم وكان في صالحه فإنه يمنع على الموظف تطبيقه ضده، والعكس صحيح
1.2. الرقابة السياسية على دستورية القوانين
سميت الرقابة على دستورية القوانين في هذا النظام بالرقابة السياسية لأن الهيئة التي تتولى القيام بها ليست بجهة قضائية و/أو لأن تشكيلتها يغلب عليها العنصر السياسي.
وتعد التجربة الفرنسية في مجال تطبيق الرقابة السياسية على دستورية القوانين من أهم وأقدم التجارب في العالم. بحيث ظهر هذا النوع من الرقابة الدستورية فيها بموجب دستور السنة الثامنة للجمهورية لسنة 1799 الذي أوكل أمر القيام بها إلى مجلس الشيوخ المحافظ (أو مجلس الشيوخ حامي الدستور)، ولكنه فشل في الواقع في أدائها نتيجة سيطرت نابليون بونابرت عليه، ولكن مع ذلك فقد أعاد دستور 1852 النص عليه فيه ليتكرر الفشل هذه المرة أيضا ولكن مع نابليون الثالث، لتغيب بعدها فكرة الرقابة الدستورية إلى غاية وضع دستور 1946 أين ظهرت من جديد، ولكن هذه المرة تم إسنادها إلى لجنة استشارية تسمى باللجنة الدستورية التي كانت في الواقع محاطة بجملة من الضوابط التي جعلت من وجودها شكليا فقط، غير أن ذلك لم يثني واضعي دستور 1958 من الاستمرار في اعتماد الرقابة السياسية، وإن كان هذه المرة عن أسندت اختصاص ممارستها إلى هيئة جديدة تسمى بالمجلس الدستوري الذي يتكون من نوعين من الأعضاء: أعضاء يتمتعون بالعضوية الدائمة وهم رؤساء الجمهورية السابقين الذين لا يزالون على قيد الحياة، وأعضاء يتمتعون بالعضوية لمدة 09 سنوات غير قابلة للتجديد، ويتم تجديد ثلثهم (3/1) كل ثلاث سنوات، وعدد هؤلاء الأعضاء (09) أعضاء: (03) يعينهم رئيس الجمهورية من بينهم رئيس المجلس، و(03) يعينهم رئيس الجمعية الوطنية، و(03) الباقين يعينهم رئيس مجلس الشيوخ.
وقد أسندت صلاحية إخطار المجلس الدستوري في فرنسا إلى كل من: رئيس الجمهورية، ورئيس الجمعية الوطنية، ورئيس مجلس الشيوخ، والوزير الأول، و(60) نائبا أو شيخا في البرلمان.
وصلاحيات المجلس الدستوري الفرنسي في مجال الرقابة الدستورية تشمل الرقابة السابقة فقط، وهي نوعان: رقابة وجوبية عندما يتعلق الأمر بالقوانين العضوية والأنظمة الداخلية للبرلمان، ورقابة اختيارية عندما يتعلق الأمر بالقوانين العادية والمعاهدات الدولية.
وتعود أسباب تمسك فرنسا بالرقابة السياسية على حساب الرقابة القضائية إلى عدة أسباب، منها ما هو تاريخي يرجع إلى أن رجال الثورة الفرنسية كانوا ناقمين على جهاز القضاء (البرلمانات) لكونه كان جهازا محافظا وكان يحاول جاهدا عرقلة الإصلاحات التي كانوا يسعون إلى تجسيدها، كما عارضوا بشدة تكليف القضاء بالرقابة الدستورية نظرا للفساد الذي كان مستشريا فيه. ومنها ما هو سياسي يرجع لكون القانون تعبير عن الإرادة العامة التي يجسدها البرلمان باعتباره ممثلا لسيادة الأمة، ومن ثم لا يمكن للقضاء أن يكون رقيبا على القانون وإلا كان أعلى من الأمة. ومنها أيضا ما قانوني بحيث نادوا بالتطبيق الصارم لمبدأ الفصل بين السلطات ومن بينها السلطتين التشريعية والقضائية.
وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبه ولا يزال يلعبه المجلس الدستوري الفرنسي في حماية الدستور، وبالأخص منه تلك المتعلقة بالحقوق والحريات، إلا أن الفقه الدستوري لا يزال يوجه الكثير من سهام النقد للرقابة السياسية على دستورية القوانين، وذلك من عدة أوجه :
- تأثر أعضاء الهيئة المكلفة بالرقابة بالاتجاهات السياسية والحزبية التي ينتمون إليها.
