مقياس إشكاليات الفلسفة الأخلاقية

السنة الثانية ماستر فلسفة عامة

إعداد د.بلهوشات عبدالنور

02-10-2023

المحاضرة الأولى: 

مدخل إلى فلسفة الأخلاق

 

 

يبحث علم فلسفة الأخلاق في صياغة وتعريف مفهوم الصواب والخطأ للتصرفات والافعال البشرية. يقسًم الفلاسفة النظريات الاخلاقية لثلاث مواضيع عامة: آولا، ما رواء الاخلاق، التي تبحث فى ماهية القواعد والقوانين الأخلاقية ومن آي مصدر تصل إلينا؟ وهل هى مجرد جزء من المنظومة الاجتماعية آم آنها تنطوي على مكون علوي او سماوي؟ الأمر الذي يجعل فلاسفة الاخلاق بالضرورة يبحثوا في ماهية الحقائق الكونية٫ مثل ارادة الله، والإرادة الحرة والحقيقة الموضوعية. ثانيا، الأخلاق التنظيمية، مهمتها أكثر عملية وهي الوصول لمعايير أخلاقية تنظم التصرفات الصحيحة والخاطئة سواء كان عن طريق قوانين الزامية او توصيات اجتماعية. ثالثا، الاخلاق التطبيقية، التي تركز على مشاكل أخلاقية محل خلاف في كتير من المجتمعات، مثل الاجهاض، والاستنساخ، والهندسة الوراثية، والعقاب المجتمعي، والحروب والنزاعات وغيرها من الموضوعات.

 

الآصل اللغوي والتاريخي لمصطلح الأخلاق 

في ثقافة عصر التنوير لم تعد اللغة الأولى للخطاب الثقافي اللغة اللاتينية، إلا أنها ظلت لغة التعليم الثانية وفي اللغة اليونانية لا وجود لكلمة يمكن ترجمتها ترجمة صحيحة بكلمتنا مثل، كلمة، أخلاقي، أو فالنقل، لا وجود لمثل هذه الكلمة إلى أن ترجمت كلمة، أخلاقي، (Moralis) مثل سابقتها اليونانية، أخلاقي (Ethikos)، وكان شيشرون (Cicero) قد ابتدع (Moralis)، لترجمة الكلمة اليونانية في كتابه: De Fato  الذي بحث فيه عن القدر وحرية الإرادة، حيث لم يعنٍ خلق الإنسان أكثر من مجموعة تصرفاته وميوله للسلوك بطريقة لا بأخرى، وأن يقود نوعا واحدا خاصا من الحياة. 

الاستعمالات الأولى لكلمة، أخلاقي، في اللغة الإنجليزية ترجمت الاستعمال اللاتيني، ومضت في استعمالها كاسم، حيث عنت، أخلاقية، أي مقطع أدبي يتمثل في الدرس العملي الذي يعمله، وفي تلك الاستعمالات الأولى لم تكن كلمة، أخلاقي، مضادة لتعابير مثل متعقّل أو، ذي منفعة ذاتية، و لا مع تعابير مثل، قانوني، أو، ديني وكانت الكلمة ذات المعنى الأقرب إليها هي ببساطة كلمة، عملي، وفي تاريخها اللاحق كانت جزءا من تعبير، فضيلة أخلاقية، ثمّ صارت صفة في حدّ ذاتها، مع ميل متواصل لتضييق معناها، وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر اتخذت معناها الحديث المعترف به، وصارت متاحة للاستعمال في السياقات المذكورة قبل قليل، وفي أواخر القرن السابع عشر استعملت لأول مرة، بمعناها الأكثر تحديدا، بالمعنى ذي الصلة بالسلوك الجنسي، بشكل رئيسي. 1 

لمحة عن جذور وتاريخ تعدد مصادر نظرية الأخلاق

أثار بعض الفلاسفة المعاصرون، مثل الفيلسوف الإسكتلندي آلسدير ماكانتير في كتابه "بعد الفضيلة" بعض الإشكالات التي تخص المسوغات التي أدت إلى تعدد واختلاف وجهات النظر الفلسفية حول مصادر الأخلاق. فذكر أنه لا يمكن سرد قصة تاريخ الكلمة، أخلاقي، بشكل كاف وواف بمعزل عن شرح لمحاولات توفير تسويغ عقلي للأخلاق في تلك الفترة التاريخية – لنقل من عام ١٦٣٠ إلى عام ١٨٥٠- عندما اكتسبت معنى عاما وخاصا في ذات الوقت. في تلك الفترة صارت، الأخلاق، الاسم الخاص بتلك المنطقة الخاصة التي فيها سمح لقواعد السلوك التي ليست ثيولوجية ولا قانونية ولا استطيقية بأن يكون لها فضاء ثقافي خاص بها؛ إلا في أواخر القرن السابع عشر والثامن عشر، وعندما صار التمييز بين ما هو أخلاقي عما هو ثيولوجي وقانوني واستطيقي عقيدة مقبولة، صار مشروع تسويغ عقلي مستقلّ للأخلاق رئيسيا في الثقافة الأوربية الشمالية، وليس فقط الشغل الشاغل لمفكرين أفراد. 

