أركان الجريمة الدولية

 يقصد باركان الجريمة مجموعة الاجزاء التي تتشكل منها الجريمة او كل الجوانب التي ينطوي عليها بنيان الجريمة او التي يترتب على وجودها في مجموعها وجود الجريمة ويترتب على انتفائها او انتفاء احدها انتفاء الجريمة، وكما للجريمة في التشريعات الوطنية الداخلية أركان ثلاثة "ركن شرعي– ركن مادي - ركن معنوي" فإن الجريمة الدولية  تشمل هذه الأركان مع الركن الرابع وهو الركن الدولي ، والآتي بيانها بالتفصيل :

1- الركن الشرعي:

الركن الشرعي هو النص الذي يجرم الفعل وينص على عقوبته، ويقصد به في إطار القانون الدولي الجنائي ان يكون الفعل مجرماً بموجب قاعدة دولية جنائية أياً كان مصدرها (معاهدة او عرفا او غيرها من مصادر القانون الدولي الجنائي) ويفترض هذا الركن وجود نص قانوني يجرم الفعل وأن يكون النص موجوداً في الجريمة الدولية ،  الا إننا نجد أن طبيعته عرفية لا تسمح بمحاكمة الشخص على  عمل لا يعتبر في العرف الدولي جريمة عند ارتكابها ولا يوجد أي مشرع للقانون الدولي، لذا فإن الركن الشرعي يستمد وجوده من العرف وإلى جوار العرف الدولي توجد الاتفاقيات الدولية وتحتل الاتفاقيات الدولية المرتبة التالية للعرف الدولي في مصادر القانون الدولي بل أن العديد من الاتفاقيات الدولية تحيل إلى العرف الدولي.

فنص التجريم هو مصدر الجريمة الذي لولاه لبقى الفعل مباحاً كما هي القاعدة في افعال الانسان والنص هو الذي يجرم الفعل وهو الخالق للجريمة ، وهذا الركن ما هو إلا (مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات) وهو من المبادئ المعروفة سواء في القانون الجنائي الداخلي ام القانون الدولي الجنائي.

 وهذا المبدأ هو الوعاء الذي يحتوي  الجريمة بجميع عناصرها، إذ لولا وجود هذا المبدأ لما وجدت الجريمة أي ان النص الجنائي او الصفة غير المشروعة المستخلصة منه يجب ان يكون سابقاً لوقوع الجريمة وإلا لما امكن القول بوجود جريمة أصلاً.

2-الركن المادي:

هو النشاط أو الفعل الخارجي الذي يرد فيه نص قانوني يجرمه. والجريمة الدولية حالها من حال الجريمة الداخلية تفترض وجود نشاط إنساني خارجي محسوس لا يختلف إن كان سلوكاً إيجابياً أم سلبياً، وعادة ما يؤدي إلى نتيجة يجرمها القانون الجنائي الدولي.

فالقانون الدولي الجنائي يفترض لقيام الجريمة الدولية وجود تصرف انساني متمثلاً في شكل فعل او امتناع عن فعل ، وهذا التصرف هو الذي يمنح الارادة الكامنة داخل مرتكبه تجسيداً ملموساً وواقعياً في العالم الخارجي ، فالارادة الداخلية وحدها دون مظهر خارجي لا تهم القانون الدولي الجنائي ولا يمكن لهذا الاخير ان يقرر المسؤولية لشخص ما بسبب أفكاره ومعتقداته الداخلية (إذ من الثابت ان حياة الفرد الداخلية لا تقع تحت طائلة القانون.

 والمظهر المادي الملموس هو الذي يجعل الجريمة تحدث الاضطراب في المجتمع واما النوايا التي لا تتجسد في افعال مادية موجهه الى ارتكاب الجرائم فان القانون لا يعتد بها لانها لا تؤثر في المصالح التي يحميها ولذلك (فان الجرائم لا تقوم بمجرد افكار ومعتقدات او تصميمات حبيسة لم تخرج بعد الى العالم الخارجي في صورة سلوك ، ولكن متى ما تم التعبير عن هذه الافكار والمعتقدات في صورة سلوك فانه سيكون محلاً للعقاب.

ويتكون الركن المادي للجريمة الدولية على غرار الجريمة الداخلية على ثلاثة عناصر هي السلوك والنتيجة والعلاقة السببية :

أ-السلوك : وهو الفعل الصادر عن الجاني سواء أكان ايجابياً ام سلبياً ويترتب عليه ضرر يوجب فرض العقاب ، وله صورتان: السلوك الإيجابي والسلوك السلبي.

