- المنهج التفكيكي عند جاك دريدا:
1- نبذة عن حياة جاك دريدا ومؤلفاته:
ولد دريدا في الجزائر سنة 1930، وبعد عودته إلى فرنسا التحق بالمدرسة العليا للمعلمين، حيث درس الفلسفة على يدي كبير المنشغلين بالفلسفة الهيغلية وهو جان هيبوليت.
استقر في هذه المدرسة منذ سنة 1965 كمدرس لتاريخ الفلسفة.
اشتهر ككاتب مقال يحلل من خلالها النصوص: أدبية وفلسفية وفكرية متنوعة، بدليل أن كتاباته اتخذت شكل مقالات.
كان يقر هو وسارتر الذي كان يشرف على مجلة الأزمنة الحديثة، أنه: صحيح، ما من شيء يمكنه أن يعوض الكتاب، لكن يبقى المقال أكثر فعالية وأيسر تداولا وأكثر مواكبة للاختراعات العلمية والتطور العلمي المعاصر في جميع تخصصاته. كما يعبر المقال عن اهتمامات فكرية آنية لا تستوعبها الكتب إلا بعد فترات زمنية معينة. ولهذا السبب احتل المقال أهمية متزايدة في الحياة الفكرية الفرنسية على يد سارتر والبنيويون والتفكيكيون.
وإن أردنا تأكيد صحة هذه الفكرة، حسب دريدا، فإننا نقول أن عدد المجلات الفكرية والفلسفية المختصة التي تصدر في فرنسا كانت من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار المقال في الفكر الفلسفي الغربي المعاصر.
من أهم مؤلفاته:
*الصوت والظاهرة: أصدره سنة 1967، يعد تقريبا الكتاب الأوحد الذي عالج فيه موضوعا محوريا واحدا، يتعلق بنقده لفلسفة إيدموند هوسرل الفينومينولوجية. وكان هذا يمثل بداية عملية واسعة شملت نقده للفلسفة الغربية المعاصرة.
*الكتابة والاختلاف: في السنة نفسها، وهو عبارة عن مقالات ينتقد فيه أعمال غيره من الفلاسفة الغربيون المعاصرون.
*قواعد علم الكتابة: في السنة نفسها، وهو أهم كتبه على الإطلاق، ويشمل على مجموعة مقالات متنوعة، تتعلق بموضوع العلاقة بين الكلام والكتابة.
* مواقف: أصدره في السنة نفسها.
وبعد ذلك توالت كتبه الأخرى، وهي أقل أهمية من سابقاتها، منها:
*هوامش الفلسفة: سنة 1972.
*الحقيقة عن طريق الفن: سنة 1978.
الواقع، أن دريدا، في انتقاله من نص إلى نص، عبر هذه المقالات المتنوعة، إنما يحاول الغوص في داخل النص، في محاولة لاستخلاص نسقه الفكري الداخلي. وذلك عبر طريقة تحليلية، تفكيكية، يحاول من خلالها أن يظهر بأن النصوص هي أنساق مركبة. ومن أهم النصوص التي انتقدها وفككها نجد النص الفوكوي الموسوم ب: (تاريخ الجنون) وذلك ما نستشفه من خلال كتابه المعنون: الكتابة والاختلاف، حيث يظهر مدى اختلافه مع فوكو من جهة، والفلسفة البنيوية من جهة أخرى.
2- تجاوز البنيوية من خلال نقد تاريخ الجنون لميشال فوكو:
قلنا أن كتابات جاك دريدا تضم مقالات.
وبالتالي، يضم كتاب (الكتابة والاختلاف) مقالات متنوعة، موحدة من حيث المنهج. فنجد فيه: مقال يتحدث عن فلسفة إيمانويل لفيناس، ومقال آخر يتعلق بسيغموند فرويد، ومقال بعنوان: "الكوجيتو وتاريخ الجنون"، الذي سنقتصر عليه، لأنه بمثابة منطلقه العام في نقد الفلسفة، والمنهج البنيوي بصفة عامة.
ونقد دريدا في هذا المقال، يعد رد على نقد ميشال فوكو للكوجيتو الديكارتي في: (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، بحيث يرى فوكو أن روني ديكارت هو المسؤول المباشر على ما لحق بمفهوم الجنون من تهميش، واقصاء من الحياة الاجتماعية والفكرية. ونقطة البداية عند دريدا هي اندهاشه من (تاريخ الجنون) لفوكو، بحيث يعترف أنه أمام صعوبة موضوعية تتمثل في كونه أمام مؤلف هام وصعب، يطرح مفاهيم جديدةن واشكالية جديدة في تاريخ الحضارة الغربية.
ومن بين المواضع التي انتقد دريدا فيها فوكو نجد ما يلي نصه: "فمن أصل 673 صفحة، نجد فوكو يخصص صفحات ثلاث فقط لنقد ديكارت، وبالضبط نقد التأمل الأول من كتاب (تأملات في الفلسفة الأولى)، حيث نجد مصطلحات مثل الجنون، العوز، العته...إلخ قد أبعدت وطردت خارج إطار الإعتبار الفلسفي، أبعدت من هذه الحياة، عن هذا الوجود."
