المحاضرة الرابعة
مصادر القانون
ا
أوجه الاختلاف بين المصادر الرسمية والاجتهاد القضائي والفقه؟
إن الاجتهاد القضائي والفقه لا يؤديان إلى إيجاد قواعد قانونية عامة قابلة للتطبيق بصورة إلزامية ومطردة على جميع الحالات المتماثلة, كما هو الأمر بالنسبة للمصادر الرسمية, بل إن دورهما يقتصر على تفسير وبيان كيفية تطبيق القواعد القانونية المنبثقة عن المصادر $الرسمية دون أن يكون لما ينتج عنهما صفة القواعد القانونية الإلزامية. وهنا لابد من إبراز الملاحظات1 التالية:
أولاً: لا تطبق المصادر الرسمية للقواعد القانونية جميعها دوماً في مختلف الأحوال والظروف بل إن هناك بعض الأمور ـ كالأمور الجزائية مثلاً ـ لا يمكن أن يطبق فيها سوى مصدر واحد هو التشريع حيث أنه من أهم مبادئ القانون الجزائي المبدأ الذي ينص $على أنه: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني). والقانون هنا هو التشريع وذلك لأن الأحكام الجزائية إنما تتعلق بأرواح الناس وحرياتهم وسلامتهم ومن الواجب تنظيمها عن طريق التشريع وعدم ترك أمور الناس فيها عرضة لأهواء القضاة وتقديراتهم الشخصية.
مثال:
لا يوجد نص تشريعي يعاقب الإنسان على عدم تطوعه لإنقاذ شخص معرض للخطر, وبالتالي فإن القاضي لا يستطيع أن يفرض عليه عقوبة ما استناداً إلى ما قد يراه من مبادئ القانون الطبيعي أو قواعد العدالة مثلاً لأن المصدر الوحيد في الأمور الجزائية هو التشريع.
مثال:
إذا حدد التشريع لجريمة من الجرائم عقوبة معينة فإن القاضي لا يستطيع أن يفرض عقوبة غيرها يقدرها بنفسه استناداً إلى الأعراف مثلاً أو غيرها.
ثانياً: ليس للقاضي حرية الاختيار بين هذه المصادر وتطبيق ما يراه مناسباً منها دون غيره $بل هناك ترتيباً وتسلسلاً معين بينها يلزم القاضي بإتباعه وذلك حسب المادة الأولى من القانون المدني التي تنص:
( 1 ـ تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو فحواها.
2 ـ فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه, حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية, فإذا لم توجد فبمقتضى العرف, فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة).
فبحسب هذه المادة يعتبر التشريع المصدر الأول للقواعد القانونية, وفي حال عدم وجود نص يمكن تطبيقه من التشريع يعمد القاضي إلى الحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية ثم بمقتضى العرف وأخيرا بمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
مثال:
إذا عرضت على القاضي قضية تتعلق بالقرض مع الفائدة مع العلم أن مبادئ الشريعة الإسلامية تحرم هذا النوع من القرض؟
القاضي ملزم بأن يحكم أولاً بموجب النصوص التشريعية المتعلقة بالموضوع الذي يطلب إليه الحكم فيه ولا يستطيع أن يطبق مبادئ الشريعة الإسلامية إلا في حال عدم وجود هذه النصوص, وبالنسبة للقرض مع الفائدة هنالك نصوص تشريعية تجيزه فلا يمكن إذن تطبيق قواعد غيرها....
مثال:
عرضت على القاضي مسألة ينطبق عليها التشريع ـ الشريعة ـ العرف فماذا يطبق في هذه الحالة؟ القاضي ملزم بإتباع الترتيب المنصوص عليه في المادة الأولى من القانون المدني.
مثال:
عرضت على القاضي الجزائي قضية جزائية ولم يجد لها نص تشريعي بالأفعال التي قام بها $المدعى عليه, ما العمل في مثل هذه الحالة؟
$يحكم القاضي في هذه الحالة بالبراءة أو عدم المسؤولية حيث أن هناك مصدر وحيد للأمور الجزائية هو التشريع.
ثالثاً: اعتبر الفقه والاجتهاد القضائي في كثير من الشرائع فيما مضى من المصادر الرسمية للقواعد القانونية وفي الواقع لم يقتصر دور الاجتهاد القضائي والفقه في كثير من الشرائع القديمة (كالشريعة الرومانية) على تفسير القواعد القانونية وتطبيقها بل كان لهما الأثر البالغ في إيجاد الكثير من القواعد.
ولا يزال الاجتهاد القضائي يعتبر من المصادر الرسمية في بعض البلاد كإنكلترا حيث تعتبر الأحكام القضائية بمثابة سوابق ملزمة ومن الواجب إتباعها في القضايا المماثلة.
رابعاً: إن الاجتهاد القضائي بصورة خاصة له من الوجهة العملية تأثير كبير في تطوير القواعد القانونية وتعديلها على الرغم من اعتباره من الوجهة النظرية من المصادر التفسيرية لا الرسمية, واعتباره غير ملزم إلا بالنسبة للقضايا نفسها التي فصلت فيها هذه الأحكام دون أن تكون واجبة التطبيق في القضايا المماثلة وذلك لأن:
القضاة يعمدون إلى شيء من التوسع أو التصرف في تفسير القواعد القانونية لجعل هذه القواعد أكثر ملاءمة لمقتضيات التطور والبيئة.
$خامساً: إن هناك نوع من التداخل والتقارب بين المصادر الرسمية والتفسيرية فهي ليست منفصلة عن بعضها كل الانفصال... حيث: يستمد التشريع كثيراً من قواعده من الأعراف السائدة... والاجتهاد القضائي من شأنه أن يوضح التشريع ويجلي غموضه ويظهر الأعراف ويثبتها, إذاً تسهم هذه المصادر مشتركة في إيجاد القواعد القانونية وتطويرها وإعطائها صورتها الأخيرة التي تجعلها صالحة للتطبيق العملي.
