الدرس
مفهوم التّكامل الإقليمي ومرتكزاته:
عادة ما يجري استعمال كلمة "تكامل" كمرادف لكلمة "اندماج" والكلمة الأخيرة هي الأكثر دلالة على المعنى الغربي لهذا المصطلح "Integration " كما هو في الإنجليزية والفرنسية. ويعتبر الاندماج درجة أعلى من التكامل في التعبير عن توحد الأجزاء في كل مشترك ، وهو ما يعتبر من الناحية الواقعية محض أمنية بعيدة المنال حتى بالنسبة لأكثر حالات التكامل استقرار.
إنّ مفهوم التّكامل كغيره من مفاهيم العلاقات الدّولية قد عرف جدالا يتمحور حول تقديم تعريف شامل وجامع يحظى باتفاق واسع بين مختلف الدّارسين، وقد عرف نتيجة لذلك مدلولين أو جانبين مختلفين، الأوّل سياسي والثّاني اقتصادي، ولأنّ موضوع الدّراسة يهتم أساسا بالتّكامل الإقليمي فمن الضّروري الوقوف عند مختلف المفاهيم والمرتكزات التي يشملها نظرا للتّداخل الكبير بينها.
أوّلا: مفهوم التّكامل:
يوجد تباين بين الدّارسين حول تعريف مصطلح التّكامل، من ناحية كونه عملية أو حالة، ومن ناحية مضمونه إذا كان سياسي أو اقتصادي، وكذلك يجدون صعوبة في التّمييز بينه وبين المفاهيم المتداخلة معه وبخاصة مفهوم التّعاون واعتبارهما ذو معنى واحد.
1- التّكامل بوصفه حالة :State
_ أماتاي إيتزيوني Amatai Etzioni يُعرّف التّكامل من خلال: "أنّه حالة ناتجة عن امتلاك المجتمع لنخبة سياسيّة فاعلة، يتحوّل من خلالها إلى مجتمع سياسي، ويكون متكاملاً عندما يمتلك سيطرة فعالة على استخدام وسائل العنف، وبالتّالي إنّه قدرة وحدة أو نظام على الحفاظ على نفسه في مواجهة التّحديات الدّاخلية والخارجية.
ويعرّفه على هذا النّحو عامر مصباحAmer Mesbah بأنّه :"الحالة الناتجة عن التّحول من علاقات القوة إلى علاقات السّلام بين فواعل النّظام الدّولي عبر تنشيط الرّوابط الاقتصادية والوظائف الفنية والتّعاون التّقني وصولا إلى حالة من التّوحد السّياسي".
2- التّكامل بوصفه عملية Process:
_ أرنست هاس Ernst Haas يفترض أنّ التّكامل هو: "عملية إقناع الفاعلين السّياسيين في الدّول القومية المختلفة بنقل ولاءاتهم وأهدافهم فضلاً عن أنشطتهم السّياسية، نحو مركز جديد يمتلك أو يطالب بسلطة قضائية، تتجاوز صلاحياته الصّلاحيات التي تتعلق بالدّول القومية القائمة"، ويفترض أنّ النّتيجة النّهائية لعملية التّكامل السّياسي هي مجتمع سياسي جديد، متراكب فوق المجتمع الموجود مسبقًا.
_ ويعرّف الباحث أليكسنكو Oleg Alekseenko بأنّ: "التّكامل السّياسي هو عملية سياسية تؤدي إلى توحيد الدّول والقوى السّياسية لتنسيق أنشطتها وتعزيزها".
_ اعتبر ستانلي هوفمان Stanley Hoffman التّكامل كعملية تفاعل بين الدّول لضمان مصالحها الوطنيّة، والعمليّة حسبه تعتمد على رغبة الدّول في تفويض جزء من سيادتها إلى هيئات فوق وطنية، وهذا العامل محدد لتطوير ديناميات إيجابية للتّكامل.
_ وفي دراسة ليون ليندبرج Leon Lindberg عن المجموعة الاقتصادية الأوروبية "الدّيناميكيات السّياسية للتّكامل الاقتصادي الأوروبي"، قام بتحديد التّكامل السّياسي من خلال اعتبار أنّه العملية التي تتخلى فيها الدّول عن الرّغبة والقدرة على إدارة السّياسات الخارجية والمحلية الرّئيسية بشكل مستقل عن بعضها البعض، وتسعى بدلاً من ذلك إلى اتخاذ قرارات مشتركة أو تفويض عملية صنع القرار لأجهزة مركزية جديدة، وهو العملية التي يتمّ من خلالها إقناع الفاعلين السّياسيين في العديد من السّياقات بتحويل توقعاتهم وأنشطتهم السّياسية إلى مركز جديد، وتطوير الأجهزة والعمليات للتّوصل إلى قرارات جماعية بوسائل أخرى غير الإجراءات المستقلة من قبل الحكومات الوطنية".