- عدم استقلالية الأعضاء سواء كانوا منتخبين أم معينين عن الجهات التي أتت بهم.
- عدم تمتع الأعضاء في الغالب بالتكوين والتأهيل القانوني اللازم لممارسة هكذا رقابة.
- هذه الرقابة عادة ما تكون وقائية فقط، ولأن عدد جهات الإخطار محدود جدا وليس متاحا للمواطنين، فإن ذلك قد يؤدي إلى إفلات قوانين من الرقابة رغم ما يشوبها من عدم دستورية.
- عدم تمكين المواطنين من إخطار الهيئة المكلفة بالرقابة رغم أنهم قد يكونون هم المتضررين الأوائل من القانون المشكوك في عدم دستوريته.
- قصر حق الإخطار على السلطتين التشريعية والتنفيذية في ظل الأنظمة السياسية المغلقة دائما ما يحمل في طياته شبهة التواطؤ السياسي بينهما بشأن تمرير بعض القوانين العادية دون عرضها على الرقابة للتأكد من عدم دستوريتها
2. نظام الرقابة على دستورية القوانين في الجزائر
سنحاول من خلال المبحث تناول نظام الرقابة على دستورية القوانين في الجزائر بالتحليل، وذلك من خلال التطرق إلى النظام السابق على دستور 1996 والنظام الحالي في ظل دستور 1996 خاصة بعد أن دخل التعديل الدستوري الجديد حيز النفاذ منذ أيام قلائل فقط (07 مارس 2016)
2.1. نظام الرقابة على دستورية القوانين قبل دستور 1996
لقد أخذت الجزائر بفكرة الرقابة على دستورية القوانين منذ أول دستور عرفته عقب الاستقلال، وهو دستور 1963؛ بحيث نصت المادة 63 منه على إنشاء مجلس دستوري يتكون من الرئيس الأول للمحكمة العليا ورئيسي الغرفتين المدنية والإدارية في المحكمة العليا وثلاث نواب تعينهم المجلس الوطني وعضو يعينه رئيس الجمهورية، وهؤلاء ينتخبون من بينهم العضو الذي يتولى رئاسة المجلس الدستوري. هذا وقد بينت المادة 64 من دستور 1963 بأن المجلس الدستوري يفصل في دستورية القوانين والأوامر التشريعية بطلب من رئيس الجمهورية أو من رئيس المجلس الوطني.
لكن وبالنظر إلى أن هذا المجلس الدستوري لم يرى النور نتيجة إيقاف العمل بدستور 1963 بعد فترة قصيرة من بدأ سريان مفعوله، فإننا نتناوله أكثر بالدراسة.
وللإشارة، فإنه وعلى الرغم من عودة البلاد للعمل بمقتضى المشروعية الدستورية التي أسس لها دستور 1976، إلا أن فكرة الرقابة على دستورية القوانين قد غابت هذه المرة لكون دستور 1976 قد أغفل و/أو تغافل عن النص عليها.
وهو ما قد تفاداه دستور 1989 الذي نص وبشكل صريح على تبني فكرة الرقابة على دستورية القوانين للسهر على احترام الدستور، ولأجل هذا الغرض نصت المادة 153 منه على إنشاء مجلس دستوري يتكون، بحسب المادة 154، من سبعة أعضاء: ثلاثة يعينهم رئيس الجمهورية من بينهم رئيس المجلس، واثنان ينتخبهما المجلس الشعبي الوطني، واثنان تنتخبهما المحكمة العليا ليمارسوا مهامهم مرة واحدة غير قابلة للتجديد مدتها ستة سنوات. وبينت المادة 155 بأن المجلس الدستوري يفصل في دستورية المعاهدات والقوانين والتنظيمات إما برأي قبل أن تصبح واجبة التنفيذ أو بقرار في الحالة العكسية، وبأنه يفصل كذلك في مطابقة النظام الداخلي للمجلس الشعبي الوطني للدستور. وهذا فقط متى تم إخطاره إما من رئيس الجمهورية وإما من رئيس المجلس الشعبي الوطني (156). وللمجلس مهلة عشرون يوما من تاريخ إخطاره لإعطاء رأيه و/أو لإصدار قراره (157). والذي قد يترتب عنه عدم المصادقة على معاهدة ارتأى فيها بأنها عدم دستورية، كما يترتب على قراره بعدم دستورية نص تشريعي أو تنظيمي فقدان هذا النص لأثره ابتداء من يوم قرار المجلس (158 و159)
2.2. نظام الرقابة على دستورية القوانين في دستور 1996
فيما يخص دستور 1996، فالملاحظ أنه قد حافظ على تجربة الرقابة على دستورية القوانين بموجب مجلس دستوري، وإن كان التعديل الدستوري الجديد لسنة 2016 قد عمل على إدخال عدة تحسينات يبدو أنها ستعطي نفسا آخر لهذه التجربة.