يتحقق السلوك الايجابي عند القيام بفعل يحضره القانون ويؤدي الى قيام الجريمة مثال ذلك ما نصت عليه المادة (6) من النظام الاساسي للمحكمة الدولية الجنائية في القيام بارتكاب أي فعل من الافعال التي تؤدي الى ارتكاب جريمة الابادة الجماعية كقتل افراد جماعة …… فالسلوك هنا ايجابي متمثل بالقيام بفعل يحضره القانون الدولي الجنائي.

أما السلوك السلبي : فلا يختلف جوهر هذا السلوك في القانون الدولي الجنائي عن نظيره في القانون الجنائي الداخلي ، فهو يتمثل في إحجام الدولة عن طريق الأشخاص الذين يعملون لحسابها عن القيام بعمل يستوجب القانون إتيانه. كامتناع الدولة عن منع السماح للعصابات المسلحة في استخدام أراضيها للإغارة على إقليم دولة أخرى. ومن هنا يتسم السلوك بالسلبية لانه يتمثل في احجام الدولة عما كان يجب عليها القيام به.

كما يمكن تصور ارتكاب جريمة ايجابية عن طريق موقف سلبي كالامتناع او الترك ، حيث يمكن ارتكاب جريمة ايجابية بالامتناع بشرط وجود التزام قانوني او تعاقدي بالتدخل لإنقاذ المجني عليه،  يمكن ايضا ارتكاب جريمة ايجابية باسلوب سلبي في القانون الدولي الجنائي والمثال على ذلك امتناع الدولة عن توفير الاغذية والمستلزمات الطبية للاسرى فيؤدي ذلك الى وفاتهم مما يترتب عليه ارتكاب جريمة حرب حيث يوجد التزام يفرضه القانون الدولي بموجب اتفاقية جنيف لعام 1949 بشأن معاملة الأسرى على أطراف النزاع بتوفير المستلزمات الطبية والغذائية للأسرى. واذا امتنعت الدولة عن تنفيذ هذا الالتزام وادى ذلك الى وفاة الاسرى او قسم منهم كنا امام جريمة ايجابية ارتكبت عن طريق الامتناع .

ب- النتيجة : وهي التغير في الأوضاع الخارجية التي كانت على نحو معين قبل ارتكاب الفعل ثم أصبحت على نحو اخر بعد الفصل وهذا التغيير المادي من وضع الى أخر هي النتيجة باعتبارها احد عناصر الركن المادي للجريمة.

 وهذا التغيير في العالم الخارجي هو نتيجة لما يحدثه الفعل من اعتداء على المصالح التي يحميها القانون الدولي الجنائي وتهديده للنظام العام الدولي، فالنتيجة في جريمة العدوان مثلاً تتمثل بالاعتداء على الحق المحمي بموجب القانون الدولي وتتمثل بعدم الاعتداء على حقوق الدولة الاساسية في احترام سلامتها الاقليمية واستقلالها السياسي باعتبارهما مستمدين من الحق الاسمى للدول وهو حق السيادة التي تعني (حق تملكه الدولة وتمارسه تجاه تصرفات دول او كيانات دولية اخرى فتقبل او ترفض بموجبه تلك التصرفات ، هي أصلاً لها – تمس كيانها وتهدد وجوده بشكل مباشر او غير مباشر.

وتجدر الاشارة الى ان الجريمة الدولية لها مسميات مختلفة في نظر الفقه القانوني وذلك تبعاً للنتيجة الاجرامية ، وتمييزها عن السلوك في بعضها او اندماجها فيه في بعضها الاخر او تراخيها عنه في شكل ثالث. فهناك الجرائم المادية حيث نجد انفصالاً واضحاً بين النتيجة والفعل فلكل منهما كيانه المادي المتميز به كجريمة العدوان،  وهناك الجرائم الشكلية حيث يندمج السلوك والنتيجة معاً إذ يجرم القانون الفعل ذاته ولا يعنيه النتيجة ومثالها وضع الالغام البحرية ذاتية التفجير.

وأما الجريمة المتراخية فالنتيجة فيها تتراخى فتحدث في زمان او مكان مختلفين عن زمان ومكان السلوك كما في حالة قيام دولة بإطلاق صواريخ من دولة او قارة الى اخرى تتحقق فيها النتيجة الاجرامية من قتل وتخريب.