سادساً: إن المصادر المختلفة للقانون لم تظهر جميعاً دفعة واحدة في التاريخ, وإنما ظهرت على مراحل متتالية تبعاً لتطور المدنية وتقدمها وهي على الترتيب التالي:
1 ـ العرف.
2 ـ قواعد الدين ومبادئ القانون الطبيعي.
3 ـ الاجتهاد.
4 ـ التشريع
المبحث الاول
التشريــــع
سنحاول في هذا الفصل الذي نخصصه لدراسة التشريع، وهو المصدر الأول من مصادر القانون وأكثرها أهمية وانتشاراً، أن نستعرض تعريف التشريع وأهميته وكيفية سنه ومراحل تكوينه المختلفة، ثم نتحدث عن بعض النصوص القانونية الأخرى التي تتصل بالتشريع $وتتشابه وإياه وهي الدستور والأنظمة مبينين صلة كل منهما به ودور القضاء في رقابة $دستورية التشريع وقانونية________، ثم نتناول بعد ذلك تفسير التشريع، وتطبيقه من حيث الزمان والمكان وإلغاءه.
وعلى هذا فإن دراستنا في هذا الفصل تضم الفروع التالية:
الفرع الأول:تعريف التشريع وسنه
الفرع الثاني: التشريع ودستورية الأنظمة
الفرع الثالث: تفسير التشريع
الفرع الرابع: تطبيق التشريع من حيث الزمان أو المكان أو تنازع القانونين
الفرع الخامس: إلغاء التشريع
الفرع الأول
تعريف التشريع وسنه
أولاً: تعريف التشريع1
يطلق اسم التشريع على القواعد القانونية الصادرة عن السلطة التشريعية المختصة في نصوص مكتوبة ووفقاً لأصول معينة.
$---- نستنتج من هذا التعريف أن أهم ما يميز التشريع هو:
1 ـ صدوره عن السلطة التشريعية المختصة.
2 ـ إتباعه أصولاً معينة في تكوينه لا يتم بدونها وجوده واعتباره.
أهمية التشريع ومزاياه:
هو من أكثر مصادر القانون أهمية وأوسعها انتشاراً ويعتبره بعض الفقهاء المصدر الأوحد للقواعد القانونية.
ويعود السبب في هذه الأهمية الخاصة للتشريع إلى ما يتمتع به من مزايا عديدة أهمها1:
1- سهولة سنه من قبل السلطة التشريعية المختصة وسهولة إلغائه فهذه السلطة تستطيع كلما دعت الضرورة أو المصلحة أن تسن ما تشاء من التشريعات الصالحة وأن تلغي ما يظهر لها فساده أو عدم صلاحه.
أما العرف فهو ينشأ ويزول بصورة بطيئة ومن الصعب تغييره أو تعديله بسرعة لعدم وجود هيئة مختصة بذلك.
2- سهولة معرفته والرجوع إليه وتحديد زمن ابتدائه وزواله, إذ أنه يصدر في نصوص مكتوبة, بحيث يكون من السهل الرجوع إلى الوثائق والمستندات التي تتضمن هذه النصوص لمعرفته وتحديد تاريخه.
أما العرف فلا بد فيه من إثبات التعامل الجاري بين الناس والعادات السارية فيهم للتأكد من وجوده, كما لا يمكننا تحديد تاريخ دقيق لبدء انتشار العرف أو لزواله.
3- التشريع يساعد على حماية حريات الأفراد وحفظ حقوقهم, فهو يحدد حقوقهم وواجباتهم, وهو يعتبر ضابطاً صحيحاً يسير بموجبه القضاة أنفسهم بالإضافة لخضوع الناس للتشريع لأنه مستمد من رغباتهم ومحقق لحاجاتهم.
4- التشريع يساعد على توحيد النظام القانوني في البلد الواحد ووضع قواعد قانونية عامة تطبق على المواطنين جميعاً في مختلف مناطقهم وأنحائهم وذلك خلافاً للعرف أو الاجتهاد القضائي اللذان يؤديان لإيجاد قواعد قانونية تختلف في بعض المناطق عن بعضها الآخر.
وقد وجهت المدرسة التاريخية الانتقاد التالي للتشريع:
أن التشريع يضع القواعد القانونية في نصوص ثابتة مستقرة, وذلك يعرقل التطور الطبيعي لهذه القواعد ويعيق تقدمها, في حين أن العرف يخضع لتأثير المجتمع المباشر, ليساعد على تحقيق هذا التطور في أحسن صوره ويجعل القواعد القانونية أكثر ملائمة لحاجات المجتمع.
عوامل1 انتشار التشريع:
1- توطد سلطة الدولة وتمركزها, مما أدى إلى أن تجمع الدولة في يدها سلطة التشريع وأن تسن القواعد القانونية لجميع أنحاء البلاد.
2- قيام سلطة مختصة تتولى أمر التشريع في النظم الديمقراطية التي أخذت بمبدأ فصل السلطات, مما ساعد على أن تنصرف هذه السلطة إلى عملها في سن التشريعات.
3- انتشار النزعة الاشتراكية في عصرنا الحاضر التي تدعو إلى تدخل الدولة في شؤون الأفراد وتوليها أمر تنظيمها عندما تقضي بذلك الضرورة ومصلحة المجتمع.
ثانياً:سن التشريع
السلطة التشريعية المختصة التي يعود إليها سن التشريع:
يختلف النظر إلى هذه السلطة باختلاف النظم في البلاد, ففي النظام الدكتاتوري الاستبدادي يعتبر الحاكم نفسه صاحب السلطان المطلق وإليه يعود أمر التشريع وسن القواعد القانونية التي ليست سوى مشيئته وإرادته يمليها على شعبه ويفرض عليه احترامها. أما في النظام الديمقراطي, فالشعب على العكس هو الذي يعتبر مصدر السلطات جميعها ومن بينها السلطات التشريعية.
