6. النظرية الماركسية في العلاقات الدولية
أ- كارل ماركس والتنظير العلاقات الدولية
تقوم تحليلات كارل ماركس حول الرأسمالية على مجموعة من المقولات الفلسفية العامة، تتمحور أغلبها حول نظرته للتاريخ الاجتماعي، حيث يرى أن هذا التاريخ لا يتعدى كونه حركة مستمرة وفي اتجاه واحد لتحقيق مزيد من التقدم والانعتاق الإنساني، وأن أي تحول اجتماعي في التاريخ إنما يتم من خلال آليات الصراعات الطبقية داخل المجتمع. خلاصة هذا التصور هي مقولته الشهيرة في "البيان الشيوعي": "إن تاريخ المجتمعات حتى الآن ليس سوى تاريخ صراع الطبقات". كما بين ماركس أن طبيعة العلاقات الاجتماعية (العلاقات بين الطبقات) تؤثر بشكل مباشر على طبيعة قوى الإنتاج في المجتمع.
لقد استغرق ماركس جزءا معتبرا من حياته العلمية في دراسة القوانين التي تولد وتحرك نمط الإنتاج الرأسمالي، وذلك من خلال فحص الظروف التاريخية التي أدت إلى بروز الرأسمالية في أوروبا، وطبيعة العلاقات الطبقية التي تتحكم في عمله وصيرورتها التاريخية. ومن هنا جاءت إدعاءاته القوية حول استنتاجه بأن هناك خللا في البنية الجوهرية للنظام الرأسمالي يمنعه من الاستمرار تاريخيا، وبذلك فهو لا يمثل إلا مرحلة تاريخية تمهيدا لنظام اجتماعي "أكثر استقرار وعقلانية وإنسانية".
تكمن الأهمية العلمية للقوانين الماركسية في فهم الرأسمالية في قدرتها – إذا تم تعميمها – على الكشف على القوانين [التاريخية] الخاصة التي تتحكم في بروز وتطور وسقوط أي تشكيل اجتماعي والتنبؤ ببديله الذي [يفترض جدليا أن] يكون أرقى منه تنظيما لقوى وعلاقات الإنتاج.
تاريخيا، لم يتسن لكارل ماركس أن يسقط منطقه الجدلي على دراسة المجتمعات غير الأوربية، والوصول – من ثم – إلى الكشف عن أبعاد التوسع الرأسمالي على المستوى العالمي. وبذلك فقد كان من اللازم انتظار إسهامات فلاديمير لينين الذي ارتبط تفكيره بماركس، حيث أصبحت الماركسية-اللينينية leninist-marxism تطلق على الاتجاه الفلسفي الذي تبناه الحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفييتي لعقود متعاقبة.
2- نظرية الامبريالية
تعتبر كتابات لينين النقدية حول الإمبريالية امتدادا للفلسفة الماركسية حول تطور النظام الرأسمالي، وفي نفس الوقت هي عبارة عن مداخلات نظرية للرد على التيارات التحريفية revisionist (في طليعتها إدوارد بيرنشتاين) التي كانت قد شككت في إدعاءات ماركس حول المسار التاريخي [الحتمي] للرأسمالية. وقد لاحظ لينين أن الرأسمالية تتجه نحو مرحلة تاريخية جديدة ولكنها لا تختلف في جوهرها عما وصفه ماركس، بل إنها تقوي وتدعم تصوره لسيرورة الرأسمالية نحو نهايتها. هذه المرحلة هي مرحلة الرأسمالية الاحتكارية/الإمبريالية، وهي بالنسبة له أعلى مراحل الرأسمالية.
لقد حاول لينين – على غرار ما فعله ماركس – وضع نظرية شاملة تكشف أسباب بروز الرأسمالية الاحتكارية والقوى والقوانين الداخلية المتحكمة في تطورها، وقد خلص إلى أن التنافس الرأسمالي قد وصل إلى مرحلة نوعية جديدة بقيام الاحتكارات، وتحولت المنافسة إلى منافسة دولية تتسبب في حروب "إمبريالية" خالقة – بذلك – أوضاعا مناسبة للثورة البروليتارية وبالتالي القضاء على النظام الرأسمالي.
