الوحدة الرابعة:مفهوم الجريمة الدولية

تعتبر المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت بموجب نظامها الأساسي الذي تم إقراره في مؤتمر روما الدبلوماسي بتاريخ 1 جويلية 1998 ، أول هيئة دولية لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إ زاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي.

أولا-تعريف الجريمة الدولية

تعددت التعاريف بشأن الجريمة الدولية فمنهم من عرفها على أنها كل سلوك محضور يقع تحت طائلة الجزاء الجنائي الذي يطبق و ينفذ باسم المجموعة الدولية .

ان مفهوم الجريمة واسع ومتعدد، وان كان أول ما نسمع كلمة الجريمة نميل إلى التفكير في الجرائم التقليدية، بيد أنه تغير مفهوم الجريمة من منظورها العادي ليتجسد وتتعدى آثارها الحدود وتصطبغ بصبغة دولية، ليقوم المجتمع الدولي بعد انتهاكات الحرب العالمية إلى البحث عن آلية قضائية دولية مكملة للأنظمة القضائية الوطنية من أجل متابعة مرتكبي الجرائم الدولية.

وتقاسم تعريف الجرائم الدولية كل من المدارس التالية :

تعريف الجريمة الدولية حسب المدرسة الشكلية

تهتم المدرسة الشكلية في تعريفها للجريمة الدولية على التناقض والتعارض الذي ينشأ بين السلوك الإنساني والقاعدة القانونية، أي إبراز العلاقة الشكلية بين الواقعة المرتكبة وبين نص التجريم، دون الاهتمام بجوهر الجريمة، باعتبارها واقعة تنطوي على إضرار بمصلحة معينة.

من أنصار المدرسة الشكلية في التعريف نذكر الفقيه الألماني "بيلا" الذي يشترط لكي يكون الفعل غير مشروع جريمة دولية، أن يكون مجرّما من قبل المجتمع الدولي قبل ارتكابه، وأن تطبق عليه العقوبة، وتنفذ باسم المجتمع الدولي.

وحصر الجرائم الدولية في تلك التي يرتكبها الأفراد بوصفهم أعضاء دولة ضد أشخاص القانون الدولي من الدول فقط، ويؤيد موقفه استنادا لتعريفه للقانون الدولي الجنائي، إذ عرفه بأنه

 "مجموعة القواعد الموضوعية والشكلية التي تنظم أعمال القمع المتخذة ضد الأفعال التي تقترفها دولة أو مجموعة دول أو أفراد والتي يكون من شأنها تعكير النظام العام الدولي والانسجام القائم بين الشعوب"

حيث ينكر أنصار هذا الاتجاه إطلاق وصف جريمة دولية على كل صور الأفعال المرتكبة ضد سلم وأمن البشرية ويحصرها في أفعال محدّدة.

تعريف الجريمة الدولية حسب المدرسة الموضوعية

تركز المدرسة الموضوعية في تعريفها للجريمة الدولية على جوهر الجريمة باعتبارها واقعة ضارة بمصالح المجتمع الدولي الأساسية، ومن أنصار هذا الاتجاه نجد كل من الفقهاء "سالدانا"، "سبيربولوس".

و يعرف الفقيه  "سالدانا" الجريمة الدولية بقوله أنها: "ذلك السلوك الضار بأكثر من دولة، كجريمة تزييف العملة التي قد يدبر لها في دولة، وتنفذ في دولة أخرى وتوزع في دولة ثالثة"

بينما يعرفها الفقيه "سبيربولوس" بقوله "أنها كل مخالفة للقانون الدولي، سواء كان يحظرها أو يقرها القانون الوطني، وتقع بفعل من فرد يحتفظ بحريته في الاختيار إلحاق بقصد –مسؤول أخلاقيا –أضرارا بالأفراد أو بالمجتمع الدولي بنا ء على تشجيع من الدولة، أو بنا ء على طلب منها، بحيث يكون من الممكن محاكمته جنائيا عن الجريمة التي ارتكبها طبقا لأحكام هذا القانون"

تناول هذا الاتجاه الجريمة كواقعة ضارة بأمن وسلامة المجتمع، إلا أنه لا يكفي لدراسة الجريمة كنظام قانوني إذ لا يكفي لاعتبار واقعة ما جريمة أن تحتوي على مقومات الأضرار بمصالح لازمة لأمن المجتمع، وانما يلزم أن تكون تلك المصالح قد أخذت بعين الاعتبار من قبل السلطة المختصة بالتشريع، لذا فالتعريف الموضوعي يعتبر ناقصا لكونه يتناول الجريمة من جانب واحد هو جانب السلوك المادي.