والأصل أن يتولى أمر التشريعات ومناقشتها والتصويت عليها أفراد الشعب أنفسهم مباشرة $ولكن هذه الطريقة كانت تطبق في بعض البلاد قليلة العدد (كما في المقاطعات السويسرية), حيث من المستحيل لمعظم الدول جمع أفراد الشعب وجعلهم يصوتون على تشريع تريد إقراره1.
ولهذا يعهد بأمر التشريع في الأنظمة الديمقراطية إلى مجلس خاص يتولاه باسم الشعب ونيابة عنه ويطلق عليه اسم مجلس الشعب أو المجلس النيابي أو مجلس الأمة.
على أن يتولى رئيس الجمهورية في بعض الحالات الاستثنائية أمر التشريع أيضاً فيسن التشريعات التي يطلق عليها حينئذٍ المراسيم التشريعية.
المرسوم التشريعي:
هو تشريع يسنه رئيس الجمهورية في بعض الأحوال التي يتولى فيها سلطة التشريع.
ورئيس الجمهورية لا يصدر المرسوم التشريعي بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية بل باعتباره يمارس في بعض الأحوال الاستثنائية التي نص عليها الدستور مهام السلطة التشريعية.
ولذلك لا يعتبر المرسوم التشريعي عملاً تنفيذياً بل هو عمل تشريعي بحت ولا يختلف المرسوم التشريعي عن التشريع في شيء إلا في صدوره عن رئيس الجمهورية حين يمارس السلطة التشريعية بدلاً عن مجلس الشعب2.
ويتولى رئيس الجمهورية سلطة التشريع, بحسب دستورنا الحالي3 في الحالات الثلاث التالية:
1 ـ في المدة الفاصلة بين ولايتي مجلسين, أي خلال الفترة الواقعة بين انتهاء ولاية مجلس الشعب السابق وبدء ولاية مجلس الشعب الجديد.
2 ـ خارج دورات انعقاد مجلس الشعب, أي خلال الفترات التي يكون فيها مجلس الشعب موجوداً ولكنه غير منعقد.
3 ـ في أثناء انعقاد دورات مجلس الشعب إذا استدعت ذلك الضرورة القصوى المتعلقة بمصالح البلاد القومية أو بمقتضيات الأمن القومي.
ففي الحالتين الأولى والثانية, لا يمارس مجلس الشعب مهمة التشريع ولذلك لا بد أن يعهد بهذا الأمر إلى رئيس الجمهورية حتى لا تتوقف حركة التشريع في البلاد, أما في الحالة الثالثة فيكون مجلس الشعب موجوداً ومنعقداً, ولكن هنالك ظروف استثنائية, كنشوب حرب أهلية أو حدوث أزمة اقتصادية عنيفة.
ويشترط عدد من الدساتير أن يكون هنالك تفويض من مجلس الشعب لرئيس الجمهورية لإصدار المراسيم التشريعية في هذه الحالة الثالثة ولذا يطلق رجال القانون على هذه المراسيم اسم تشريعات التفويض بينما يطلقون على المراسيم في الحالتين الأولى والثانية اسم تشريعات الضرورة.
وقد نص دستورنا على أن المراسيم التشريعية التي تصدر خارج انعقاد دورات مجلس الشعب يجب أن تعرض على المجلس في أول دورة انعقاد له, كما أن المراسيم التشريعية التي تصدر أثناء انعقاد دورات المجلس بسبب حالة الضرورة القصوى المتعلقة بمصالح البلاد القومية أو بمقتضيات الأمن القومي يجب أن تعرض على المجلس أيضاً في أول جلسة له, ولمجلس الشعب الحق في إلغاء المراسيم التشريعية المعروضة عليه في هاتين الحالتين أو تعديلها، وذلك بأكثرية ثلثي أعضائه المسجلين لحضور الجلسة على أن لا تقل عن أكثرية أعضائه المطلقة. أما المراسيم التشريعية التي تصدر في الفترة الفاصلة بين ولايتي مجلسين فلا تعرض على مجلس الشعب فيما بعد, ولكن يمكن أن تعدل أو تلغى كما تعدل أو تلغى التشريعات عادة.
مراحل سن التشريع:
لا بد للتشريع لكي يتم وجوده من مراحل أربعة1:
1 ـ الاقتراح.
2 ـ الإقرار.
3 ـ الإصدار.
4 ـ النشر.
1- الاقتراح:
إن مرحلة اقتراح التشريع هي المرحلة الأولى التي يبدأ فيها التشريع بأخذ طريقه إلى الظهور والوجود. ويعود حق اقتراح التشريعات إلى رئيس الجمهورية بصفته ممثلاً للسلطة التنفيذية من جهة, وإلى كل عضو من أعضاء مجلس الشعب من جهة ثانية, ويسمى الاقتراح الصادر عن رئيس الجمهورية في هذا الشأن مشروع قانون أما الاقتراح الصادر عن أحد الأعضاء فيسمى اقتراحاً بقانون.
2- الإقرار:
يعود إقرار التشريع أو التصويت عليه إلى مجلس الشعب وهو أهم مرحلة من مراحل تكونه على الإطلاق لأنه هو الذي يؤدي إلى إيجاده فعلاً. إلا أن التصويت على التشريع وإقراره من قبل مجلس الشعب لا يكفي وحده لجعله نافذاً وملزماً من الوجهة القانونية فلا بد له من المرور بمرحلتين:
1 ـ إصداره من قبل رئيس الجمهورية ليصبح قابلاً للتنفيذ.
2 ـ ونشره في الجريدة الرسمية ليصبح ملزماً.