من المفارقات التي تبعث على الفضول أن طلائع نظرية الإمبريالية جاءت من الاقتصادي الليبرالي الإنجليزي John A. Hobson. وقد دفعت به مسيرته المهنية كمراسل صحفي لـ The Manchester Guardian إبان حرب الـ Boer في جنوب إفريقيا إلى مناهضة الرأسمالية، لأنه كان شاهدا على دور محتكري الماس في تغذية الحرب واستمراريتها. يرى Hobson أن المجتمعات الرأسمالية دائما تواجه معضلة فيض الإنتاج وغيض الاستهلاك dilemma of overproduction and underconsumption، ولو أن الرأسماليين عملوا على إعادة توزيع الثروة الناتجة عن فائض القيمة surplus لتعزيز مستوى الرفاه المحلي لما كانت هناك مشكلة بنيوية في الأساس، غير أنهم في المقابل يعمدون إلى البحث عن إعادة استثمار رأس المال الفائض في الخارج، فتكون النتيجة هي الإمبريالية، التي يمكن تعريفها بأنها "سعي [الرأسماليين] الصناعيين لتوسيع قنوات الثروة الناتجة عن فائض القيمة من خلال البحث عن أسواق ومناطق استثمار خارجية [جديدة].." . وإلى جانب Hobson هناك المنظران الاشتراكيان الألمانيان Rosa Luxembourg وRudolph Hilferding اللذان عملا على تطوير إسهامات Hobson، غير أن لينين يبقى أهم منظر للإمبريالية.
كان لينين في كتيبه النافذ الذي صدر عام 1917 بعنوان Imperialism: the Highest Stage of Capitalism محافظا على خط تفكير كارل ماركس، الإسهام الذي أضافه يكمن في مسعاه لوضع الرأسمالية – من المنظور التحليلي – في سياق دولي أوسع نطاقا من السياق الذي تناوله ماركس، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فقد أفضى به تأثره الشديد بإدراك ماركس للرأسمالية إلى ملاحظة أن التناقض في المصالح بين البروليتاريا والبورجوازية يبقى قائما بغض النظر عن الموقع الجغرافي للعامل أو الرأسمالي. وقد كان هذا التصور ترديدا لصدى العبارة الشهيرة التي أطلقها ماركس: "يا عمال العالم اتحدوا، فليس هناك ما تخسرونه سوى أصفادكم"، إذ يصبح التضارب في المصالح بين عمال الدول على اختلافها أمرا غير وارد، هذا إذا تمكنوا من التحرر من قيود الأيديولوجيات البرجوازية المسيطرة محليا، هذا بالنسبة للبروليتاريا؛ أما بالنسبة للبورجوازية، فقد لاحظ لينين أن الرأسمالية الاحتكارية تمكنت من إحداث بنية ثنائية المستوى ضمن الاقتصاد العالمي الحديث، حيث يوجد مركز مهيمن يستغل المجموعات الطرفية الموجودة على هامش البنية، هذه البنية مكنت البورجوازية في دول المركز من استعمال فوائض القيمة الناتجة عن استغلال الأطراف في تحسين ظروف البروليتاريا داخل دول المركز، وبذلك فقد أعاد لينين النظر في مقولة التناغم في مصالح العمال على صعيد عالمي.
مما سبق، يمكن الخلوص إلى أن لينين هو أول منظر بنوي ينتبه إلى أن الانقسام البنيوي بين مركز النظام الرأسمالي وأطرافه هو الذي يحدد طبيعة العلاقة بين البورجوازية والبروليتارية. وهنا يمكن تسجيل ملاحظة على قدر من الأهمية في تحديد المنطلقات الأنطولوجية للماركسية الدولية، تتعلق بكون الدول لا تمثل الفاعلين الوحيدين في العلاقات الدولية، كما ذهبت إليه الواقعية والليبرالية على نحو أقل تشددا، بل هناك الطبقات الاجتماعية والمواقع التي تحتلها ضمن البنية الشاملة للنظام الرأسمالي العالمي، وهي (المواقع) التي من شأنها تحديد نماذج التفاعل بين الوحدات الدولية وأنماط الهيمنة والسيطرة السائدة فيما بينها.
يبقى أن نشير إلى الأهمية الكبيرة التي تمتعت بها نظرية الإمبريالية ضمن الحوار الذي احتدم في فترة ما بين الحربين العالميتين حول الأسباب التي تفرز ظاهرة الحرب، وإن كان هذا الحوار أشبه بـ "الحوار الصامت silent debate"، نتيجة لكونه جمع بين المنظور الواقعي الكلاسيكي غربي/رأسمالي التمركز capitalist-centered ومنظور الإمبريالية شرقي/ماركسي التمركز marxist-centered، ولم تكن له انعكاسات واضحة على حقل التنظير لحقل النزاعات الدولية. ففي الوقت الذي ركز فيه المنظور الواقعي على الطبيعة الشريرة للإنسان والبنية الفوضوية للنظام الدولي، فقد جادل منظور الإمبريالية بأن الحروب هي نتاج النزوع المستمر للرأسمالية نحو التوسع بحثا عن أسواق خارجية جديدة وعن فضاءات أوسع وأخصب لاستثمار فوائض القيمة الناتجة عن استغلال المركز للأطراف، هذه النزعة تؤدي بالمراكز الرأسمالية المتنافسة إلى الصدام ببعضها البعض، وعندما لا تتوفر الآليات المناسبة للإجماع حول تقاسم مناطق النفوذ، يتم الحسم عسكريا من خلال الحروب.