وظيفة المنهج الأركيولوجي عند ميشال فوكو:
1- فلسفة ميشال فوكو:
ميشال فوكو فيلسوف فرنسي، شغل كرسي تاريخ المنظومات الفكرية في الكوليج دي فرانس. وكانت آراؤه يسارية موجهة ضد الرأسمالية وكن شعاره التحرر من سلطة المعرفة والسلطة. وبعد عشر سنوات ترك فوكو الماركسية الجديدة متأثرا بالفلاسفة الألمان وخاصة نيتشه وهايدغر وشمت وفورشوف من جهة وبلانشو وباتاي من جهة ثانية ودوميزيل وليفي شتراوس من جهة ثالثة إضافة إلى باشلار. يتصف بالجرأة على نحو فرض حضوره في الأوساط الثقافية، ومعالجاته المتعددة في حقول معرفية تجمع بين التاريخ والفلسفة والسياسة واللغةمركزا في بحوثه في السلطة المعرفة والخطاب والحفر الأركيولوجي ومناقشان لمفاهيم مختلفة، مثل الانتهاك، الجسد، الجنون، اللغة والموت. وقف موقفا جذريا من المجتمع عموما، بلهجة نقدية حادة مليئة بالغضب والتمرد. (إبراهيم الحيدري، 2012، ص: 381، 382)
ميشال فوكو، المولود عام 1926، والحاصل على شهادة التبريز في الفلسفة، والمدرس في كلية الآداب في كليرمون فران، يقف عند الحدود غير المعروفة كثيرا بعد بين الإبستيمولوجيا وتاريخ العلوم أم الأفكار ليتحرى عن الأحداث التي صنعت منذ مطلع القرن السابع عشر عقلانية الحضارة الحديثة. فهذه الأحداث لم تكن ميلاد أولاءك الأفراد الذين نسميهم هوبز أو ديكارت أو كانط، وإنما تكوين تلك الشبكة المتواصلة من العمليات العقلية التي تؤلف فيما بينهامنظومة، أو كما يقول في الكلمات والأشياء(1966) "إبستيما". وهذه الكلمة، التي تعني باليونانية "العلم" بالمقابلة مع "التقنية"، إنما يقصد بها "حقلا" أو "مجالا" أو دستورا أساسيا يفرض نفسه في آن متواقت في مختلف مضامين ثقافة بعينها في عصر بعينه ليكون، رغم الشتات الظاهري، "قانونها الداخلي" أو "شبكتها السرية". (جورج طرابيشي، 1987)
يعني هذا أن إبستيمه الحداثة قد نشأت على أساس القطيعة مع إبستيمه التمثيل للعصر الكلاسيكي. وبواسطة هذه القطيعة نشأت إبيتيمه العصر الحديث بمجالاتها المعرفية الجديدة وهي:
أ- البيولوجيا: على عكس التاريخ الطبيعي الذي يقيم تصنيفا اتصاليا بين الكائنات، فإن المفهوم المركزي في البيولوجيا هم مفهوم الحياة، الذي لم تعرفه المعرفة الكلاسيكية، وتم على يد لامارك الذي أقصى التاريخ الطبيعي لصالح البيولوجيا. يرى فوكو نهاية عهد التاريخ الطبيعي وبداية لعهد البيولوجيا. والسبب في ذلك يعود إلى المعنى الجديد الدي أصبح يحمله مفهوم التنظيم، وهو المعنى الذي أعطاه كوفييه Cuvier لهذا المفهوم المركزي في البيولوجيا والذي لم يعد مجرد مؤشر إلى فئة أو صنف من الكائنات، بل صار يحدد القانون الداخلي لبعض الكائنات. ب- الاقتصاد: مع آدم سميث وريكاردو يتغير الحقل المعرفي الذي ساد في العصر الكلاسيكي تحت اسم "تحليل الثروات" ليحل محله الاقتصاد السياسي القائم على قاعدة العمل مع الفارق بين تحليلات آدم سميث وريكاردو من حيث العلاقة بين العمل والإنتاج والندرة. وما تجدر الإشارة إليه هو أن العمل في نظر فوكو لم يعرفه إلا الاقتصاد السياسي. ج- فقه اللغة: أن هذا النظام الجديد الذي يتحدث عنه فوكو هو نظام الإعراب ضمن مجال جديد هو مجال فقه اللغة. ولقد ترتب عن هذا النظام انفصال اللغة عن التمثيل. كان التمثيل في العصر الكلاسيكي هو المحدد للنظام المعرفي واللغوي، وكان الخطاب هو المجال الذي يتحقق فيه. ولكن في بداية العصر الحديث، وخاصة مع جهود فرانز بوب Franz Poppe، بدأ يحدث تحول جدي في اللغةمس الكلمة من حيث أنها لم تعد تقوم على التمثيل وإنما تقوم على ذاتها، على بنيتها الصوتية والصرفية والإعرابية، أو بتعبير آخر إنما تقوم على نظامها النحوي. وكل هذا يسميه فوكو بالانقلاب المعرفي للعصر الحديث، والذي سمح بظهور الاقتصاد السياسي والبيولوجيا وفقه اللغة. (الزواوي باغورة، 2009، ص: 182-184)
والإبستيما، مثلها مثل أي شبكة أخرى، تحتوي وتستبعد، تفتح وتغلق، وبكلمة واحدة تنظم. وعلى هذا النحو فإن العقلانية الكلاسيكية ما أمكن لها أن تؤسس نفسها مع ديكارت إلا بنفيها الجنون باعتباره مغايرها وبحسبها إياه في المصحات العقلية. وعلى النحو نفسه تستبعد هذه العقلانية العلوم الإنسانية أو الأنتروبولوجيا: فهي معاصرة للصرف والنحو وللتاريخ الطبيعي ولدراسة الثروات؛ بمعنى انفتاح حقل جديد مع الانتقال في خاتمة القرن الثامن عشر إلى الفيلولوجيا والبيولوجيا والاقتصاد السياسي. يقول فوكو في هذا الصدد: "إن النظام الذي على أساسه نتعقل الأشياء لا يطابق في نمط وجوده نظام الكلاسيكيين". وعلى هذا النحو يهيئنا فوكو لاحتمال زوال قريب لبنية المعرفة الحالية التي تحمل منذ نحو 150 عاما العلوم المعروفة بالعلوم "الإنسانية"، وبالتالي لاحتمال امحاء الإنسان نفسه "الذي سيتلاشى حال اهتداءه إلى شكل جديد". وبدلا من أن نرى في فكر فوكو مذهبا استفزازيا مضادا للإنسان كما رأى بعض نقاده، يحسن بنا أن نرى فيه واحدة من المحاولات الأولا لتعليل أحداث التاريخ الكبرى. من أهم مؤلفاته الأخرى: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي (1961)، ولادة العيادة (1963)، أركيولوجيا المعرفة (1969).(جورج طرابيشي، 1987)
ومع أن فوكو قد توفي عام 1984 إلا أن بعض مقالاته ودراساته الفسفية كانت معدة للنشرعند وفاتهولكنها لم تنشر إلا بعد موته أي بعد العامين 1984 و1988. أما كتاباته المخطوطة والتي لم تكتمل بعد فقد أوصى فوكو قبل وفاته بعام واحد بأنها ينبغي أن لا تنشر أبدا. هذا لأنه كان يفضل دوما العمل الفلسفي المتكامل بعد أن يقضي سنوات في مراجعته وتنقيحه لعدة مرات ثم الاشتغال على بنيته اللغوية حتى يأتي النص متواكبا بشكل عضوي كليا مع المحتوى الفلسفي الذي يقدمه. (علاء طاهر، 2005، ص: 65)
لقد استعمل فوكو تقسيما معينا للثقافة الغربية الحديثة يبدأ بعصر النهضة أو القرن السادس عشر، ثم العصر الكلاسيكي ويتكون من القرنين السابع عشر والثامن عشر، والعصر الحديث ويتكون التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. ومهما كان رأينا ورأي الدارسين في هذا التقسيم، فإن الفيلسوف الفرنسي قد اعتمده في أهم كتبه التاريخية والفلسفية، ويخاصة في تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، والكلمات والأشياء، والمراقبة والمعاقبة، وإرادة المعرفة، كما خص العصر الكلاسيكي وبداية العصر الحديث بكتاب مولد العيادة. إن هذه الأعمال التاريخية والفلسفية تتضمن تصورا للنهضة والتنوير والحداثة، وتقدم معطيات تاريخية وتحليلات نظرية.(الزواوي باغورة، 2009، ص: 180، 181)
2- في معنى الأركيولوجيا عند ميشال فوكو:
من المعروف أن كلمة أركيولوجيا تعني علم الآثار، أي ذلك العلم الذي يبحث في الآثار المادية للحضارات المندثرة، عن طريق الحفريات، حيث يقوم بدراستها وتحليلها وتركيبها. وكلمة أركيولوجيا (علم الآثار) مشتقة من اللفظ اليوناني "أركية" أو "ارخايوس" الذي يعني القديم، ونحن نعرف أن دراسة الآثار القديمة تستلزم القيام بحفريات، من أجل استخراج آثار الماضي من طوايا الأرض، والعمل على إعادة تركيب تاريخ الحضارات القديمة، لكن فوكو لا يستخدم هذا المصطلح بهذا المعنى المعروف، بل هو يرمي إلى دراسة أرشيف كل عنصر، من أجل الكشف عن المجال الإبستمولوجي الذي يكمن خلف كل تجاربه ومعارضه ومناهجه.(عمر مهيبل، 2010، ص: 160، 161)
