برزت الوظيفية بشقيها الأصلية والجديدة في إطار البحوث المتعلقة بدراسة المنظمات الدولية وحركة التكامل والإندماج بين الوحدات السياسية المختلفة، والقناعة التي سادت لدى الكثيرين بأن الدولة القومية لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها والتزامات شعبها واحتياجاته المتعددة وعدم القدرة على العيش بمعزل عن الآخرماديا ومعنويا.

أولا: الوظيفية الأصلية: تعتبر أهم النظريات في دراسة وتحليل العلاقات الدولية ومن أكثر النظريات تفسيرا للأسباب التي تكمن وراء بعث الطرح الوظيفي عن كيفية القضاء على الدولة القومية التي تعتبر السبب الرئيسي للحروب وكيفية بناء سلم حقيقي أساسه التعاون الوظيفي بدلا من توازن القوى والرعب كما ترى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية.

ظهرت الوظيفية الأصلية في الأربعينات من القرن العشرون بزعامة دافيد متراني" D.Mitrany الذي بلورة الإطار النظري للطرح الوظيفي في كتابة Aworking Peace System سنة 1943 ، أنطلق "متيراني" في طرحه من مسلمات مثالية ومتفائلة حول إمكانية تحسين وتطوير المجتمعات المختلفة بشبكة من النشاطات الاقتصادية والثقافية التي تتجاوز الدولة والإقليم وتسعى إلى الكونية.

تأثرت النظرية الوظيفية بالانعكاسات الإقتصادية والإجتماعية المعقدة التي أفرزتها الأزمة الإقتصادية في نهاية 20 وبداية 30 من القرن الماضي وبالوضع الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الأولى وفضل عصبة الأمم المتحدة في تجسيد فكرة الأمن الجماعي، مما أدى إلى عدم الإستقرار.

حسب دافيد متراني فإن تقسيم العالم إلى مجموعة من الدول المتنافسة مع عدم قدرتها على تحقيق الاحتياجات الإقتصادية والاجتماعية لسكانها هو السبب في الحروب والنزاعات التي عرفها العالم عبر التاريخ ومن ثمة كانت جل الأفكار التي ركزت عليها الوظيفية الأصلية تسعى لتفادي الظروف التي أدت إلى مثل هذه الأزمات وتوفير الشروط الضرورية لترقية الأمن والسلم الدوليين.

-1- مرتكزات التكامل والإندماج عند الوظيفية الأصلية

يؤكد "دافيد متراني" أن العديد من الإحتياجات تتجاوز الحدود، وبالتالي لا بد من تقريب الدول لحل مشاكلها بالتعاون، لأن مصالح الأطراف حسبه هي منسجمة وليست متناقضة كما يزعم الواقعيون، وأن الناس يتمتعون بعقلانية في حسابات مصالحهم والإستجابة بإيجابية إلى الإشارات التي تحمل بعض مظاهر ما يرغبون فيه، لذلك لا بد من تحويل انتباههم من المشاكل الوطنية والحلول الوطنية التي توجد إنقساما عموديا في المجتمع إلى المشاكل والفوائد والحلول فوق القومية، فالإمتياز الواضح للوظيفية الأصلية أنها تتعامل مع المكفاءات بدلا من الحرمان، لأن الفرد عندما ينتفع بشيء ملموس فإنه يتشجع ويعمل أكثر على إنجاح العملية التكاملية والعكس صحيح لذا فإن "متراني" يرى أن المجتمع الدولي الأمن هو الذي يتمحور عبر القيام بالأشياء جماعيا في ميدان العمل والسوق عوض التوقيع على المعاهدات في السفارات.

تفترض الوظيفية أن التعاون يبدأ من الميادين السياسية الدنيا، أي القضايا الإقتصادية والتقنية والاجتماعية والثقافية، التي يمكن فصلها عن ميادين السياسة العليا كالشؤون السياسية وقضايا الأمن القومي، لأن ميادين السياسة الدنيا تعتبر أكثر سهولة وتخلق تفاهما مشتركا بين الأطراف المتكاملة، عكس ميادين السياسة العليا المعقدة التي يمكن أن تقضي على مسار التكامل، نظرا لإختلاف الأطراف حول هذه المسائل الحساسة. وحسب متراني" لا يمكن الوصول إلى سلم فعال إلا من خلال التحرك العكسي، أي من الأسفل إلى الأعلى.

