2. البعد الأنثروبولوجي للإعلام

    فالإعلام المرتبط بعلم الإنسان هو مجال متعدد التخصصات إلى حد ما،  مع مجموعة واسعة من التأثيرات المتنوعة والمتعددة،  و تتراوح النظريات المستخدمة في الإعلام المرتبط بعلم الإنسان، من مناهج الممارسة التي ترتبط بالمنظرين أمثال: بيير بورديوPierre Bourdieu، ونظريات كمعالجة المعلومات والإثراء الإعلامي، وكذلك مناقشات حول تخصيص وتكييف التقنيات والممارسات الجديدة،  كما تم تبني مناهج نظرية من علم الإنسان المرئي ومن نظرية الأفلام،  وكذلك من دراسات الطقوس، ودراسات الأداء (مثل الرقص والمسرح)،  ودراسات الاستهلاك، والإشباع والاستخدامات واستقبال الجمهور في الدراسات الإعلامية، ونظريات الشبكات والإعلام الجديدة، ونظرية سوق الولاءات، ونظريات العولمة، ونظريات المجتمع المدني الدولي، ومناقشات حول الاتصالات الاشتراكية  والجهد الحكومي في دراسات التنمية، وتتناول أنثروبولوجيا الإعلام أيضا  دراسة  ثقافات الاتصال من خلال الوسائط الإلكترونية والراديو والتلفزة والأفلام والموسيقى المسجلة والانترنيت والوسائط المطبوعة، ولغة الإعلام، والثقافة  الإعلامية الموهمة والجاذبة للمتلقي، وإقناعه بشتى الطرق بتوظيف علم السيميوطيقا والسيميائيات  sémiotique لتحويله إلى مجرد مستهلك للبضاعة الإعلامية رغم أنفه “اللاوعي الصوري”،  فالأنثروبولوجيا واهتماماتها بوسائل الإعلام  ظهرت مع مدرسة كولومبيا بمقاربتها لوسائل الإعلام التقليدية التي سادت فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، ولازالت إلى يومنا هذا، وإن تضاءل تسليط الأضواء عليها كالراديو والسنيما…، لأنه في أواخر القرن العشرين شهدت ثورة عارمة في مجال وسائل الاتصال الجماهيري باكتساح وسائل تقنية ذكية للساحة الإعلامية كمواقع التواصل الاجتماعي المعاصرة، وشبكات الانترنيت والويب والهواتف الذكية، فلم تعد الأنثروبولوجيا تدرس تأثير وسائل الإعلام التقليدية على الجماهير فقط، بل انتقلنا إلى الوسائل الحديثة، وكيفية تشكيلها للعقول وصناعة رأي العامة لما يخدم أجندات النخبة الحاكمة، ودراسة عادات وطرق التعامل الجماهيري مع هذه الوسائل الذكية “ثورة الإنفوميديا”.

    ويهدف هذا إلى تسليط الأضواء على مدى تأثيرات الإعلام على الجمهور، وتضليله بتزييف الحقائق وتشويهها وقلبها، لتعطي صورة مناقضة للواقع الحقيقي  وللدور الاصلي المعد له، وهذا الإيهام يتم بآليات ذكية، وغير مرئية يستسيغها المتلقي بوعي منه أو بدونه، وذلك  ما سأتناوله من خلال مختلف نظريات الإعلام وعلاقة الإعلام بالثقافة، ودور الدراسات الإثنوغرافية من منظور أنثروبولوجيا الإعلام، من حيث وصف مظاهر التلقي لدى المتلقي، وثقافته في التعامل مع وسائل الإعلام سواء التقليدية أو العصرية، فهو عمل يقوم به الإثنوغرافي  حيث يصف، ولا يُقوم المتلقي وعاداته والقيم التي تحكمه، بينما العمل التأويلي والتحليلي يقوم به الأنثروبولوجي، وفي التعامل مع وسائل الإعلام، وتفكيك بنياتها، يلتقي عملهما معا، فالفصل بين أدوارها مجرد إجراء ميتودولوجي، Methodology   متبعا في هذه الدراسة منهج الاستقصاء والاستنباط، وتكمن أهميتها في معالجة هذا النوع من الأنثروبولوجيا، الذي أصبح متجذرا في كل ركن من أركان الحياة الإنسانية اليومية، والقيام بطرق جنيالوجية –تفكيكية –تأويلية لأدوارها، وانعكاساتها على الإنسان بتزييف الأحداث والتاريخ والمعرفة، وأدلجة القضايا وتحريفها عن مسارها، وهذا فيه انعكاس سلبي للإعلام على ثقافة وهوية الإنسان، مع ضرورة التطرق للنظريات التي طرحت الموضوع وآليات تناولها للقضية الإعلامية ووسائلها.

    كل هاته القضايا التي تطرحها أنثروبولوجيا الإعلام بين الامس واليوم، ودرجة  تأثيرها على  هوية الإنسان، تحتم طرح التساؤلات  التالية:  ما المسار التاريخي الذي مرت منه أنثروبولوجيا الإعلام؟ وما طبيعة علاقة الثقافة بالإعلام؟ هل الإنسان قادر على استيعاب ووعي وكشف ألاعيب وسائل الإعلام؟ وكيف تتلاعب بالعقول وتوهمها بالسعادة والرفاه ظاهريا، وفي العمق تدمر هوية وكينونة الإنسان؟ وما الدور الحقيقي الذي ينبغي أن تلعبه أنثروبولوجيا وسائل الإعلام، لخدمة الإنسان وعدم إيهامه وخداعه؟ ماذا يفعل علماء الأنثروبولوجيا لفهم ممارسات وسائل الإعلام بشكل أمثل؟  هل الأنثروبولوجيا المتجذرة في الأبعاد الصغيرة والحياة اليومية، قادرة على وصف وسائل الإعلام؟ وهل نشأت أنثروبولوجيا الإعلام كباقي العلوم الحديثة أم لها خصوصيتها واستقلاليتها؟ وهل استطاعت نظريات الإعلام دراسة الظاهرة الإعلامية بشكل علمي وموضوعي؟  وما العمل لإعادة الدور الفعال والأصيل للإعلام ليقوم بأدواره الثقافية لبناء الذات والهوية الإنسانية؟