بحيث قد أكدت المادة 182 على مدى الاستقلال الذي يتمتع به المجلس الدستوري حاليا؛ ذلك لأنها نصت بشكل صريح ولا لبس فيه على أن المجلس الدستوري هيئة مستقلة مهمتها السهر على احترام الدستور، كما وقد أكدت على تمتعه بالاستقلال الإداري والمالي. ولضمان هذه الاستقلالية أكثر فقد نصت المادتين 183 و185 على التوالي على أن الانتساب للمجلس ينتفي مع ممارسة أية عضوية أو وظيفة أو تكليف أو مهمة أخرى وأي نشاط آخر أو مهنة حرة، وأن أعضاء المجلس يتمتعون خلال مدة عضويتهم بالحصانة القضائية في المسائل الجزائية، ولا تحرك ضدهم المتابعات الجزائية إلا بتنازل صريح من المعني أو بترخيص من المجلس الدستوري. كما وقد أصبح أعضاء المجلس الدستوري لأول مرة في تاريخ الرقابة الدستورية في الجزائر منصوص دستوريا على أنهم محلفين بموجب آدائهم لنص اليمين الوارد ذكره بالمادة 183 أمام رئيس الجمهورية. ولتأكيد استقلاليته كذلك بينت المادة 189 بأن المجلس الدستوري هو من يحدد قواعد عمله.
وبالنظر إلى ذلك النقص الذي كان قائما على عدم وجود معايير موضوعية في انتقاء أعضاء المجلس الدستوري، وعلى عدم تمتع الكثير منهم بالتأهيل والتكوين القانوني فضلا عن الدستوري الذي يعد شرطا أساسيا لنجاح الرقابة الدستورية وتحقيقها الهدف المرجو منها، فإن المادة 184 قد اشترطت في أعضاء المجلس الدستوري بالإضافة إلى شرط السن، وهو بلوغ الأربعين سنة كاملة يوم التعيين أو الانتخاب، التمتع بخبرة مهنية مدتها خمس عشرة (15) سنة على الأقل في التعليم العالي في العلوم القانونية أو في القضاء أو في مهنة محام لدى المحكمة العليا أو لدى مجلس الدولة أو في وظيفة عليا في الدولة.
هذا ولإضفاء نوع من المساواة على تمثيل السلطات الثلاث في المجلس الدستوري، فإن المادة 183 قد نصت على أن تشكلية المجلس تتكون من اثني عشر (12) عضو: أربع (04) أعضاء من بينهم رئيس المجلس ونائبه يعينهم رئيس الجمهورية، واثنان (02) ينتخبهما المجلس الشعبي الوطني، واثنان (02) ينتخبهما مجلس الأمة، واثنان (02) تنتخبهما المحكمة العليا، واثنان (02) ينتخبهما مجلس الدولة. والعضوية في المجلس الدستوري تكون لمرة واحدة مدتها ثمانية (08) سنوات على أنها تمارس كاملة بالنسبة للرئيس ونائبه فقط، بينما بالنسبة لباقي الأعضاء فيجب تجديد نصفهم كل أربع (04) سنوات.
وفيما يخص النصوص الخاضعة لرقابة المجلس الدستوري فإنها لم تعرف تغييرا؛ ذلك لأن المادة 186 قد أبقت على اختصاص المجلس الدستوري برقابة مدى مطابقة القوانين العضوية والنظام الداخلي لغرفتي البرلمان للدستور من جهة، وعلى اختصاصه من جهة أخرى برقابة دستورية كل من المعاهدات والقوانين والتنظيمات.