وهذه، حسب دريدا، هي الإشكالية الأساسية المتعلقة بنقد فوكو لديكارت، غذ يمكننا القول أنه: "قام بتأويل الكوجيتو الديكارتي وفق ما قصده هو، أي وفق فهم لا ينتمي إلى جوهر الكوجيتو." وعلى هذا الأساس، يرى دريدا أن فوكو قصد من وراء كتابه هذا، بعث جنون يسجل نفسه بنفسه، وبكلامه هو، حيث لا دخل للعقل فيه، ولا للتحليل النفسي، ولا لأي نوع من أنواع القهر والاضطهاد التي تمارس ضد الجنون. لنترك لغة العقل، ولو لمرة واحدة، ولنستمع للغة الجنون، في انسيابها العفوي، الحقيقي، الأصيل.
يقصد دريدا، في هذا السياق، رفض فوكو الطريقة الموضوعية / العقلانية في عملية كتابة تاريخ الجنون، أو الكلام عن الجنون بلغة العقل، لأن العقلانية لغة النظام. لهذا راح يكتب في أركيولوجيا الصمت بدون تدخل اللوغوس، مما يعني أنه يريد الفصل بين اللوغوس والباتوس، من أجل كشف عيوب المركزية الغربية التي جعلت العقل مركز حضارتها. وهذا ما رفضه دريدا معتبرا أن الثورة على العقل تتطلب ببساطة، تدخل العقل.
من هنا، يعترف دريدا أن فوكو قد أنجز كتابه حول أركيولوجيا الصمت، اي (تاريخ الجنون)ن بالرغم من أنه رفض تدخل العقل في عملية كتابة الجنون. لكن، ما دام أنه أنتجه بهذه الطريقة، فإنه يحق علينا التساؤل عن هذه اللغة التي ليس لها مرجع أو دعم، أن نتساءل هذه اللغة التي ليس لها اي تركيبة عقلية. فهل يمكن أن نكتب تاريخ الجنون دون تدخل العقل؟ هل يمكن أن نكتب في غياب العقل؟ وإن حاولنا الكتابة في هذا السياق، فمن الذي يكتب؟ ومن الذي عليه أن يستمع؟ وبأي لغة سيُكتب الجنون؟ وانطلاقا من أي وضع تاريخي؟ من يكتب تاريخ الجنون؟ ومن يستمع له؟
يرى دريدا أن محاولة فوكو لم تاتي من عدم، كما يدعي هو بقوله بلغة دون تركيبة عقلية. ولكن، سبقتها مؤشرات موضوعية تاريخية. ففوكو ما كان يمكنه أن يفكر في موضوع الجنون، لو لا هذه المؤشرات. بدليل حضور الطب العقلي الذي فتح مجالا واسعا أمام مناقشة موضوع الجنون، بوصفه موضوعا طبيا واجتماعيا في الوقت نفسه. مما يدل أن لغة فوكو لها مصدر اجتماعي واقتصادي وسياسي ومرجع عقلي.
أما عن رد فوكو ضد الكوجيتو الديكارتي، يستحضر دريدا عبارة ديكارت الآتية: "أنني لا يمكنني أن أكون مجنونا ما دمت أشك، افكر، أحلل، وما دامت لديا أفكار واضحة، إذن: لماذا أفكر في غير هذه الحالة العقلية المثلى للإنسان العاقل." ويستنتج منها أن ديكارت، في الحقيقة، لم يلجأ مطلقا إلى اخفاء الجنون، أو حبسه، بل كان يقصد بأن الإنسان كائن عاقل. لكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: كيف ان الإنسان عاقل؟ يرد ديكارت بأن العقل هو أعدل الأشياء وأحسنها توزيعا بين الناس. وبالتالي، يغتنم فوكو – حسب دريدا- هذه العبارة ليعتبر أن ديكارت يسلم أمره إلى الله، في تبريره لأصل العقل وجوهريته. وعليه، يرى أن الكوجيتو يمثل ضرب من ضروب الجنون، بدليل أن بقاؤه ومعقوليته مرهون بالعودة للتفسير الإلهي. من هنا، فإن شكه مفتعل، ولا قيمة منهجية له، فلماذا يشك ما دام يسلم أمره للإله في النهاية؟ ألا يمكن القول أن الكوجيتو الديكارتي يعد جنونا قبل أن يكون فكرا أو فلسفة عقلية؟ بحكم أنه ينطلق من مبادئ وبديهيات محددة دوغماتيا، ولا يطالها الشك، وهي لم تتأسس إلا انطلاقا من وجود الله.
من هنا، على الغم من هذه الانتقادات، يرى دريدا انه لا يمكننا إلا أن نقدر محاولة فوكو إزاحة غشاء الدوغماتية عن العقل، ليكشف عن جانب آخر في الإنسان يستحق الدراسة، وهو الجنون، الذي هو في الأصل تعبير عن أزمة من أزمات العقل.
نقلا عن: عمر مهيبل، البنيوية في الفكر الغربي المعاصر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر.