المحاضرة السادسة: القضاء الجنائي المؤقت

يعتقد جانب من الفقه أنّ ظهور  القضاء الجنائي مرتبط بتوقيع عدالة المنتصر  ويمتد تاريخيا إلى عام 1286 قبل الميلاد، كما أنّ أول محاولة لانشاء محكمة جنائية دولية يرجع إلى عام 1474، إلا أن القانون والقضاء الدولي الجنائي الفعلي لم يظهر حقيقة إلا بعد الحربين العالميتين اللتين عرفتا انتهاكات خطيرة لقوانين وأعراف الحرب.

بعد نشوب هذه الحروب وما صاحبها من دمارٍ كبير وجرائم تعارض الضمير الإنساني، تمّت إثارة مسألة العقوبات الواجب تطبيقها للمرة الأولى، وكانت المحاولة الأولى لتطبيق هذا القانون عن طريق محاكمة الإمبراطور الألماني (غليوم الثاني) وذلك بمقتضى المعاهدة التي تمّ توقيعها في فرساي والتي تنصّ على إنشاء محكمةٍ جنائيّةٍ دوليّة، فكانت تلك المحاولة عبارة عن خطوة أولى في مسار بروز القانون الجنائي الدولي، لكن هولندا في ذلك الوقت رفضت تسليم الإمبراطور بحجة تعارض هذا الأمر مع القانون الداخلي فيها، والذي ينصّ على عدم السماح بالتسليم.

وبعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية والتي نتج عنها العديد من الانتهاكات والخروقات لقواعد القانون الدولي من جانب القوّات الألمانيّة، تم توقيع تصريح موسكو في الثلاثين من أكتوبر عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثلاثة وأربعين، وهو عبارة عن تصريح صادر من عددٍ من الدول وهي: الاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، وأميركا مفاده وجوب معاقبة كل من ساهم في وقوع تلك الخروقات والأحداث. في الثامن من أوت من عام ألفٍ وتسعمئةٍ وخمسة وأربعين تمّ إنشاء محكمة "نورنبورغ" بمقتضى اتفاقيّة لندن الشهيرة، وتمّ تقنين مبادئ هذه المحكمة من طرف الجمعيّةِ العامة في الأمم المتحدة.

عقدت المحكمة بين 20 نوفمبر 1945 و1 أكتوبر 1946، و تُعتبر أولى المحاكمات وأكثرها شهرة هي محاكمة كبار مجرمي الحرب أمام المحكمة العسكرية الدولية. ووصفها السيد نورمان بيركيت، أحد القضاة البريطانيين الحاضرين طوال المحاكمة على أنها "أعظم محاكمة في التاريخ".

أخذت المحكمة بمبدأ الاختصاص الاقليمي في المحاكمات، وبالنسبة للاختصاص الشخصي فقد اختصت بمحاسبة الأشخاص الطبيعية من مجرمي الحرب من دول المحور، أما الاختصاص الموضوعي فكان متعلقا بالجرائم ضد السلام، جرائم الحرب، الجرائم ضد الانسانية.

من أهم المبادئ التي انبثقت عن محكمة نورمبورج نذكر:

المبدأ الأول:أي شخص يرتكب فعلاً يشكل جريمة بمفهوم القانون الدولي مسؤول عن ذلك ويعاقب.

المبدأ الثاني: حقيقة أن القانون الداخلي لا يفرض عقوبة على فعل يشكل جريمة بموجب القانون الدولي لا يعفي الشخص الذي ارتكب الفعل من المسؤولية بموجب القانون الدولي.

المبدأ الثالث: حقيقة أن الشخص الذي ارتكب فعلًا يشكل جريمة بموجب القانون الدولي ، وعمل كرئيس دولة أو مسؤول حكومي لا يعفيه من المسؤولية بموجب القانون الدولي.

المبدأ الرابع: إن كون الشخص يتصرف بموجب أمر من حكومته أو بأمر من رئيس لا يعفيه من المسؤولية بموجب القانون الدولي ، شريطة أن يكون الخيار الأخلاقي ممكنًا بالنسبة له في الواقع.

المبدأ الخامس: أي شخص متهم بارتكاب جريمة بموجب القانون الدولي له الحق في محاكمة عادلة للوقائع والقانون.

المبدأ السادس:الجرائم المنصوص عليها فيما بعد يعاقب عليها القانون الدولي .

المبدأ السابع:يعد التواطؤ في ارتكاب جريمة ضد السلام أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية على النحو المنصوص عليه في المبدأ السادس جريمة بموجب القانون الدولي.

وجرت محاكمات نورمبورج وفق إجراءات مضبوطة محددة ، غير أن بعض الحاضرين لجلساتها اعتبروا أنّ المحكمة غير مختصة قانونا لأنها تمثل عدالة المنتصر ولاتعبر عن إرادة المجتمع الدولي ككل، غير أن المحكمة كانت لها مبررات شرعية واقعية وقانونية.

كما أخذ على المحكمة اغفالها لمحاكمة الدول وعدم احترام مبدأ الشرعية كركن من أركان الجريمة الدولية، إلا أن كل هذه الانتقادات ردت عليها المحكمة من خلال اعتبار العرف مصدرا من مصادر عملها الأساسية.

أما في طوكيو فقد تمّ إنشاء محكمة لمحاكمة المسؤولين اليابانيين وغيرهم عن الجرائم المرتكبة في الحرب، وكان نظامها الأساسي مستمدا من نظام محكمة نورمبورج، وبالتالي كان لها تقريبا نفس اختصاصها وواجهت نفس الانتقادات الموجهة سابقا. ونذكر منها على سبيل المثال: أنّ كلا من القضاة والمدعين كانوا من نفس الجانب، مما يلغي إمكانية إصدار حكم موضوعي، كما أنه تم اعتبار المتهمين من مجرمي الحرب ليس فقط قبل صدور الحكم بالذنب، ولكن حتى من قبل توجيه الاتهامات لهم. بالاضافة إلى أن الدفاع لم يحصل على تمثيل من المحامين بنفس جودة الادعاء. وبينما كان للطرفين نظريًا الحق في إنكار الأدلة والشهادات، ولكن في الحقيقة، حكمت المحكمة لصالح المدعين في العديد من القضايا. كما أن النيابة طبقت العقوبات بشكل لاحق على المتهمين الذين لم تتم إدانتهم في حينها. وهذا يعني أن الحكم كان بأثر رجعي. كما استندت صياغة التهم إلى فكرة ”المؤامرة“، في التوصيف القانوني لكل من إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو مفهوم لم يكن قد دخل حيز التنفيذ بعد في عرف القانون الدولي.

وفي وقت لاحق من القرن العشرين، وتحديدا بعد النزاعات التي دارت في رواندا ويوغسلافيا السابقة، وفي غياب محكمة جنائية دولية دائمة، اختار المجتمع الدولي تأسيس محكمتين جنائيتين دوليتين خاصتين لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية وأعمال الإبادة الجماعية في هاتين الحالتين. وقد تأسّست المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة في 1993، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا في 1994 بهدف التحقق من هذه الجرائم ومعاقبة مرتكبي الجرائم الفظيعة التي ارتكبت أثناء تلك النزاعات.

تأسّست المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة بموجب قراري مجلس الأمن رقم 808 في 22 فيفري 1993، و827 في 25 ماي 1993. وتتخذ من لاهاي، في هولندا، مقرًّا لها، في ما تأسست المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 955 في 8 نوفمبر 1994، وتتخذ من أروشا، في تنزانيا، مقرًّا لها. وورد النظامان الأساسيان لهاتين المحكمتين مرفقين بهذين القرارين.

ونتيجة لعدم وجود تشريع دولي للإجراءات الجنائية، حددت المحاكم قواعدها: القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات، التي تمّ اعتمادها في 11 فيفري 1994، الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، وفي 29 جوان 1995، بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا. وقد اعتمدت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا قواعد مماثلة تمامًا لتلك التي اعتمدتها المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، وقد استمدّت القواعد إلى حدّ كبير من نظام القانون العام الذي يحكم معظم الدول الأنجلو – سكسونية.

وترتبط المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، رغم استقلاليتهما، بعلاقات تنظيمية تضمن وحدة وتماسك عملياتهما القضائية وزيادة فاعلية الموارد المخصصة لهما، وتتكوَّن المحكمتان من جهاز قضائي، ومكتب المدعي العام، والجهاز الإداري.