ولكن التغيير حدث بالنسبة إلى الجهات المخولة بإخطار المجلس الدستوري؛ فبالإضافة إلى: رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الشعبي الوطني، ورئيس مجلس الأمة، فإن الحق في الإخطار قد توسع، بحسب المادة 187، ليشمل أيضا الوزير الأول وكلا من: خمسين (50) نائبا أو ثلاثين (30) عضوا في مجلس الأمة. هذا وقد تضمنت المادة 188 لأول مرة في الجزائر ما يعرف بالمسألة الأولية الدستورية التي نص عليها أيضا الدستور الفرنسي لسنة 1958 من قبل بموجب المادة (61 -1) فيه. فقد جاء في المادة 187 بأنه:( يمكن إخطار المجلس الدستوري بالدفع بعدم الدستورية بناء على إحالة من المحكمة العليا أو مجلس الدولة، عندما يدعي أحد الأطراف في المحاكمة أمام جهة قضائية أن الحكم التشريعي الذي يتوقف عليه مآل النزاع ينتهك الحقوق والحريات التي يضمنها الدستور )
وفي الواقع من خلال قراءة أولية لنص هذه المادة يمكن إبداء الملاحظات الآتية، والتي تعتبر أولية كذلك حتى صدور القانون العضوي المحدد لشروط وكيفيات تطبيق هذه المادة:
- الدفع بعدم الدستورية ليس من النظام العام، ولذا لا يجوز لجهات القضاء العادي والإداري إثارته من تلقاء نفسها.
- الدفع بعدم الدستورية مقرر لمصلحة أطراف الخصومة فقط، وعليه فلا يجوز لمن لم يكن محل متابعة قضائية و/أو طرفا في خصومة قضائية أن يحرك هذا الدفع أمام القضاء.
- الدفع بعدم الدستورية يمكن القول مبدئيا بأنه يمكن إثارته أمام قاضي الموضوع فقط، وهذا لأن نص المادة 187 قد اشترط أن يكون مآل النزاع متوقفا على تطبيق الحكم التشريعي المعني من عدمه، وبما أن هذا الأمر متوقف بدوره على عملية تقدير الوقائع موضوع الدعوى وتكييفها التكييف القانوني الصحيح للوصول لتحديد القانون (القانون الموضوعي) الواجب التطبيق لفض النزاع، ولما كان من جانب آخر قاضي النقض (ممثلا في المحكمة العليا ومجلس الدولة) بالأساس قاضي قانون وليس قاضي موضوع، فإن مآل النزاع لا يتحدد من حيث الأصل أمامه حتى ولو قضى بالنقض لأنه سيعيد الأطراف إلى قاضي الموضوع من جديد ليعيد الفصل في النزاع وفقا لتوجيهاته فيما يخص تطبيق القانون وليس فيما يخص تقدير الوقائع موضوع النزاع، وعليه فدور قاضي النقض في النزاع يقتصر مبدئيا على مراقبة مدى حسن تطبيق قاضي الموضوع للقانون، سيما من حيث التكييف والتفسير والتسبيب، ولا يمتد بشكل مباشر إلى تحديد مآل الخصومة ونتيجتها.
- مصطلح إحالة الوارد ذكره في نص المادة أعلاه لا يتعلق في تقديرنا بنقل ملف القضية بأكمله إلى المجلس الدستوري ليفحصه، وإنما يتعلق فقط بالدفع بعدم الدستورية لكي يتأكد المجلس من مدى جديته وتأسيسه دستوريا حتى يتمكن فيما بعد من مناقشته والرد عليه في الأجل الممنوح له لهذا الشأن، والذي هو بموجب المادة 189 أربعة (04) أشهر من تاريخ الإخطار، ما لم يتبين للمجلس ضرورة تمديده إلى مدة أقصاها أربعة (04) أشهر أخرى، وهذا بواسطة قرار مسبب يبلغه إلى الجهة القضائية صاحبة الإخطار. وللإشارة فإنه إذا تبين للمجلس الدستوري بأن النص التشريعي محل الرقابة غير دستوري، فإن يفقد أثره ابتداء من اليوم الذي يحدده قرار المجلس الدستوري (المادة 191)
- استعمال المؤسس الدستوري الجزائري لمصطلح ''حكم تشريعي'' في نص المادة 187 يستدعي في الواقع تدخلا من المجلس الدستوري نفسه لتحديد المقصود به، وهذا لأن ذلك ضروري جدا لتحديد مجال الإخطار بهذه الطريقة ونطاقه؛ بمعنى: هل يتعلق فقط بالنصوص التشريعية، العضوية منها والعادية، الصادرة عن البرلمان، ومن هي في حكمها كالأوامر التشريعية التي يصدرها رئيس الجمهورية ؟ أم أن مصطلح التشريع هنا يفسر بمعناه الواسع ليشمل كذلك المعاهدات والاتفاقيات الدولية والتشريع الفرعي (التنظيمات) ؟
- يطرح نص 187 التساؤل أيضا عن مدى سلطة المجلس الدستوري في مراقبة الحكم التشريعي المدفوع بعدم دستوريته ؟ وذلك لأن هذا النص قد جاء فيه بأن صاحب الدفع يستند في إبدائه إلى كون هذا الحكم التشريعي ينتهك الحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، فهل معنى ذلك بأن المجلس الدستوري يكتفي في ممارسة رقابته هنا عند هذه المسألة فقط، أو بتعبير آخر هل يقتصر المجلس في ممارسة رقابته هنا على التأكد من مسألة خرق هذا الحكم التشريعي للحقوق والحريات المضمونة دستوريا أم لا ؟ وذلك من خلال إثارته أوجها أخرى لعدم الدستورية يمكن أن تتبين له عند فحصه للنص التشريعي، والتي بلا تشك تظهر أهميتها عندما يتضح للمجلس عدم انتهاك الحكم التشريعي للحقوق والحريات المضمونة دستوريا، وإنما لأحكام وقواعد دستورية أخرى كقواعد الاختصاص مثلا.