3- الرّأي التّوفيقي: عملية وحالة:
يتحدّث كارل دوتش Carl Deutsch عن التّكامل كعملية تؤدي إلى تشكيل "مجتمعات أمنية" داخل إقليم معين، ويتمّ ذلك عبر دمج مجموعة من الدّول أو المجتمعات، ومصطلح الدّمج وفقه يشير إلى "الدّمج الرّسمي لوحدتين أو أكثر من الوحدات المستقلة في وحدة واحدة أكبر، مع نوع من الحكومة المشتركة"، وعليه الرّأي التّوفيقي حسب كارل دوتش هو أنّه يمكن الجمع بين الحالة والعملية، واعتبار التّكامل عملية تؤدي إلى حالة معينة أو الوصول لمنتج نهائي محدّد.
ما يلاحظ على هذه التّعاريف المُقدّمة والمُدرجة أغلبها ضمن التّيار الوظيفي والوظيفي الجديد أنّها ركّزت على التّكامل من الجانب السّياسي من خلال اعتباره إمّا عملية ومسار أو حالة تقوم من خلالها مجموعة من الدّول السّياديّة بتفويض جزء من سيادتها إلى هيئة فوق قومية، مع اختلاف الحالة النّهائية للتّكامل بين من يعتبره مجمع سياسي أو أمني، ويمكن الاتّفاق على التّعريف الذي قدّمه كارل دوتش بأنّ التّكامل هو عملية وحالة في آن واحد، وهو هدف تطمح الدّول المختلفة إلى الوصول إليه وتحقيقه على الواقع، كما أنّه عملية تسعى من خلالها الدّول إلى تحقيق أهداف من جوانب مختلفة سياسيّة، أمنيّة، اجتماعيّة واقتصاديّة.
وبالتّالي فالتّكامل يمكن أن يحدث أيضا على سبيل المثال في مجال الأمن والاقتصاد وهو الجانب الذي أولته الاهتمام معظم المجموعات الاقتصادية في إفريقيا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى وجود درجة كبيرة من التّرابط بين هذين الجانبين مع الجانب السياسي، مثلما طرح بالاسا Bela A Balassa فقد تؤدّي حسبه الدّوافع السّياسية إلى الخطوة الأولى في التّكامل الاقتصادي، والعكس صحيح إذا كانت الدّوافع الأولية اقتصادية، فقد تنشأ الحاجة إلى جوانب سياسية في مرحلة لاحقة.
ثانيا: انواع التّكامل:
ميز ويليام والاس William Wallace بين نوعين من التّكامل من حيث الفواعل:
_ التّكامل الرّسمي integration formal: هو عملية تقودها الدّولة وهي الفاعل الرّسمي فيها، يعني هذا أنّ أعضاء التّكتل لهم صفة سياديّة.
_ التّكامل غير الرّسمي informal integration: الصّفة الغالبة فيه أنّ الجهات الفاعلة غير الحكومية هي الفاعل دون تدخّل رسمي، غير أنّه لا يمكن تجاهل هذا النّوع من التّكامل لأنّه في بعض الحالات قد يؤدّي تعاون الجهات الفاعلة غير الحكومية إلى خلق ضغوط لتعميق عملية التّكامل الرسمية، وما سيتمّ التّركيز عليه في دراستنا هو التّكامل من جانبه الرّسمي، باعتباره قائم بين دول سيادية.
ثالثا: التكامل والمفاهيم المشابهة
يتداخل مفهوم التّكامل الإقليمي مع العديد من المفاهيم المشابهة ويظهر الاختلاف بينهم في أنّ:
_ التّنسيق Coordination هو أدنى مستوى للتّعاون الاقتصادي، وهو المُمهد الأوّل للظّاهرة التّكاملية، وعادة ما ينطوي على توضيح خطة التّكامل في قطاعات معينة من الاقتصاد.
_ التّناسق Harmonisation يتضمّن تنسيق التّشريعات الوطنية أو اعتماد تشريعات مشتركة.
_ التّعاون cooperation لا يهدف إلى بناء مؤسسة فوق قومية كما أنّه يمكن أن يكون مؤقت بأهداف محدّدة ولا يستمر بحيث يزول بزوالها، على عكس التّكامل الذي يشير إلى تسليم بعض سلطات صنع القرار الوطنية لهيئة فوق قومية.
رابعا: درجات التّكامل الاقتصادي:
قدّم بلاسا في كتابه "نظرية التّكامل الاقتصادي" (1961) نموذجه الخاص حول التّكامل الأوروبي، وتناول فيه خمس مستويات لتطور التّكامل الاقتصادي:
_ التّجارة الحرّة free trade: تتفق الدّول الأعضاء من خلال التّوقيع على اتفاقية التّجارة الحرّة على إنشاء منطقة تجارة حرة عبر إلغاء جميع القيود الجمركية والكميّة على التّجارة البينيّة، لكن كلّ دولة تحتفظ بتعريفاتها الخاصة ضدّ غير الأعضاء.
_ الاتحاد الجمركي customs union: تقوم جميع الدّول الأعضاء بوضع تعريفة خارجية مشتركة على الواردات من الدّول غير الأعضاء.