 

2 - مراحل تحقيق التكامل عند الوظيفية الأصلية

لبلورة أفكار الوظيفية في واقع العلاقات الدولية، يتطلب الأمر المرور بثلاثة مراحل أساسية

المرحلة الأولى، يتم فيها إنتقاء مجموعة من النشاطات والوظائف تتمحور حول اشباع حاجات مشتركة الإخضاعها فيما بعد الإدارة وتنظيم خاص ينسجم مع طبيعة وظروف كل نشاط، ويتطلب هذا ضرورة إشراك وانتفاع جل المجتمعات من هذا المسعى بغض النظر عن إنتماءاتهم الدينية وأصولهم العرقية وتنظيمهم السياسي ومستواهم الاقتصادي. كما أن هذه النشاطات من جهة ثانية تندرج في مجال ما أطلق عليه الوظيفيون بالسياسة الدنيا.

المرحلة الثانية تتمثل في تكوين المنظمات الدولية المتخصصة التي تتولى إدارة النشاطات والوظائف التي تم تحديدها وانتقاءها في المرحلة الأولى، ولنجاح هذه المنظمات يستحسن عدم تقييدها بقواعد قانونية جامدة، بل يجب ترك هذه المسائل للتطور الميداني لأداء الوظائف والنشاطات، وهذا ما يساعد على إضفاء الكثير من المرونة والفعالية على نشاط المنظمات الدلية ويجعلها قادرة على التأقلم مع الظروف والمستجدات.

المرحلة الثالثة، تتمحور حول اختيار وتعيين الأشخاص الذين يسهرون على إدارة شؤون المنظمات الدولية وفي هذا الصدد يرى الوظيفيون أن هؤلاء الأشخاص هم من الخبراء والمتخصصين في مجال عمل وتخصص المنظمة. ويجب أن يتمتعوا بتجربة واسعة في صنع القرارات وتنفيذ السياسات التي يرونها كفيلة بإنجاحها، مع ضرورة تحرر هؤلاء من التبعية لسلطة أخرى ما عدا سلطة المنظمة الدولية التي ينتمون إليها.

3- دينامكية ونطاق التكامل:

 أنطلق "متراني" في جعل رؤيته ممكنة التحقيق وفق ميكانيزم الإنتشار Ramification الذي يعني من وجهة نظره أن التطور والتعاون الدولي في حقل أو مجال واحد يؤدي إلى خلق تعاون في مجالات أخرى حتى تمتد العملية إلى كافة مجالات الحياة، بمعنى ان التعاون الوظيفي في ميدان معين يكون نتيجة الإحساس بحاجة معينة تعهد عملية إشباعها وتحقيقها بدورها إلى توفير الظروف والأسباب البروز إحساس بحاجات أخرى تكون في الغالب مرتبطة بالحاجة الأول، والتكامل وفقا لهذا المنهج هو نتاج مسار تراكمي ومرحلي في أن واحد.

بمعنى ميكانزيم الإنتشار يعمل على تعليم الدول كيفية الإستفادة من التجارب التعاونية الناجحة في قطاع ما وتوسيعها إلى تكامل دولي. يبدأ قطاعيا ثم يتوسع وينمو إلى درجة الترابط الاقتصادي الدولي الوثيق، وهنا يصبح التراجع عن العملية التكاملية أمر غير ممكن لأنه يصبح مكلف وغير عقلاني.

أما بالنسبة لنطاق التكامل فإن الوظيفية الأصلية تعارض التكامل الإقليمي للاقتناع روادها بان ذلك لا يلغي نظام نظام الدولة القومية بل يعطي مزيدا من القوة للبنى الإقليمية الجديدة وبالتالي يزيد من استعمال القوة في العلاقات الدولية مما يؤدي لتحويل النزاعات والصراعات من مستوى الدول إلى مستوى التجمعات الإقليمية، لذلك قالوظيفية الأصلية تدعوا إلى إنشاء جماعة سياسية عالمية على اساس وظيفي تقودها المنظمات الدولية المتخصصة.

وكغيرها من مقاربات التحليل في العلاقات الدولية وجهت عدة إنتقادات للوظيفية الأصلية ، منها التعامل المبسط مع الكثير من القضايا المعقدة للغاية، حيث أن التقسيم لشؤون المجتمعات إلى قضايا السياسة الدنيا وقضايا السياسة العليا هي مسألة لا أساس لها من الصحة، فالتجارب التاريخية أثبتت أن القضايا الإقتصادية غالبا ما كانت محل تسييس كبير ومجال أساسي لممارسة السيادة الوطنية. وترتبط بهذه المشكلة مسألة أعمال الوظفيون لكيفية معالجة التباينات الموجودة بين الدول في ابرز المقومات مثل الجانب الجغرافي، السكاني. والقوة العسكرية والجانب الاقتصادي.

آخر تعديل: الأربعاء، 11 ديسمبر 2024، 3:58 PM