هذا وكما هو معلوم، فإن الرقابة الدستورية التي يتمتع المجلس الدستوري بممارستها على نوعين، رقابة سابقة وجوبية وهي التي تتم بناء على إخطار من رئيس الجمهورية فقط عندما يتعلق الأمر بالقوانين العضوية والنظام الداخلي لغرفتي البرلمان، وتسمى كذلك برقابة المطابقة لأنها رقابة صارمة يتأكد المجلس الدستوري فيها من مدى احترام هذه النصوص للدستور وتطابقها معه نصا وروحا قبل إصدارها ونشرها في الجريدة الرسمية لدخولها حيز النفاذ، وذلك لأنها نصوص مكملة له. وهناك النوع الثاني وهي الرقابة الاختيارية، وتعرف كذلك برقابة الدستورية، وقد سميت كذلك لأن لجهات الإخطار السابق ذكرها أعلاه كامل السلطة التقديرية والاختيار في ممارستها من عدمه. وهي بدورها تنقسم إلى نوعين، رقابة اختيارية سابقة لأنها تمارس قبل التصديق على المعاهدات وصدور القوانين والتنظيمات، ورقابة اختيارية لاحقة لأنها تمارس بعد سريان مفعول القوانين والتنظيمات (المادتين 144، 186، 190 و191)
وفيما يخص سير إجراءات الرقابة فقد بينت المادة 189 بأن المجلس الدستوري يتداول في جلسة مغلقة، ويعطي رأيه أو يصدر قراره في ظرف ثلاثين (30) يوما من تاريخ الإخطار. وفي حالة وجود طارئ يخفض هذا الأجل بطلب من رئيس الجمهورية إلى عشرة (10) أيام.
وأما فيما يتعلق بالنتائج التي يمكن أن تخلص إليها رقابة المجلس الدستوري، فإنها تتخذ إحدى الفرضيات الآتية:
- تثبت المجلس الدستوري من دستورية النص المعروض عليه؛ فيبدي بحسب الحالة رأيه أو قراره بدستوريته.
- تأكد المجلس الدستوري بشكل قطعي من عدم دستورية النص المعروض عليه بالكامل، فإنه يقضي بعدم دستوريته.
- تأكد المجلس الدستوري بشكل قطعي من عدم دستورية النص المعروض عليه جزئيا، فإنه يقضي بعدم دستورية هذا الجزء فقط دون باقي الأجزاء، ما لم يتبين له أن ارتباطها به ارتباطا وثيقا لا يمكن من تطبيق النص بدونه، فإنه يحكم بعدم دستورية كامل النص.
- وقوع المجلس الدستوري في حالة شك بين دستورية وعدم دستورية النص، فإنه في هذه الحالة، وباستبعاد النصوص الخاضعة لرقابة المطابقة، يقضي بدستوريته إعمالا لقرينة الدستورية، ويكون ذلك عادة مقترنا بتفسير يعطيه هو يرى فيه أنه يمكن أن يجعل النص دستوريا بتحفظ.
وللعلم إذا ارتأى المجلس الدستوري عدم دستورية معاهدة أو اتفاق او اتفاقية، فإنه لا يتم التصديق عليها (المادة 190) وإذا ارتأى أن نصا تشريعيا أو تنظيميا غير دستوري، فإن هذا النص يفقد أثره ابتداء من يوم قرار المجلس (المادة 191)
ونشير في الأخير بأن آراء المجلس الدستوري وقراراته نهائية أي باتة ولا تقبل الطعن بأي من طرق الطعن، كما وتعد ملزمة لجميع السلطات العمومية والسلطات الإدارية والقضائية، أي أنها ذات حجية مطلقة وتسري على الكافة (المادة 191)