6. البنائية
في الوقت الذي تميل فيه كل من الواقعية والليبرالية إلى التركيز على العوامل المادية فإن المقاربات البنائية تركز على تأثير الأفكار، وبدلا من النظر إلى الدولة كمعطى مسبق والافتراض أنها تعمل من أجل بقائها، يرى البنائيون أن المصلحة والهوية تتفاعل عبر عمليات اجتماعية (تاريخية) كما يولون أهمية كبيرة للخطاب السائد في المجتمع، لأن الخطاب يعكس ويًشكلً في الوقت ذاته المعتقدات والمصالح، ويؤسس أيضا لسلوكات تحظى بالقبول. إذن، فالبنائية تهتم أساسا بمصدر التغير أو التحول. وهذه المقاربة حلت بشكل كبير محل الماركسية كمنظور راديكالي للشؤون الدولية.
ساهمت نهاية الحرب الباردة في إضفاء الشرعية على النظريات البنائية لأن الواقعية والليبرالية أخفقتا في استباق هذا الحدث كما أنهما وجدتا صعوبة كبيرة في تفسيره، بينما تمتلك البنائية تفسيرا له، خصوصا ما يتعلق بالثورة التي أحدثها ميخائيل غورباتشيف في السياسة الخارجية السوفيتية باعتناقه أفكارا جديدة "كالأمن المشترك".
زيادة على ذلك، وبالنظر إلى التحدي الذي تتعرض له الضوابط التقليدية بمجرد تحلل الحدود، وبروز القضايا المرتبطة بالهوية، فإنه ليس من المفاجئ أن نجد الباحثين قد التجؤوا إلى مقاربات تدفع بمثل هذه القضايا إلى الواجهة وتجعل منها محور الاهتمام.
ومن وجهة نظر بنائية، فإن القضية المحورية في عالم ما بعد الحرب الباردة هي كيفية إدراك المجموعات المختلفة لهوياتها ومصالحها. ورغم أن التحليل البنائي لا يستبعد متغير القوة، إلا أن البنائية ترتكز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض، لتشكل الطريقة التي تنظر بها الدول لمختلف المواقف، وتستجيب لها تبعا لذلك. ومن خلال ما سبق، يتضح أن معرفة ما إذا كان الأوروبيون ينظرون إلى أنفسهم بمنظور وطني أم بمنظور قاري، ينطوي على أهمية تحليلية كبيرة، وينسحب الأمر ذاته عما إذا كان الألمان واليابانيون سيعملون على إعادة النظر في ماضيهم، بحيث يتبنون أدوارا خارجية فاعلة، وعما إذا كانت الو.م.أ. ستعتنق أو سترفض هوية تقضي بأن يلعب الأمريكيون دور دركي العالم.
النظريات البنائية متعددة، وهي لا تقدم لنا تصورا موحدا لتوقعاتها حول أي من القضايا المطروحة على المستوى التصوري الصرف، إذ يرى ألكسندر ووندت أن التصور الواقعي للفوضى لا يقدم لنا تفسيرا مناسبا لأسباب حدوث النزاعات الدولية، فالقضية الجديرة بالنقاش هي كيف يتم فهم هذه الفوضى؟ وبحسب ووندت، فإن الفوضى هي ما صنعته الدول [وليست معطى مسبق]. هناك اتجاه آخر للبنائية يركز على مستقبل الدولة، ويعتبر أن الاتصالات عبر الوطنية وتقاسم القيم المدنية أدت إلى تقويض دعائم الولاءات الوطنية التقليدية، وإيجاد أشكال جديدة من الجمعيات السياسية. كما أن بعض البنائيين يركزون على دور الضوابط ويرون أن القانون الدولي وغيره من المبادئ الآمرة أدت إلى نخر المفاهيم التقليدية البدائية للسيادة، مثلما استطاعت تصوير الأغراض المشروعة التي تمارس الدول سلطاتها استنادا إليها. ومهما يكن، فإن الموضوع المشترك بين كل هذه الاتجاهات يتمثل في قدرة الخطاب على صياغة الكيفية التي يحدد بها الفاعلون هويتهم ومصالحهم وبالنتيجة يقومون بتعديل سلوكاتهم.