طرق وضع الدستور، تعديله، وإنهائه
إن الدستور (المقصود في هذا الفصل الدستور المكتوب ذو الطبيعة الجامدة) كغيره من القوانين يعرف ثلاث مراحل مختلفة في وجوده وتطبيقه، تبدأ بوضعه، وتنقضي بإنهائه، وبينهما يأتي تعديله كمرحلة وسط بين الوضع والإنهاء. وإن تعددت هذه المراحل إلا أن المخول بممارستها تبقى نفسها وهي السلطة التأسيسية، والتي تعد ملكا للشعب بعد أن أصبحت معظم نظم الحكم الحديثة تعترف له بأنه صاحب السيادة ومصدرها، وهذا بعد أن كان ينظر إليها على أنها ملك للحاكم لأنه ذو طبيعة إلهية، أو لأنه مفوض من قبل الإله. وعلى كل، فإن السلطة التأسيسية نوعان:
1- السلطة التأسيسية الأصلية: وسميت كذلك لأنها لا تستمد أصلها من سلطة أخرى، وهي التي تضع الدستور لأول مرة، ومن ثم فهي مصدر وأصل السلطات التي يؤسس لها الدستور الموضوع من قبلها. وهذا القول يترتب عليه آثار قانونية غاية في الأهمية، وهي أن السلطة التأسيسية الأصلية:- سلطة أولية، وذلك لأنها أسبق في الوجود من باقي السلطات التي ينظمها الدستور. ويظهر ذلك بالأخص عندما تكون الدولة جديدة كما كان عليه الحال مثلا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية عند وضعها للدستور الفيدرالي لسنة 1787، كما تظهر كذلك في حالة نيل الدولة استقلالها عن الدولة المستعمرة مثلما حدث بالنسبة للجزائر عند وضع دستور 1963.
- سلطة عليا، وذلك لأنها بوضعها للدستور تنشئ باقي السلطات في الدولة وتبين لها كيفية تنظيمها وتحدد لها صلاحياتها واختصاصاتها التي يتعين أن تتقيد بها ولا تتعداها.ولما كانت بذلك السلطة التأسيسية الأصلية (والفرعية) سلطة مُؤسِسَة لتلك السلطات، فإنها تكون أعلى منها سلطة وأسمى منها مكانة في الدولة، وهذا لأن لتلك السلطات تعتبر بالنسبة إليها مجرد سلطات مُؤسَسَة.
- سلطة غير مقيدة، وذلك لأنها كما قلنا تجد أصلها ومصدرها من ذاتها وليست متفرعة أو مشتقة من سلطة أخرى تعلوها، ولذلك فهي من حيث المبدأ لها مطلق الحرية في وضع الدستور الذي تراه ملائما للدولة دون أن تكون خاضعة في ذلك لقيد أو شرط مسبق.
2- السلطة التأسيسية الفرعية: وهي السلطة التي ينص عليها الدستور ويوكل لها مهمة محددة وهي مبدئيا تعديل الدستور فقط ضمن شروط وضوابط ينبغي أن تلتزم بها وتحترمها عند القيام بذلك. وعليه فهذه السلطة التأسيسية لا تجد أصلها في ذاتها، وإنما تستمده من السلطة التأسيسية الأصلية واضعة الدستور،ولذا فهي تعرف بالسلطة التأسيسية الفرعية و/أو المشتقة لأنها تتفرع و/أو تشتق من الأصلية، ودورها مقصور من حيث الأصل على تعديل الدستور القائم دون أن تتعداه إلى إنهائه ووضع دستور آخر بدله1. طرق وضع الدستور
1.2. الطرق غير الديمقراطية
نظرا للدور التشاركي الذي يلعبه الشعب من خلال هذه الطرق في وضع الدستور، فإن الفقه الدستوري يعتبرها طرقا ديمقراطية، وهي تتمثل في كل من: أسلوب الجمعية التأسيسية، وأسلوب الاستفتاء الدستوري (التأسيسي)
أولا: أسلوب الجمعية التأسيسية
في هذا الأسلوب يقوم الشعب بانتخاب مجموعة من الأشخاص ليكونوا هيئة تأسيسية تعرف عادة بالجمعية أو المجلس التأسيسي مهمتها وضع الدستور بمفردها، وذلك من خلال إعداده وإقرارها له ومصادقتها عليه بصفة نهائية؛ أي يكون واجب النفاذ دون الحاجة إلى إجراء آخر أو موافقة الحاكم عليه. وهذا الأسلوب ديمقراطي سواء من حيث الإعداد أو من حيث الإقرار والمصادقة، وهذا على الرغم من عدم تدخل الشعب بصفة مباشرة في عملية المصادقة. ومن بين الدساتير التي وضعت عن طريق الجمعية التأسيسية، دستور الولايات المتحدة الأمريكية الاتحادي لسنة 1787، والدساتير الفرنسية لسنوات 1791، 1848، و1875، والدستور السوري لسنة 1950، والدستور التونسي لسنة 1959.