ج- العلاقة السببية : ويقصد به وجود صلة بين السلوك والنتيجة بمعنى إثبات أن الأخيرة ما كانت لتحدث في العالم الخارجي ما لم يتم ارتكاب عمل معين او الامتناع عن عمل محدد.

بقي ان نشير اخيراً الى ان الركن المادي قد يتخذ صورتين اخريين هما الشروع والمساهمة الجنائية وهما صورتان يعاقب عليهما القانون الدولي الجنائي أيضاً فهناك نصوص في القانون الدولي الجنائي تحرم الشروع في الجريمة الدولية واخرى تعاقب على المساهمة الجنائية.

3- الركن المعنوي:

هو كافة الصور التي تعبر عنها الإرادة في الجريمة سواء كانت عمدية أو غير عمدية والواقع العملي يثبت لنا ندرة وقوع جرائم دولية غير عمدية.

وينصرف مدلول الركن المعنوي الى الجانب النفسي للجريمة أي الارادة التي يقترن بها السلوك فهو الرابطة المعنوية بين السلوك والارادة التي صدر منها .

وجوهر الركن المعنوي في الجريمة ينطوي على اتجاه نية الفاعل الى تحقيق النتيجة الجرمية التي يريد تحقيقها عن طريق ارتكابه الأفعال المؤدية إليها ، ولذلك تسمى نية ارتكاب الجريمة بأنها نية آثمة، إذ لا يكفي للحكم بوجود جريمة دولية قيام شخص ما بارتكاب فعل غير مشروع بسبب إحداث نتيجة إجرامية  وانما يجب فضلاً عن ذلك ان يكون هذا الفعل صادراً عن إرادة قصدت الإضرار بالمصالح التي يحميها القانون الدولي الجنائي . 

 ويتخذ الركن المعنوي في الجريمة الدولية ثلاث صور هي (الخطأ العمدي – القصد) و(الخطأ غير العمدي) و (القصد الاحتمالي) حيث توصف ارادة مرتكب الجريمة بانها عمدية حينما تتجه الى إحداث الفعل والنتيجة الجرمية معاً ، أي يكون الفاعل على علم بفعله الجرمي وما قد ينجم عنه من جريمة ويسعى الى تحقيق النتيجة الجرمية ، فعلى سبيل المثال تكون جريمة الحرب جريمة عمدية اذا علم الجاني ان الافعال التي يأتيها تخالف قوانين وعادات الحرب على النحو المحدد في القانون الدولي ، ويعلم ان يترتب على ارتكابها جريمة حرب ومع ذلك يريد إتيان هذه الأفعال ويريد تحقيق النتيجة الجرمية.

 بينما توصف ارادة الجاني بانها غير عمدية اذا ما اتجهت الى ارتكاب الفعل وحده دون قصد تحقيق النتيجة الجرمية وتسمى بـ (الخطأ غير العمدي) ويكون له صورتان الخطأ مع التوقع والخطأ مع عدم التوقع او كما يسميها البعض الخطأ الواعي والخطأ غير الواعي، ففي الأولى يريد الفاعل الفعل الذي يؤدي الى الجريمة ولا يريد تحقيق النتيجة ومع ذلك كان يتوقع حدوث هذه النتيجة كأثر لفعله ولكن تقديره الخاطئ للأمور أدى إلى حدوثها مع انه كان يسعى إلى عدم حدوثها ، أما في الحالة الثانية فيريد الفاعل الفعل ولا يريد النتيجة كذلك ولكنه في هذه الحالة لم يكن يتوقع أصلاً هذه النتيجة كأثر لفعله ولكن كان في استطاعته ومن واجبه توقع هذه النتيجة .

وبسبب طبيعتها الخاصة وأوضاع مرتكبيها  فان معظم الجرائم الدولية ترتكب عمداً إلا ان ذلك لا يستبعد امكانية وقوع بعضها عن طريق الخطأ على سبيل المثال حينما تقوم الطائرات العسكرية خطأً بقصف منشآت مدينة مما يترتب موت وهلاك الكثير من السكان المدنيين والاعيان المدنية،  لذلك فان الجريمة غير العمدية لها تطبيق في نطاق القانون الدولي الجنائي ويستمد هذا التطبيق الى (المنطق القانوني من ناحية والى العدالة من ناحية اخرى ذلك انه اذا كان الفعل يحتمل اتيانه بصورة عمدية او غير عمدية فانه يجب تقرير العقاب عليه في الحالتين مع تفاوت مقدار هذا الاخير.