3- الإصدار:
هو العمل الذي يتم به إثبات وجود التشريع بصورة رسمية, أو كما يقول بعض الفقهاء بأنه بمثابة شهادة الميلاد التي تعطى للتشريع من قبل رئيس السلطة التنفيذية وهو في بلادنا رئيس الجمهورية. ولإصدار التشريع من قبل رئيس الجمهورية فائدتان:
أ- تمكن رئيس الجمهورية من إصدار أمره إلى السلطة التنفيذية التي يعتبر رئيساً لها, بأن تطبق التشريع الذي أقرته السلطة التشريعية وبذلك تكون السلطة التنفيذية قد تلقت أوامرها من رئيسها مباشرة وليس من قبل السلطة التشريعية وهذا ما ينسجم لحد كبير مع مبدأ الفصل بين السلطات.
ب- يمكن لرئيس الجمهورية أن يراقب التشريعات الصادرة عن مجلس الشعب ويتيح له المجال لأن يردها إليه, إذا رأى أن الضرورة تدعو لذلك.
ولا يستطيع رئيس الجمهورية تعطيل التشريعات التي ترسل إليه لإصدارها بل يحدد له الدستور عادة مهلة يتوجب عليه خلالها إصدار التشريع أو إعادته إلى مجلس الشعب ليعيد النظر فيه, وحين يصر مجلس الشعب على التشريع ويقره مرة ثانية بأغلبية معينة فإن من واجب رئيس الجمهورية إصداره1.
4- النشر:
هو المرحلة الأخيرة التي يمر بها التشريع فيصبح بعدها نافذاً وواجب التطبيق على جميع الأشخاص الذين تتناولهم أحكامه. ولكنه لا ينفذ من حيث المبدأ إلا بعد إعلانه للناس ويكون ذلك بنشره في الجريدة الرسمية, ولا يغني عن النشر في الجريدة الرسمية أي وسيلة أخرى من وسائل الإعلام, كالنشر في الصحف العادية أو الإذاعة أو التلفزيون. ولا يغني أيضاً عن النشر في الجريدة الرسمية العلم الشخصي بالتشريع فإن كان التشريع لم ينشر بعد فإنه لا يطبق حتى على الأشخاص الذين يعلمون علماً أكيداً بوجوده.
على أن التشريع بعد نشره ومرور الفترة المحدودة لنفاذه يكون واجب التطبيق ولو لم يعلم الناس بوجوده, فليس المهم إذاً العلم بالتشريع فعلاً وإنما اتاحة الفرصة للعلم به2, ولولا ذلك لكان بإمكان الكثيرين من الناس مخالفة التشريع ثم التهرب من توقيع الجزاء عليهم بإدعائهم جهلهم إياه ومن هنا جاءت القاعدة القانونية التي تقضي:
" الجهل بالقانون لا يعتبر عذراً ".
الفرع الثاني
التشريع والدستور والأنظمة
إلى جانب التشريع وهو النص المكتوب الصادر عن السلطة التشريعية متضمناً القواعد القانونية, يوجد نوعان آخران من النصوص التي تتضمن مثل هذه القواعد وهما: الدستور من جهة والأنظمة من جهة ثانية.
أولاً -مقارنة التشريع بالدستور والأنظمة
1- موقع التشريع بين الدستور والأنظمة:
هناك بين الدستور والتشريع والأنظمة نوع من التسلسل والتدرج, فالدستور هو أعلى هذه النصوص ثم يأتي بعده التشريع ثم تليه الأنظمة. وهذا يعني أن التشريع يحتل الموقع الوسط, ومن واجب التشريع ألا يخالف الدستور في أحكامه كما أنه من واجب الأنظمة ألا تخالف كلاً من الدستور والتشريع في أحكامها1.
2- مقارنة الدستور بالتشريع:
الدستور: هو مجموعة القواعد القانونية الصادرة عن سلطة خاصة تسمى بالسلطة التأسيسية والتي تتضمن النظام الأساسي للدولة والمبادئ العامة التي يقوم عليها أسلوب الحكم فيها.
$وبذلك نلاحظ أن كلاً من الدستور والتشريع يختلف عن الآخر2:
أ- من حيث الشكل:
إن الدستور يوضع من قبل سلطة خاصة هي السلطة التأسيسية, أما التشريع فهو من عمل السلطة التشريعية, وقد لا تختلف السلطة التأسيسية في كثير من الأحيان عن السلطة التشريعية من حيث تركيبها وتشكيلها. ولكنها تختلف مع ذلك من حيث التسمية ونوع المهمة المعهود بها إليها هي وضع دستور للبلاد لا سن التشريعات العادية.
ب- من ناحية الموضوع:
إن الدستور يتضمن النظام الأساسي للدولة والمبادئ العامة التي يقوم عليها أسلوب الحكم فيها في حين لا يرمي التشريع إلى شيء من ذلك بل تقتصر مهمته على تنظيم علاقات الدولة وأمور الأفراد ضمن حدود الدستور ونطاقه.
$أي أن الدستور هو النطاق العام الذي تدخل ضمنه التشريعات فهو الذي يرسم لها الحدود التي يجب عدم تجاوزها.
3- مقارنة الأنظمة بالتشريع:
تعريف الأنظمة:
هي عبارة عن نصوص تصدر عن السلطة التنفيذية متضمنة القواعد التي تفصل أحكام التشريعات وتوضحها وتبين كيفية تنفيذها وتطبيقها1.
والأنظمة إما أن تصدر عن رئيس الجمهورية أو الوزراء المختصين أو الإدارات العامة والمجالس البلدية, ويطلق على الأنظمة الصادرة عن رئيس الجمهورية اسم المراسيم التنظيمية, بينما يطلق على الأنظمة الصادرة عن بقية السلطات اسم القرارات التنظيمية.
وتستمد السلطة التنفيذية صلاحيتها في إصدار المراسيم والقرارات التنظيمية إما من التشريع نفسه الذي تصدر لأجله هذه المراسيم والقرارات أو من المبدأ العام الذي يعترف لها بموجبه بحقها في إصدار الأنظمة اللازمة لتنفيذ التشريعات, ولو لم يفوض أمر ذلك إليها بنص خاص.