_ السّوق المشتركة common market: تسمح بحرية تنقّل عوامل الإنتاج ورأس المال.
_ الاتحاد الاقتصادي economic union: يتضمن التّنسيق الوثيق للسّياسات الاقتصادية الوطنية للدّول الأعضاء.
_ التّكامل الاقتصادي الكامل full economic integration: هو الأعمق ويخلق سوقًا واحدة بمؤسسات مشتركة، يفترض توحيد السّياسات النّقدية والمالية والاجتماعية ويتطلّب إنشاء سلطة فوق وطنية تكون قراراتها ملزمة للدّول الأعضاء من أجل الوصول إلى اتحاد نقدي يعتمد عملة موحدة وواحدة.
من خلال هذه المراحل التي ذكرها بالاسا، قدّم فرضية مفادها أنّ التّكامل يسير في اتجاه تصاعدي، يبدأ من منطقة التّجارة الحرة وصولا إلى التّكامل الاقتصادي الكامل، وهذه المراحل تتبع بعضها البعض وتتداخل فيما بينها، كما أقرّ أنّ الانتقال من مرحلة إلى أخرى لا يساهم في مزيد من التّكامل الاقتصادي فقط وإنّما يؤدي أيضا إلى مزيد من التّكامل السّياسي بين الدّول الأعضاء.
وبالنظر إلى تعدّد هذه المراحل وتداخلها من أجل تحقيق مستوى عالي من التّكامل الإقليمي، تجدر الإشارة إلى أنّ الدّافع المهمّ هو رغبة الدّول الأعضاء في الحصول على مستوى أعلى من التّنمية والرّفاهية الاقتصادية، هذا ما أظهره تقرير التّكامل الإقليمي والتّنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لسنة 2011 الذي يعتبر أنّ التّكامل الإقليمي يقللّ من الفقر ويحسّن النّمو الاقتصادي، لاسيما في البلدان النّامية، وهو الهدف الذي سعت إلى تحقيقه المجموعات الاقتصادية في إفريقيا، ومع ذلك تعتبر أقل اندماجا من الدّول الأوروبية.
انواع التكامل
التكامل الاقتصادي: يتمثل في تكوين الأسواق الاقتصادية المشتركة ويتم ذلك بوسائل ومظاهر عديدة مثل توحيد التشريعات الضريبية والجمركية وإزالة كل العوائق التي تحول دون التدفق الحر للسلع والخدمات ، وانسياب حركة العمل ورأس المال بين مختلف مناطق السوق.
التكامل الاجتماعي: ويعني به عملية نقل الولاءات القومية من مستوى الدولة إلى مستوى فوق الدولة وتنمية الاتجاهات فوق القومية، أي خلق الوعي فوق القومي.
الاندماج السياسي: والمقصود به عملية إدماج بعض المؤسسات السياسية القومية ونقل السيادة على السياسة الخارجية إلى أجهزة دولية مشتركة، والتكامل السياسي لا يعني بالضرورة إلغاء الحكومات الوطنية، ولكنه يقتصر على نقل سلطاتها في بعض المجالات وباستثناء نموذج الوحدة الفيديرالية الكاملة فإنه لا توجد حاجة إلى مباشرة السيادة الكاملة على السياسات الداخلية للدول الأعضاء.
التكامل الأمني: ويظهر في عملية الترتيبات الأمنية الجماعية وينبني في افتراضه على أن الدول الأطراف في هذه الترتيبات تتفق على اتخاذ القرارات المتعلقة بأمنها المشترك بأسلوب التخطيط والتنفيذ و القيادة المشتركة، والاعتقاد السائد هو أن التكامل الأمني لا يحدث عادة إلا في ظروف الأزمات وتفاقم التهديدات والأخطار المشتركة.
حالات التكامل
التكامل القيمي: ويمكن تقسيمه إلى قسمين:
أـ نموذج التماثل: حيث تتماثل القيم أو تتكامل نتيجة وجود مصالح متطابقة للأطراف.
ب ـ النموذج السلمي: حيث ترتب القيم في درجات معينة بحيث يتم تسوية الصراعات طبقا للقيمة العليا في هذا السلم.
*تكامل الأطراف: ويتمثل في نموذجين:
نموذج التشابهات العديدة بين الأطراف من حيث الحجم، المركز الدولي، التركيبة السكانية، البنى السياسية والإقتصادية.
نموذج زيادة الاعتماد المتبادل في القطاعات السياسية، الاقتصادية والثقافية بين الأطراف إلى درجة يجعل التأثير على طرف معين يترك آثاره على الطرف الآخر.
*التكامل التبادلي بين الكل والجزء: وهو نموذجين:
نموذج الولاء: يستمر ويتطور التكامل مادامت أطرافه مستمرة في دعمه.
نموذج التوزيع: حيث يصبح وجود التكامل معتمدا على قدرته في تقديم نتائج إيجابية أو ما سمي بالمخرجات، مثل حماية كيان من الأهواء أو تحقيق مكاسب اقتصادية أو رفع معيشة السكان.