فمن بين أبرز الفلاسفة الذين وجدوا مسوغات عقلية للأخلاق، نجد أن ماك انتير يستشهد بشيء من التفصيل بكانط في فلسفته الأخلاقية. هناك أطروحتان بسيطتان ومضللتان رئيسيتان في فلسفة كانط الأخلاقية، حسب ماك انتير، وهما: إذا كانت قواعد الأخلاق عقلية فيلزم أن تكون ذاتها عند جميع الكائنات العاقلة، وبطريقة تشبه طريقة قواعد علم الحساب، وإذا كانت قواعد الأخلاق ملزمة لجميع الكائنات العاقلة، عندئذ تكون القدرة الممكنة لتلك الكائنات على تنفيذها غير مهمة – فالمهم هو إرادتهم العمل بها. فمشروع اكتشاف تسويغ عقلي للأخلاق هو ببساطة مشروع اكتشاف اختبار عقلي يميّز تلك القواعد السلوكية التي هي تعابير حقيقية عن القانون الأخلاقي عند الإرادة في تلك القواعد السلوكية التي ليست مثل تلك التعابير، ولم يكن لكانط نفسه أي شك بتلك القواعد السلوكية التي هي تعابير عن القانون الأخلاقي، فالرجال الفاضلون والنساء الفاضلات لم يكن عليهم

أن ينتظروا الفلسفة لتعلّمهم مما تتألّف الحياة الصالحة، ولم يشك كانط، ولو للحظة، بأن قواعد السلوك التي تعلّمها من والديه الفاضلين هي التي يجب إثباتها باختبار عقلي. 

فكانط هكذا يكون قاد حاز على مخزون من قواعد السلوك من ناحية، وعلى مفهوم ما يجب أن يكون الاختبار العقلي لقاعدة السلوك. لذا وجب النظر في سبب رفض كانط مفهومين لذلك الاختبار كان لهما نفوذ واسع في التقاليد الأوربية. فمن جهة رفض كانط وجهة النظر التي تقول، إن اختبار قاعدة السلوك مقترحة بمثل ما إذا كانت إطاعتها تؤدي في النهاية إلى سعادة كائن عاقل، ولم يكن كانط يشك في أن جل البشر ينشدون ويرغبون في تحقيق السعادة، ولم يكن يرتاب في أن أعلى خير يتمثل في إمكانية أن يتوج الكمال الأخلاقي للفرد بالسعادة التي يستحقها. إلا أن كانط اعتقد أن مفهومنا للسعادة غامض بصورة غير معقولة وهو غير ثابت فلا يمكن أن يوفّر إرشادا أخلاقيا يمكن الميل إليه.

كما أن أي تعليم أخلاقي مصمّم لتأمين سعادتنا سيكون تعبيرا عن قاعدة لا تطبق إلا شرطيا، فهي تأمر بفعل كذا – وكذا، إذا كان فعل كذا وكذا – سيؤدي إلى سعادة بالنتيجة. في حين أن كانط اعتبر أن التعابير الحقيقية عن القانون الأخلاقي لها صفة مطلقة وغير مشروطة. فهي لا تأمرنا على نحو افتراضي، هي تأمرنا هكذا ببساطة.  لذا، لا تستطيع الأخلاق أن تجد أساسا لها في رغباتنا، كما لا تستطيع أن تجد أساسا في معتقداتنا الأخلاقية. لأن النظرة التقليدية الثانية التي شجبها كانط كانت تلك التي اختبارها لقاعدة سلوك مفترضة أو تعليم أخلاقي مفترض يمثل فيما إذا كانت مأمورة من الله.

وهكذا بالنسبة لكانط، فإن جوهر العقل أن يضع مبادئ شاملة، مطلقة، ومتسقة اتساقا داخليا. لذا، فإن الأخلاق العقلية تضع مبادئ يمكن ويجب أن يعتنقها جميع البشر، بمعزل عن الظروف والأحوال والتي يمكن أن يطيعها، ومن دون تناقض كلّ فاعل عقلي في كلّ الحالات. لذا، فإن اختبار أي قاعدة سلوكية مقترحة سيصاغ بسهولة، وهو: هل يمكننا أو لا يمكننا أن نريد دون تناقض وجوب أن يسلك كلّ واحد، ودائما، بحسبها.

يكتشف ماكإنتير أن محاولة تأسيس ما سماه كانط قواعد السلوك الأخلاقية على العقل قد أخفقت تماما كما أخفق كيركيغارد اكتشاف أساس لها (أي قواعد السلوك) في فعل الاختيار. ويرى ماك إنتير أنه "إذا فهمنا خيار كيركيغارد على أنه بديل للعقل عند كانط، فينبغي أن نفهم أن كانط أيضا كان مستجيبا لسلسلة أحداث مترابطة، وأن لجوء كانط إلى العقل كان بمثابة الوريث التاريخي والخلف للجوء ديدرو وهيوم للرغبة وإلى العواطف. ففكرة كانط كانت ردا تاريخيا على فشلهما. ومهما قيل آنذاك عن العوامل المُحفزة والدافعة للأخلاق، فإن السمة الرئيسة التي أدت إلى بروز تعدد مصادر ومشارب السلوك الأخلاقي هو محاولة الحداثة المستميتة التخلي عن الأنظمة التسلسلية الهرمية والسلطات العليا مهما كانت والتفسيرات الميتافيزيقية للموضوعات والتي كانت تُنعت بأنها "غير معروفة" كما أسس له كانط. (انظر ريني غينون، أزمة العالم الحديث).