مقارنة بين التشريع من جهة وبين المرسوم أو القرار التنظيمي من جهة:
أ- من حيث الشكل:
يختلف القرار التنظيمي عن التشريع في أنه يصدر عن السلطة التنفيذية لا عن السلطة التشريعية.
ب- من ناحية الموضوع:
يختلف القرار التنظيمي عن التشريع في أنه لا يتطرق إلى الأمور التي يعالجها بصورة رئيسية أصلية ولكن بصورة تبعية بغية تفسير التشريع وتفصيل أحكامه دون أن يستطيع $مخالفة هذه الأحكام أو تعطيلها أو التعديل فيها.
ويختلف المرسوم التشريعي عن المرسوم التنظيمي, إذ أن المرسوم التشريعي وبالرغم من صدوره عن رئيس الجمهورية كالمرسوم التنظيمي إلا انه يعتبر بمثابة التشريع نفسه ويقوم $مقامه وهو بذلك لا يخضع للتشريع بل يستطيع أن يخالف أحكامه أو يلغيها أو يعدلها. ولابد من التفريق بين المراسيم والقرارات التي تصدر عن السلطة التنفيذية فهي على نوعين:
أ ـ المراسيم والقرارات التنظيمية2:وهي التي ذكرناها سابقاً
ب ـ المراسيم والقرارات العادية أو الفردية:
وهي تختلف عن النوع الأول في أنها لا تتضمن قواعد قانونية عامة بل هي عبارة عن أحكام فردية خاصة بشخص أو أشخاص معينين أو بواقعة أو وقائع محددة كما في قرار تعيين موظف مثلاً أو إغلاق مقهى.
ثانيا -رقابة القضاء لدستورية التشريع وقانونية الأنظمة:
1- رقابة القضاء لدستورية التشريع:
سوف نلخص هذا بالسؤال التالي:
هل يستطيع القاضي أن يمتنع عن تطبيق التشريع إذا وجد أن أحكامه تخالف المبادئ المقررة في الدستور وتتعارض معها, أم أن من واجبه تطبيق التشريع دوماً سواء أكان موافقاً للدستور أم مخالفاً له ؟
لقد ظهر حول هذا الموضوع اتجاهان متعاكسان1:
فأصحاب الاتجاه الأول يرون:
أنه لا حق للقضاء في مناقشة مسألة دستورية التشريع, بل عليه أن يطبق التشريع كما هو إذا كان مستوفياً لشرائطه الشكلية, ولو خالف في أحكامه مبادئ الدستور, وحجة أصحاب هذا الرأي أن السماح للقضاء بمراقبة دستورية التشريع سيؤدي حتماً إلى تدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التشريعية, مما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات.
أما أصحاب الاتجاه الثاني:
وعلى رأسهم ديجي وهوريو فيرون أن للقضاء الحق في مراقبة دستورية التشريع وأن عليه أن يمتنع عن تطبيق التشريع حين يتأكد من مخالفة أحكامه للدستور الذي يتوجب عليه التقيد به.
وهم يوردون لذلك حججاً عديدة أهمها:
أ- إن مراقبة القضاء لدستورية التشريع أمر تحتمه الضرورة والمنطق, لأننا لو رفضنا هذا $الحق لاستطاعت السلطة التشريعية مخالفة الدستور على هواها دون أن يمكن منعها.
ب- إن مراقبة القضاء لدستورية التشريع أمر يدخل في حدود مهامه واختصاصه لأن القضاء ملزم باحترام الدستور والتشريع وحين وجود تعارض بين أحكامهما على القاضي $تطبيق النص الأعلى مرتبة, وعليه بذلك تطبيق الدستور وترك التشريع لمخالفته إياه.
ج- إن رقابة القضاء لدستورية التشريع ليس فيها ما يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات لأن السلطتين التشريعية والقضائية ملتزمتان باحترام الدستور, فإذا خالفت السلطة التشريعية الدستور وامتنعت السلطة القضائية عن ذلك فمعنى ذلك أن السلطة التشريعية تدخلت في شؤون السلطة القضائية وليس العكس.
وبالرغم من أن هذا الرأي الثاني يبدو أقوى حجة, إلا أن القضاء في كثير من البلاد لم تمنحه $دساتيرها صراحة مثل هذا الحق، وقد أخذ بالرأي الأول ورفض أن يعترف لنفسه بصلاحية $مراقبة دستورية التشريعات. أما في بلادنا فيلاحظ أن القضاء العادي يرفض بصورة عامة أن يعترف لنفسه بحق مراقبة دستورية التشريع, وأما القضاء الإداري فيستشعر من بعض قراراته أنه يعترف لنفسه بهذا الحق
2- رقابة القضاء لقانونية الأنظمة:
إن رقابة القضاء القانونية الأنظمة تعني في نفس الوقت رقابته لدستوريتها, وهذه الرقابة قد أخذت بها معظم الدول المتمدنة في عصرنا, وهي لا تقتصر فقط على المراسيم والقرارات التنظيمية بل تتناول أيضاً القرارات والمراسيم العادية, فجميع ما يصدر عن السلطة التنفيذية من مراسيم أو قرارات يمكن الطعن فيها أمام القضاء إذا خالفت في أحكامها الدستور أو التشريع..
الفرع الثالث
تفسير التشريع
ضرورة التفسير:
يتألف التشريع من قواعد عامة ومجردة توضع من قبل المشرع. فإذا عرضت قضية ما على قاضٍ يكون من واجب هذا القاضي البحث في نصوص التشريع أولاً عن القاعدة الممكن تطبيقها على القضية ثم يصدر حكمه بمقتضى هذه القاعدة بعد أن يتثبت من صحة انطباق القاعدة على القضية.
ولكن عمل القاضي ليس بهذه السهولة إذ عليه أن يتثبت من مضمون القاعدة التشريعية ويفسرها ويوضح معناها ويستخلص الحكم المطلوب تطبيقه على القضية.