وقبل سنة 2007، كانت المحكمتان تشتركان بنفس المدعي العام وقضاة الاستئناف، ولكن منذ تلك السنة صار لديهما مدعيان عامان وقضاة محاكم مستقلون، بالإضافة إلى أجهزة إدارية وميزانية منفصلة.

وتمتلك المحكمتان سلطة ”محاكمة الأشخاص المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي“ (المادة 1 من النظامين الأساسيين للمحكمتين). وتحدّد بالتفصيل الجرائم المعينة التي تمتلك المحكمتان سلطة قضائية عليها في كل لائحة من اللائحتين (الموادّ 2-5 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا، والموادّ 2-4 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا).

وتقع هذه الجرائم ضمن فئات جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، لكلتا المحكمتين، وضمن هذا الإطار، أضافت كل محكمة نوعًا محدّدًا من الجريمة لسلطتها القضائية مقارنة بتفسيرات أضيق للقانون الدولي في الماضي.

ويقوم النظامان الأساسيان للمحكمتين على مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية (المادة 7 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، والمادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا).

وفي ظلّ القانون الدولي الحالي، يطبق هذا المبدأ على ”الأشخاص الطبيعيين“ فقط ، ويؤكد النظامان الأساسيان على حقيقة أن سلطتهما القضائية تنطبق على الأشخاص فقط (المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، والمادة 5 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا). وبالتالي لا يمكنها محاكمة الدول.

و يغطي الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة أراضي جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية السابقة، في ما يغطي اختصاصها الزمني جميع الجرائم المرتكبة منذ 1 جانفي 1991، وهو التاريخ الذي شهد بداية الأعمال العدائية حسب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وينتهي اختصاص المحكمة عندما تعتبر المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة أن الأعمال العدائية قد انتهت.

بينما يغطي الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا أراضي رواندا والدول المجاورة لها، في ما يغطي اختصاصها الزمني مدة سنة واحدة فقط، اعتبارًا من 1 جانفي إلى 13 ديسمبر، 1994.

ملاحظات عامة حول المحكمتين:

  • للمحكمتين سلطة مقاضاة الأفراد المتهمين بأعمال جنائية وليس الدول؛
  • تعمل المحكمتان بالتوازي مع المحاكم الوطنية ولكنها قد تطلب من الأخيرة إحالة حالات معينة قيد التحقيق أو المقاضاة إليهما لإصدار الحكم بشأنها. ويعني هذا أن الدول تبقى ملزمة بالبحث عن مرتكبي هذه الجرائم ومحاكمتهم؛
  • لا يحقّ للضحايا والدول تقديم شكاوى بصورة مباشرة أمام هاتين المحكمتين؛
  • يستطيع المدعي العام وحده فتح تحقيق إما بمبادرة شخصية منه أو على أساس المعلومات التي يتلقاها. ويحق للمنظمات غير الحكومية، والضحايا، والشهود، والمنظمات الحكومية الدولية تقديم المعلومات إلى المدعي العام؛
  • اعتمدت المحاكم تعاريفها الخاصة لجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، التي تدمج التعاريف من النظام الأساسي لمحكمة نورمبيرغ العسكرية لعام 1945، وتلك التعاريف الواردة في اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977؛
  • لا يجوز لعذر من المنصب الرسمي لشخص متهم ولا لعذر من منصب ذلك الشخص الذي يتبع أوامر جهات عليا، أن يكون مبرّرًا للإعفاء من المسؤولية الجنائية الفردية؛
  • تقتصر العقوبات على الأحكام بالسجن، ولا يفرض الحكم بالإعدام؛
  • تعتمد المحكمتان على التعاون القضائي بين الدول لضمان فاعليتها، والذي يتطلب بدوره قيام كل دولة بتعديل قوانينها من أجل هذا التعاون.

وعلى الرغم من إنشاء العديد من المحاكم الجنائيّة الدوليّة حول العالم إبان انتهاء الحرب العالميّة الثانية، إلا أنها كانت في مجملها محاكم مؤقتة، وهذا ما عزز التفكير بوجوب إيجاد محكمةٍ جنائيّة دائمة، بهدف ضمان أمن واستقرار المجتمع الدولي.

آخر تعديل: Sunday، 14 May 2023، 4:08 PM