 أما عن تقرير المسؤولية عن الخطأ غير العمدي فيبدو ان النظام الاساسي للمحكمة الدولية الجنائية قد ميزت في الفقرة الفرعية (ب) من المادة (30) بين ارتكاب الجريمة بناءً على الخطأ الواعي وأقرت المسؤولية عن هذه الجرائم بينما استبعدت مساءلة الفاعل اذا ارتكبت هذه الجرائم بناءً على الخطأ غير الواعي (تأسيساً على علة توافر عنصر الخطر في الخطأ الواعي وانعدامه او ضآلته في الخطأ غير الواعي).

 أما القصد الاحتمالي  فإن ما يميز هذه الحالة عن الخطأ العمدي هو ان الفاعل يتوقع حدوث النتيجة التي قد تحدث او لا تحدث ولكن يقبلها اذا حدثت بينما في الخطأ العمدي الفاعل يعلم مسبقاً ان النتيجة هي اثر حتمي لسلوكه ويسعى الى تحقيقها.

 ففي القانون الدولي الجنائي هناك جرائم يمكن تصور ارتكابها على اساس القصد الاحتمالي وخاصة ان هذه الجرائم ترتكب باسم الدولة ولحسابها وبذلك يضطر منفذها الى إتيانها دون توافر قصد مباشر لديه لارتكابها واذا كان المنطق القانوني يقضي عدم مساءلته على اساس القصد المباشر إلا ان العدالة الدولية الجنائية القائمة على اساس عدم افلات مرتكبي جرائم انتهاك حقوق الانسان من العقاب يتطلب مساءلة المرتكب المنفذ للاوامر على اساس القصد الاحتمالي، فالطيار الذي يكلف بقصف بعض المواقع العسكرية بين مواقع مدنية يتوقع اصابة المواقع المدنية ولكنه يقبلها على اساس تنفيذه لاوامر رؤسائه ، ففي هذه الحالة اذا لم نأخذ بتوافر القصد الاحتمالي لمساءلة مرتكب الجريمة سيفلت من العقاب على اعتبار عدم توافر القصد المباشر لدى الجاني في تحقيق نتائج فعله ، وقد اشار النظام الاساسي للمحكمة الدولية الجنائية الى القصد الاحتمالي في الفقرة الفرعية (ب) من الفقرة (2) من المادة (30) .

4- الركن الدولي:

يعتبر هذا الركن هو أساس التفرقة بين الجريمة الداخلية والجريمة الدولية ، فلو زالت صفة الدولية عن الجريمة نكون بصدد جريمة داخلية لا دولية.

وبالتالي فإنه يشترط في الركن الدولي صفة الدولية أي أن يكون النشاط، والفعل "الإيجابي أو السلبي" مرتكبا من قبل اشخاص مختلفي الجنسيات، ويمس مصلحة من المصالح التي يسعى القانون الدولي إلى حمايتها أو بمعنى أصح تمس مصلحة من مصالح المجتمع الدولي.

وبذلك يجب توافر العنصرين الشخصي (صفة مرتكبها) والموضوعي معا (المساس بمصلحة دولية مشتركة)

فالركن الدولي هو الذي يميز الجريمة الدولية عن الجريمة الجنائية الداخلية ، فيما يخص العنصر الشخصي (صفة مرتكبها) ، فالجريمة الدولية الخاضعة للقانون الدولي الجنائي  هي كما ذكرنا تلك التي يرتكبها شخص طبيعي يتصرف باسم او لحساب دولة او منظمة او جهة غير حكومية او تشجيع منها ، اما اذا كان مرتكب الجريمة يعمل لحسابه الخاص فان الامر يتعلق بجريمة ذات طابع دولي .

 أما العنصر الموضوعي فيتمثل في ان المصلحة المعتدى عليها مشمولة بالحماية الدولية . فالجريمة الدولية تعتدي على مصالح يحميها القانون الدولي الجنائي وفي مقدمتها (حقوق الانسان) وهذه المصلحة مشمولة بالحماية الدولية والاعتداء عليها يشكل إخلالاً بالنظام العام الدولي ، اما اذا كان الاعتداء قد تم على مصلحة محمية بالقانون الجنائي الداخلي ، فان الامر يتعلق اما بجريمة داخلية اذا كانت هذه المصالح تهم دولة واحدة ، وإما بجريمة داخلية ذات طابع دولي خاضعة للقانون الجنائي الدولي اذا كانت تلك المصالح تهم عدداً محدوداً من الدول.



آخر تعديل: Sunday، 14 May 2023، 3:32 PM