تعريف التفسير:
هو بيان المعنى الحقيقي الذي تدل عليه القاعدة التشريعية وإيضاحه, واستنتاج الحكم الذي تنص عليه ليمكن تطبيقه تطبيقاً صحيحاً. ولا مجال للتفسير إلا حيث يكون هنالك نص يراد التعرف لمضمونه ولذلك لا يفسر إلا التشريع ونصوص الشريعة الإسلامية, أما العرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة فلا مجال لتفسير قواعدهما لعدم ورودها في نصوص مكتوبة1.
أنواع التفسير:
تفسير التشريع قد يصدر عن المشرع نفسه الذي سنه أو عن القضاة الذين يتولون أمر تطبيقه أو الفقهاء الذين يعكفون على دراسته وبذلك يكون لدينا ثلاث أنواع2 للتفسير:
1 ـ التفسير التشريعي:
يصدر عادة عن المشرع الذي سن التشريع الأصلي تشريعاً آخر لتفسيره يسمى بالقانون التفسيري حين يرى أن الضرورة تدعو لذلك.
ويعتبر القانون التفسيري الصادر عن المشرع بمنزلة التشريع نفسه الذي يراد تفسيره ولذلك فإن هذا التفسير من أهم أنواع التفسير وأقواها من الوجهة القانونية.
والقانون التفسيري الذي يصدره المشرع لا يطبق فقط منذ صدوره وإنما منذ صدور التشريع الأصلي الذي جاء ليفسره لأن القانون التفسيري لا يعتبر تشريعاً جديداً وإنما إيضاح لتشريع سابق.
2- التفسير القضائي:
وهو من أكثر أنواع التفسير شيوعاً وأشدها أهمية من الوجهة العملية ومن مزايا التفسير القضائي أنه ذو طابع عملي لأن القاضي إنما يعمد إليه بمناسبة قضية أو قضايا معينة يطلب إليه الحكم فيها, فيحاول جهده أن يفسر التشريع في ضوء ظروف هذه القضية أو القضايا وملابساتها, ويكون تفسيره أشد صلة بالحياة العملية وأكثر ملائمة لضرورات الواقع من أي تفسير غيره.
لكن ليس للتفسير القضائي أية صفة إلزامية إلا بالنسبة للقضية التي صدر من أجلها ومعنى ذلك أن التفسير الذي يصدره المشرع حول قاعدة ما يجب أن يراعى بالنسبة لجميع القضايا التي تطبق فيها هذه القاعدة أما التفسير الذي تصدره المحكمة فهو لا يلزم إلا في القضية التي فصل فيها ومن الجائز مخالفته وتبني تفسير معاكس.
3- التفسير الفقهي:
وهو التفسير الذي يصدر عن الفقهاء وذوي الاختصاص في القانون.
ومن أبرز صفاته أنه لا يتمتع بأية قوة إلزامية, وإنما هو عبارة عن مجرد رأي يصدره فقيه أو رجل قانون, وقد يأخذ به أو يهمل.
4- التفسير الإداري:
وهو يتمثل عادة في البلاغات والتعليمات التي تصدرها الإدارات العامة المختصة إلى موظفيها لتفسر لهم فيها أحكام التشريعات التي يكلفون بتطبيقها وتبين كيفية هذا التطبيق.
حالات التفسير وأسبابه:
إن أهم العيوب التي تطرأ على النصوص التشريعية فتجعلها بحاجة إلى التفسير هي1:
أ- الخطأ المادي:
$يعتبر أن هناك خطأ مادياً في النص إذا كانت العبارة التي ورد بها هذا النص تتضمن خطأ فادحاً في بعض ألفاظها بحيث لا يستقيم معنى النص إلا بتصحيحها, وهذا النوع من العيوب هو أبسطها وأقلها شأناً لأنه في الواقع لا يستوجب تفسير النص المعيب وإنما تصحيحه فقط.
ب- الغموض أو الإبهام:
يعتبر النص غامضاً أو مبهماً إذا كانت عباراته غير واضحة كل الوضوح بحيث تحتمل التفسير أو التأويل وبحيث يمكن أن نستنتج منها أكثر من معنى واحد ومهمة القاضي في مثل هذه الحالة هي أن يختار من بين المعاني المختلفة التي يحتملها النص المعنى الأكثر صحة.
أمثلة:
ينص القانون المدني الفرنسي على أن: " بيع ملك الغير باطل..." فهذه المادة تقضي ببطلان البيع الذي يجريه البائع على شيء لا يملكه ولكن في القانون الفرنسي نوعين من البطلان بينهما اختلاف كبير في الأحكام المترتبة عليهما وهما: البطلان المطلق والبطلان النسبي, ومن أبرز نقاط الاختلاف بينهما أن العقد الباطل بطلان مطلق يمكن أن يدعي ببطلانه كل ذي مصلحة وبصورة خاصة كل من المتعاقدين, كما يمكن أن تقضي المحكمة ببطلانه, أما العقد الباطل بطلان نسبي فلا يستطيع أن يطالب ببطلانه إلا المتعاقد الذي تقرر الإبطال لمصلحته.
ت- النقص أو السكوت:
$ويعتبر أن هنالك نقصاً في النص إذا جاءت عبارته خالية من بعض الألفاظ التي لا يستقيم الحكم إلا بها أو إذا أغفل التعرض لبعض الحالات التي كانت يفترض أن ينص عليها.
مثال:
لقد ورد في المادة (151) من القانون المدني المصري القديم أنه: " كل فعل نشأ عنه ضرر للغير يوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر ", فهذه المادة قد يفهم منها أن كل فعل للإنسان أياً كان نوعه يستوجب إلزام هذا الإنسان بالتعويض عما ينشأ عنه من ضرر للآخرين ولكن الواقع أن المرء لا يلزم بالتعويض إلا عن الأضرار التي تنجم عن أفعاله غير المشروعة أو الخاطئة, أما أفعاله المشروعة التي لا يتعدى فيها على غيره فإنه لا يسأل التعويض عنها ولو سببت لهذا الغير بعض الأضرار.فنجد أن نص المادة يجب أن يكون على النحو التالي:
" كل فعل غير مشروع نشأ عنه ضرر للغير... ".