وتجدر الإشارة إلى أن صلاحيات الجمعيات التأسيسية قد تكون محصورة في وضع الدستور فقط كما كان عليه الحال في الو.م.أ، وقد تكون لها بالإضافة إلى تأسيس الدستور صلاحيات أخرى، كانتخاب رئيس الجمهورية، أو تعيين الحكومة، والقيام بالتشريع ومراقبة الحكومة، ويحدث هذا عادة بنية ربح الوقت وتجنب تنظيم عدة عمليات انتخابية في آن واحد أو في وقت متقارب مما قد يثقل كاهل الخزينة العمومية ويرهق مؤسسات الدولة، وقد وقع ذلك في فرنسا أين أضفيت الصفة التأسيسية على البرلمان بالنسبة لدساتير: 1848، 1875، 1945، و1946. وبالنسبة للجزائر فإنها لم تطبق ذلك إلا مرة واحدة منذ استقلالها، وهذا بموجب القانون المؤرخ في 02/09/1962 الذي حدد للمجلس الوطني التأسيسي ثلاث مهام رئيسية، وهي: وضع دستور للبلاد، تعيين حكومة مؤقتة، والتشريع باسم الشعب الجزائري.
ثانيا: أسلوب الاستفتاء الدستوري
في هذا الأسلوب لا يمكن اعتبار الدستور ساري النفاذ، وبالتالي قابلا للتطبيق، إلا إذا وافق عليه الشعب؛ ذلك لأن للشعب وحده سلطة إقرار النص النهائي لوثيقة الدستور الذي يكون قد تكفلت بإعداده والمصادقة عليه مبدئيا:
1. جمعية أو مجلس تأسيسي، وقد وقع العمل بهذا الأسلوب عند وضع الدستور الفرنسي لسنة 1946، والدستور الجزائري لسنة 1963.
2. لجنة حكومية أو لجنة برلمانية أو لجنة من الخبراء التي يتم تعيينها من قبل رئيس الدولة، وقد أتبع هذا الأسلوب في وضع عدة دساتير، من بينها: الدستور الفرنسي لسنة 1958، والدساتير الجزائرية لسنوات 1976، 1989، و1996.
3. مجموعة محددة من الناخبين، ويحدث هذا بالنسبة للدول التي تتبنى ما يسمى بالاقتراح الشعبي كسويسرا مثلا أين اقترحت طائفة من الشعب تعديل الدستور بشكل كلي.
وللإشارة، فإن دور الشعب يقتصر في هذا الأسلوب على الموافقة على كامل النص المعروض عليه أو رفضه دون إمكانية مناقشته أو التعديل فيه أو المشاركة في صياغته. هذا وتبقى أفضل طريقة لوضع الدستور هي تلك التي تجمع بين أسلوب الجمعية التأسيسية في مرحلة الإعداد خاصة ما إذا توافرت في أعضائها الكفاءة والخبرة، وكانوا يتمتعون بالاستقلال في أداء مهمتهم، وأسلوب الاستفتاء الدستوري في مرحلة الإقرار الذي وحتى يحقق الغاية المرجوة منه يستحسن أن يكون في إطار نظام سياسي قائم على وجود فعلي لتعددية سياسية وإعلامية قادرة على توعية الشعب وتنويره بمدى ضرورة المصادقة أو عدم المصادقة على مشروع الدستور المعروض عليه