تعريف الجريمة الدولية حسب الاتجاه التكميلي

حاول  أنصار هذا الاتجاه دمج آراء أنصار كل من الاتجاه الشكلي والاتجاه الموضوعي حيث اهتموا بالعلاقة الشكلية بين الفعل وبين النص التجريمي، دون أن يهمل الأضرار التي تلحقها الجريمة بالمصالح الأساسية للمجتمع، ومن دعاة هذا الاتجاه نجد كل من الفقهاء "جلاسير"، " لومبوا"،بلاوسكي.

حيث يرى بلاوسكي بأن الجريمة الدولية هي كل فعل غير مشروع يقترفه الأفراد و يعاقب عليه القانون الدولي الجنائي كونه يضر بالعلاقات الدولية في المجتمع الدولي، كما عرفها جلاسير فإنما كل فعل يخالف القانون الدولي كونه يضر بالمصالح التي تحميها هذا القانون في نطاق العلاقات الدولية و يوصف بأنه عمل جنائي يستوجب تطبيق العقاب على فاعله.

وبناء على ما سبق يمكن القول بأن الجريمة الدولية هي كل فعل أو سلوك مخالف لقواعد القانون الدولي، يتضمن اعتدا ء على القيم والمصالح الدولية، يرتكبه أشخاص طبيعيون، أو مجموعة أشخاص سواء لحسابهم الخاص أو لمصلحة دولة، أو لمصلحة مجموعة من الدول، أو كانت بتحريض أو مساعدة منها، بحيث يمثل اعتدا ء وانتهاكا للمصلحة الدولية أو لمصلحة جماعة عرقية أو دينية التي يقر القانون الدولي بحمايتها ويقرر جزاءات عقابية لمنتهكيها.

ثانيا-خصائص الجريمة الدولية

تمتاز الجريمة الدولية بعدّة خصائص تميّزها عن الجريمة في القانون الداخلي نذكر منها الخصائص التالية:

- الخطورة والجسامة :

تظهر خطورة و جسامة الجريمة الدولية في اتساع و شمولية آثارها و يكفي بأن نذكر بأن من الجرائم الدولية ما يستهدف إبادة و تدمير مدنا و قتلى بالجملة و تعذيب مجموعات و غير ذلك من الأعمال الفظيعة التي يعجز القلم عن وصفها و وصف نتائجها المدمرة .

لقد وصفت لجنة القانون الدولي الجريمة بقولها: « يبدو أن هناك إجماعا حول معيار الخطورة فالأمر يتعلق بجرائم تمس أساسا المجتمع البشري نفسه » يمكن استخلاص الخطورة إما من طابع الفعل المجرم و إما من اتساع آثاره و إما من الدافع لدى الفاعل و إما من عدة عوامل .

أدت هذه الخاصية إلى انشاء ما يسمى بمبدأ عالمية العقاب و مقتضاه أن الجريمة الدولية بصورتها على النحو المشار إليه لا بد أن تنص عليها كل التشريعات المحلية وتخول لقضائها الاختصاص بالمعاقبة عليها، وهذا لقطع الطريق أمام المجرمين الدوليين الذين يتذرعون أو تتذرع دولهم بمبدأ السيادة لتجنيبهم الخضوع للقضاء الدولي الجنائي، فمبدأ الاختصاص العالمي  يقضي بالعقاب على الجريمة الدولية  من قبل كل دولة وجد المجرم في إقليمها وهو أمر كفيل بسد الثغرة المتمثلة في عدم قدرة القضاء الدولي الجنائي على القيام بواجبه.

- جواز التسليم في الجرائم الدولية :

 الجرائم في القانون الداخلي نوعان عادية و سياسية و تجيز القوانين الداخلية التسليم في الجرائم العادية فقط و تنكر التسليم في الجرائم السياسية .