ث- التناقض أو التعارض:
$يكون هنالك تناقضاً أو تعارضاً بين نصين إذا كان الحكم الذي يدل عليه أحدهما يخالف تماماً الحكم الذي يمكن أن يستنتج من الآخر ومهمة القاضي في هذه الحالة هي أن يحاول التوفيق بقدر الإمكان بين النصين فيسعى إلى أن يطبق كلاً منهما في زمرة معينة من الحالات.
مثال:
ورد في المادة " 115 " من القانون المدني أنه: " يقع باطلاً تصرف المجنون أو المعتوه إذا صدر التصرف بعد شهر قرار الحجر ".
$وتنص المادة (200) من قانون الأحوال الشخصية على أن: " المجنون والمعتوه محجوران لذاتهما ويقام على كل منهما قيم بوثيقة ", فالمادة الأولى تشترط لاعتبار تصرفات المجنون والمعتوه باطلة صدور قرار بالحجر عليهما.
وتعتبر المادة الثانية أنهما محجورين لذاتهما, وبالتالي فإن تصرفاتهما تعتبر باطلة لمجرد الجنون أو العته حتى لو لم يصدر قرار بذلك.
مدارس التفسير المختلفة:
أولا-المدرسة التقليدية أو مدرسة الشرح على المتون:
نستطيع أن نجمل مبادئ المدرسة التقليدية في أنها تقوم على التقيد بنصوص التشريع تقيداً تاماً وعدم الخروج عنها مطلقاً وقد ظهرت هذه المدرسة في فرنسا1.
وسبب انتشار هذه المدرسة هو صدور عدد من التشريعات في فرنسا مطلع القرن التاسع عشر وبخاصة صدور القانون المدني الفرنسي في عهد نابليون.
أما المبادئ التي نادت بها هذه المدرسة في تفسير التشريع فيمكن إيجازها:
1 ـ على القاضي أن يستمد أحكامه كلها من نصوص التشريع لأن التشريع يتضمن كل ما تدعو الحاجة إليه من القواعد القانونية.
2 ـ ليس على القاضي أن يتوقف في تفسيره للتشريع عند ألفاظه بل عليه أن يبحث عن نية المشرع التي تبدو من خلال عباراته.
3 ـ هذه النية على القاضي أن يبحث عنها لدى المشرع الذي أصدر التشريع وفي الزمن الذي أصدره فيه وإذا لم يكن هذا ممكناً فعلى القاضي أن يفترض هذه النية افتراضاً.
ولا شك أن المدرسة التقليدية في تفسير التشريع تؤدي إلى وضع ضوابط صحيحة وواضحة ومحددة لهذا التفسير فتبعد بذلك احتمال كل تفسير اعتباطي أو كيفي من قبل القضاة وتؤمن وجود نوع من الاستقرار في المعاملات القانونية.
ثانيا-المدرسة التاريخية:
إن الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها هذه المدرسة هي ضرورة تفسير هذا التشريع تفسيراً جريئاً واسعاً, فلا تتبع بالنسبة إليه دوماً إرادة المشرع نفسه الذي صدر عنه, بل تراعى فيه ضرورات المجتمع والتطور الحالي, لأن النصوص يجب ألا تجمد عند إرادة واضعها الأصلي وإنما عليها أن تتبع الزمن في تطوره وسيره2.
وتعتبر هذه المدرسة أن النصوص القانونية بعد صدورها عن المشرع تصبح ذات وجود مستقل قائم بذاته منفصل عن إرادة المشرع نفسه بحيث يمكن تكييفها وتفسيرها وفقاً للتطورات $المختلفة التي تطرأ على المجتمع، وبحسب هذه النظرية فإن النص التشريعي لا يفسر بحسب ما أراده المشرع في الماضي وإنما بحسب ما يمكن أن تكون عليه نية المشرع حالياً حين تطبيق هذا النص, وهذا ما يعبر عنه بأنه لا يبحث عن النية المفترضة للمشرع بل عن النية المحتملة.
ثالثا-المدرسة العلمية:
لقد أسسها الفقيه جيني ومن أهم مبادئها1:
على القاضي أن يتمسك أولاً بالنصوص وأن يفسرها وفقاً لإرادة المشرع الذي صدرت عنه, وهذا المبدأ يتفق إلى حد بعيد مع وجهة نظر المدرسة التقليدية.
ولكن البحث عن إرادة المشرع الذي وضع التشريع لا يمكن أن يستمر بصورة مطلقة بل هنالك ظروف وحاجات متجددة لا بد من الاعتراف معها بأن نية المشرع غير معلومة بالنسبة إليها, وعندئذ ليس على القاضي أن يجهد نفسه في البحث عن هذه النية وأن يفترضها افتراضاً $وإنما يطبق على هذه الحالات الجديدة الحكم الذي يراه أدعى للمصلحة والصواب.
وإن القاضي إذا كان حراً في انتقاء الحلول الملائمة للحالات الجديدة فانتقاؤه يجب أن يكون علمياً وتسمى طريقته بالبحث العلمي الحر.
طرق التفسير ووسائله:
إن النص الصريح والواضح لا مجال لتفسيره, وأنه ليس على القاضي بالنسبة إليه إلا أن يطبقه بحذافيره دون أن يحاول تغيير معناه أو مخالفة الحكم الذي ينص عليه, وعلى هذا يقال: " لا مساغ للاجتهاد في مورد نص ", ولكن في سبيل معرفة مضمون النص وإيضاح معناه واستنتاج الحكم لا بد للقاضي من إتباع عدد من الطرق لتفسير النصوص2:
أولاً: طرق التفسير الداخلية:
وتقوم هذه الطرق على تحليل النص تحليلاً منطقياً واستنتاج الحكم المطلوب منه مباشرة دون اللجوء لإيضاحه إلى وسائل ومستندات أخرى خارجة عنه ومن أهم هذه الطرق3:
1- الاستنتاج بطريق القياس:
يلجأ إليه لتطبيق حكم وارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص عليها في التشريع وذلك لوجود الشبه الأكيد بين الحالتين أو لوجود ما يسمى بالاتحاد بينهما في السبب أو العلة.
