نموذج الاتحاد الاوروبي:

رأى الدبلوماسي الفرنسي جان مونيه (1888-1979) أن الحل يتطلب إحداث تغييرات جوهرية في الطريقة التي يفكر بها الأوربيون لحل المشكلات فيما بينهم، وضرورة العمل على بناء كيان فوق وطني عابر للقوميات يدمج المصالح المشتركة للدول الأوروبية، ويسوي النزاعات البينية بشكل سلمي، مستندا في ذلك إلى تنظيرات عالم الاجتماع البريطاني، ديفيد ميتراني، بأن القومية هي أصل الصراع بين الدول الأوروبية.

كان بناء اتحاد شامل بين الدول الأوروبية أمرا بعيد المنال؛ في ظل صعوبة خلق أجواء سريعة من الثقة بين دول خاضت ضد بعضها حروبا دامية. فاعتبر مونيه أن الخطوات الصغيرة المتواضعة في البداية ستساهم في تراكم الثقة وصولا إلى تحقيق خطوات أكبر مستقبلا. كذلك رفض مونيه الاكتفاء بنموذج للتعاون تحتفظ فيه كل دولة بكامل سيادتها الوطنية وتحرص فقط على تحقيق مصالحها الذاتية.

وفي المقابل، دعا مونيه إلى بناء نموذج تكاملي يتسم بالآتي:

  1. تفويض كل دولة لجزء من سيادتها إلى مؤسسات أوروبية فوق وطنية تتشارك الدول فيها سيادتها بشكل جماعي.
  2. ضرورة تبني استراتيجية تدريجية للتكامل تعمل خطوة بخطوة.
  3. النجاح في تعزيز التكامل في مجالات تقنية غير مثيرة للجدل، مثل الخدمات البريدية وتوحيد الأوزان والمقاييس، سيؤدي إلى مزيد من التكامل لاحقا في جوانب أخرى.

في تلك الآونة، أطلقت واشنطن “خطة مارشال” لإعادة بناء ما دمرته الحرب في أوروبا ومواجهة التهديدات السوفيتية. واستثمر مونيه تلك الأجواء لطرح فكرة مفادها أن نزع فتيل العداء بين فرنسا وألمانيا هو الضمانة للسلام في أوروبا، وهو ما يمكن تحقيقه عبر دمج مصالح اقتصادية فرنسية وألمانية تحت إشراف ورقابة مؤسسات فوق وطنية. واقترح مونيه دمج مناجم الفحم والصلب، الواقعة في المناطق الحدودية بين فرنسا وألمانيا، ضمن إدارة واحدة مع إزالة عوائق التبادل التجاري.

تبنى وزير خارجية فرنسا، روبرت شومان، مشروع شراكة الفحم والصلب، وبالفعل صدر إعلان شومان في عام 1950 الخاص بتأسيس “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”، وأصبح مونيه أول رئيس لها. تضمن إعلان شومان جوهر مشروع التكامل، حيث نص صراحة على أن “التضامن في الإنتاج الذي تم إنشاؤه على هذا النحو سيجعل من الواضح أن أي حرب بين فرنسا وألمانيا لن تصبح غير واردة فحسب، بل مستحيلة ماديًا.” واجتذب المشروع إيطاليا التي كانت طرفا في الحربين العالميتين، فضلا عن بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ والتي كانت ساحات للاقتتال خلال الحرب العالمية الثانية.

التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي:

حقق الاتحاد الأوروبي نجاحات اقتصادية، وساهم في توفير السلام بين الدول الأعضاء، لكنّ الهويات مازالت تمثل تحديا حقيقا للاعتبارات الاقتصادية التي قام عليها مشروع التكامل الأوروبي؛ وتظل للدولة القومية الكلمة الفصل في مواصلة مسيرة التكامل أو الانسحاب منها، وفي تحديد مداها.

كما أن اختلاف المصالح لكل دولة، وتباين حجم التأثير والانخراط في السياسة الدولية، يظل عائقا أمام تبني سياسة أوروبية خارجية موحدة (مثلا التباين بين المواقف فيما يخص حرب غزة)، مما يحد من مسيرة التكامل، ويؤطرها في مساحات لا تمس قضايا السياسة العليا.

إن شبح تكرار الانسحاب البريطاني من الاتحاد لا يمكن تجاهله؛ في ظل عدم تبلور نظرية متكاملة عن الشكل المنشود الذي ينبغي أن يصل إليه التكامل الأوروبي مستقبلا، وصعود التيارات اليمنية المتطرفة التي ترى أن الاتحاد الأوروبي لا يعكس الهوية القومية للدول الأعضاء به، خاصة في ظل نتائج الجماعات اليمينية المتطرفة المناهضة للمؤسسة في انتخابات البرلمان الأوروبي مؤخرا، خاصة حزب التجمع الوطني الفرنسي وحزب البديل من أجل ألمانيا، والتي تثير المخاوف من أنها قد تكتسب القدر الكافي من القوة بما يمكنها من تقويض الاتحاد الأوروبي من الداخل.

آخر تعديل: الأربعاء، 11 ديسمبر 2024، 4:02 PM