أن فوكو لا يقصد بكلمة أركيولوجيا الحفر والتنقيب عما مضى، ولكنه جعل منه قاسما منهجيا مشتركا بين أغلب مؤلفاته، إذ تؤلف الأولى منها ما نستطيع تسميته بأركيولوجيا النظرة الطبية، ويؤلف كتاب الكلمات والأشياء أركيولوجيا العلوم الإنسانية، بينما تؤلف المؤلفات الأخيرة منها أركيولوجيا النظرة العقابية. المهم أن فوكو أراد أن يفتح مجالات طريفة ومتنوعة باعتماده هذه الكلمة، ذلك أن المصطلح في حد ذاته يفترض أن هناك وقائع مخفية، سرية، يتحتم على المعرفة الفلسفية أن تتحمل مهمة الكشف عن أسرارها، وأن تبحث عن أصولها وثوابتها من أجل الوصول إلى بنيتها المكونة.(المرجع نفسه)
3- الدور المركزي لوظيفة المنهج الأركيولوجي عند ميشال فوكو:
في الحقيقة، اعتمد فوكو على مفهوم البنية لدراسة تاريخ المعرفة، ودراسة المعرفة بنيويا تتم وفق قواعد "الخطاب" أو قواعد البنية الخفية القائمة في تاريخ العلوم. فلقد استعاد فوكو مفهوم البنية وأزاح النقاب عن النسق الخفي الذي يوجه العلوم والمعارف، في محاولة لتحرير الخطاب من مختلف مجالات المعرفةوفي جميع الأغراض الذاتية والأيديولوجية والسلطوية، مستخدما منهجا تحليليا بنيويا، أطلق عليه "الأركيولوجيا"، الذي يعنى بدراسة العلاقات القائمةبين عناصر الخطاب التي تكون في مجموعها نسقا، والكشف عن النسق الخفي الذي يوجه المعرفة.(إبراهيم الحيدري، 2012، ص: 364، 365)
كانت الكتابة بالنسبة إلى فوكو هما جذريا. كان فوكو يريد أن يكشف للجميع تلك الحقائق التي تستولي على الوجود منذ القدم، مثل حقيقة "السلطة" هي المقاوم الأول للمعرفة التي تريد تعرية كلديناميات السلطة. هذه الحقيقة المُبعدَة المخفية في طيات سلسلة من الممارسات التاريخية التي لا تنتهي. فقد نشأت العديد من التيارات الفلسفية النقدية التي تصدت إلى العديد من المنظومات الاجتماعية والسياسية، إلا أن السلطة كبنية علاقات موحدة ظلت بمعزل عن هذا النقد الفلسفي حتى مجيء فوكو.
فقد تصدى إلى تجليات هيمنه السلطة بحفر اسمها وإعادة النظر في مسلماتها عبر منهج جديد أطلق عليه "الأركيولوجيا". وقد تكامل هذا المنهج نظريا عند فوكو في كتابه النظري الهام "أركيولوجيا المعرفة" إلا أن التطبيق "الميداني" لهذا المنهج قد تجسد في كتبه الثلاثة: "تاريخ الجنون"، الكلمات والأشياء"، "المراقبة والعقاب". وهي الكتب التي تمثل بالفعل كشفه لثنائية الصراع بين المعرفة والسلطة. (علاء طاهر، 2005، ص: 66، 67) ولقد كانت البدايات الأولى لتوظيف فوكو لمنهج الأركيولوجيا هو تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي.
و"قبل صدور كتابه الأساسي " الكلمات والأشياء" أصدر فوكو كتابه "مولد العيادة" الذي درس فيه نشأة الخطاب الطبي، وهو كتاب "أصول" أيضا، أكد فيه فوكو على منهجه في الحفريات "الأركيولوجيا" لما هو سائد من "حقائق" مفروغ منها داخل الفكر الأوروبي. أما في كتاب "الكلمات والأشياء" يرفض أن بستخدم لفظة "تاريخ" بل يستعمل بدلها كلمة "أركيولوجيا" في دراسته لمراحل تطور الثقافة الغربية مصرحا أن ما حرصنا على إبرازه، من خلال هذا العرض، هو "مكان" المعرفة أو "دائرتها المكانية".
أي تلك التنظيمات أو الأوضاع التي عملت على ظهور الأشكال المتنوعة للمعرفة التجريبية، فنحن لسنا هنا بإزاء تاريخ بالمعنى التقليدي للكلمة، بل نحن إزاء أركيولوجيا."(المرجع نفسه، ص: 70، 71)
والأركيولوجيا التي يعنيها فوكو هنا هي "دراسة الأسس السفلية، أو الأوليات الخاصة بالبناء الثقافي لعصر من العصور. وهنا يفتح فوكو مجالا جديدا للبحث والكشف العمليين ألا وهو: المجال الإبستيمولجي أو ما سماه بالإبستمية.
ويستخدم فوكو هذه الكلمة للدلالة على مجموع المقولات الموضوعية أو المبادئ التي تحدد انفتاح المعارف وانغلاقها، وهنا يغدو المنهج الأركيولوجي عند فوكو بمثابة دراسة ابستمية العصر الواحد.
لهذا يقر بأن المعرفة القائمة في كل عصر من العصور مُدينة بمضامينها، أولا وقبل كل شيء للمجموع العلمي الذي تظهر في نطاقه."(المرجع نفسه)