و يختلف الأمر في القانون الدولي الجنائي عن القانون الوطني إذ لا يعرف القانون الدولي الجنائي تمييزا أو تفرقة بين الجرائم و بالتالي لا يجوز وصف جريمة دولية أخرى بأنه جريمة عادية و هذا يعني أن جميع الجرائم الدولية تخضع لنفس المبدأ فإما أنها جميعها من الجرائم التي يجوز فيها لتسليم و إما أنها من الجرائم التي لا يجوز فيها التسليم.

- استعباد قاعدة التقادم من التطبيق في الجرائم الدولية :

نعني بالتقادم سقوط العقوبة أو الدعوى العمومية لمضي المدة و هي قاعدة تأخذ بها معظم التشريعات الوطنية أما على المستوى الدولي لم يتطرق أحد لقاعدة التقادم قبل الحرب العالمية الثانية و لعل السبب يعود إلى أن أحدا لم يحتج بهذه القاعدة قبل هذا التاريخ .

و لم تشير إليها اتفاقية لندن 1945 و النظام الأساسي لمحكمة ( نورمبورغ ) . إلا أن ألمانيا الاتحادية أعلنت عام 1964 بأن قانونها الجنائي يأخذ بقاعدة تقادم الجرائم بمضي 20 سنة على ارتكابها و يعني تطبيقها على هذا النحو سقوط الدعوى العمومية بالنسبة لجميع الأشخاص المذنبين بارتكاب الجرائم الدولية و الذين لم يقدموا للمحاكمة بعد.

عرف موقف ألمانيا استنكارا و تقدمت على إثره بولندا بمذكرة إلى الأمم المتحدة تطلب من لجنتها القانونية البث بهذه المسألة و قد أجابت اللجنة القانونية في 10 أبريل 1965 بالإجماع بأن الجرائم الدولية لا تتقادم. ووافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على هذه الاتفاقية عام 26 نوفمبر 1968 من خلال إصدار اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ثم استقر العرف على عدم تقادم كل الجرائم الدولية.

 وتأكيدا للمبدأ أصدرت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في ديسمبر1971 توصيتها  2840(د-26) التي تؤكد هذا المبدأ وتدعو الدول التي لم تنظم بعد للانضمام لاتفاقية عدم التقادم، وسارت المحكمة الدولية الجنائية على نفس النهج من خلال اعتماد المادة 29 في نظامها الأساسي التي تنص على أنه

 " لا تسقط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم مهما كانت أحكامه"

- استبعاد نظام العفو من التطبيق في الجرائم الدولية :

 العفو هو تنازل الهيئة الاجتماعية عن كل أو بعض حقوقها المترتبة على الجريمة و هو نوعان عفو عن العقوبة و يسمى العفو الخاص و عفو عن الجريمة و يسمى العفو الشامل .

و العفو سلطة تقليدية خاصة لرئيس الدولة ينص عليها الدستور يرى أن هذا النظام غريب عن القانون الدولي الجنائي و لخطورة الجرائم الدولية و جسامتها تجعل نظام العفو أمرا مستعجلا و لقد أكد المجتمع الدولي على رفض الأخذ بقاعدة التقادم و أجازت التسليم في الجرائم الدولية بعرض الوصول إلى معاقبة المجرم لذلك لا يسمح العفو عن المجرمين الدوليين .

- استعباد الحصانات في الجرائم الدولية :

تمنح القوانين بعض الأشخاص السامين حصانة خاصة بموجبها لا يحاكم من اقترف جريمة منهم أمام المحاكم الوطنية بموجب قانون العقوبات من أمثلة هذه الحصانات في القانون الداخلي حصانة رئيس الدولة حصانة أعضاء المجلس النيابي أثناء تأدية عملهم و حصانة رؤساء الدول الأجنبية خارج بلادهم إلى غير ذلك من الحصانات .

إلا أن القانون الدولي الجنائي استقر إلى عدم إعفاء رئيس الدولة أو الحكام الذي يقترف جريمة دولية حتى و لو كان وقت اقترافها متصرف بوصفه رئيسا حاكما.

آخر تعديل: Sunday، 14 May 2023، 3:06 PM