مثال:
جاء في أحد الأحاديث النبوية الشريفة أن قاتل مورثه لا يرث فالحكم هنا هو حرمان الوارث الذي يقتل مورثه من نصيبه في الإرث والسبب هو قتله للمورث وقيست هذه الحالة على حالة ثانية تتعلق بالموصى له الذي يقتل الموصي فيطبق عليه نفس الحكم ويحرم من حقه في الوصية لتشابه الحالتين واتحادهما بالعلة.
2- الاستنتاج من باب أولى:
يلجأ إليه لتطبيق حكم وارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص عليها بالتشريع لا لأن علة الحكم في الحالة الأولى أو سببه متوافران في الحالة الثانية فحسب بل لأنهما أكثر توافراً في الحالة الثانية من الأولى.
مثال:
فمن الآية الكريمة التي تأمر الإنسان بحسن معاملة أبويه نستنتج: { لا تقل لهما أف ولا تنهرهما} أنه من باب أولى أن من واجبه أيضاً عدم ضربهما.
3- الاستنتاج بمفهوم المخالفة:
يلجأ إليه لتطبيق عكس الحكم الوارد بشأن حالة معينة على حالة أخرى لم ينص عليها في التشريع, لأن هذه الحالة الثانية تختلف كل الاختلاف عن الأولى بحيث تعتبر معاكسة لها تماماً.
فطريقة الاستنتاج بمفهوم المخالفة هي عكس الاستنتاج بطريقة القياس.
ففي الاستنتاج بمفهوم المخالفة تكون الحالة الغير المنصوص عليها بنص تشريعي معاكسة للحالة المنصوص عليها بذلك النص ولهذا فإن من الضروري أن تطبق عليها حكماً معاكساً.
مثال:
إن المادة " 405 " من القانون المدني تنص على: " إذا هلك المبيع قبل التسليم... انفسخ البيع واسترد المشتري الثمن ", من الممكن أن نستنتج بمفهوم المخالفة أنه إذا هلك المبيع بعد التسليم لا قبله فلا ينفسخ المبيع ولا يكون للمشتري الحق في استرداد الثمن.
ثانياً: طرق التفسير الخارجية:
ونعني بذلك مجموعة الأدلة والوثائق والوسائل التي يستعين بها القاضي لتفسير النص التشريعي وبيان معناه. وأهم هذه الطرق1:
1- حكمة التشريع وغايته:
إن المشرع حين يضع نصاً من النصوص لا يفعل ذلك بصورة عفوية أو اعتباطية وإنما هو يختار هذا النص سعياً وراء غاية يحرص عليها أو تحقيقاً لحكمة يراها والحكمة التي يتضمنها تساعد إذن على تفسير هذا النص حين غموضه وعلى استنتاج الحكم الصحيح منه.
وعلى هذا مثلاً حين يشدد التشريع العقوبة في حالة " السرقة ليلاً " فإننا نستطيع أن نفسر هذه العبارة بأنها السرقة التي تقع أثناء الظلام وليس ليلاً بالمعنى الفلكي الذي يمتد من الغروب إلى الشروق إذ أن المشرع لا يقصد في الواقع أن يشدد العقوبة بجريمة السرقة التي تقع خلال ساعات معينة وإنما خلال ظروف معينة وهي وجود الظلام.
2- الأعمال التحضيرية:
تشمل الأعمال التحضيرية جميع الأعمال التي سبقت صدور التشريع عن السلطة التشريعية أو رافقته.
وأهم الوثائق التي تتضمنها هذه الأعمال التحضيرية:
أ ـ المذكرة الإيضاحية أو لائحة الأسباب الموجبة التي ترفق عادة بالتشريع بيان الأسباب التي دعت إلى إصداره والغاية المتوخاة منه وأهم ما يتضمنه من قواعد قانونية بارزة.
$ب ـ الدراسات التي تقوم بها اللجان التشريعية المختصة حول هذا التشريع بعد إحالته إليها.
$ج- مناقشات أعضاء مجلس الشعب المتعلقة بهذا التشريع حين عرضه عليهم للتصويت عليه وإقراره والإيضاحات التي يدلى بها حوله.
ج- المصادر أو السوابق التاريخية:
هي المصادر التي أخذ عنها التشريع قواعده واستمد منها أحكامه, فالتشريعات الأجنبية تعتبر بمثابة مصادر تشريعية لأغلب تشريعاتنا.
كما أن الشريعة الإسلامية تعتبر أيضاً المصدر التاريخي لقانون الأحوال الشخصية.
فعندما يجد القاضي نفسه أمام نص تشريعي غامض بإمكانه أن يرجع إلى المصدر الأصلي الذي استمد منه هذا التشريع أحكامه وأن يفسر النص في ضوئه.
1 - المدخل إلى العلوم القانونية أو النظرية العامة للقانون /محمد محمود عبد الله/ جامعة دمشق -1982-1983 ص 87- 90
1 - المدخل إلى علم القانون /هشام القاسم / جامعة دمشق /2003-2004. ص 112 - 116
1 – القاعدة القانونية:مدخل إلى دراسة القانون الوضعي/تأليف محمد طه بدوي/القاهرة-مصر:دار المعارف(1954) .ص 85
1 - المدخل إلى علم القانون/تأليف عباس الصراف-جورج حزبون/عمان- الأردن:مكتبة دار الثقافة(1991) . ص 52 – 53
1 - المدخل إلى القانون/رمضان محمد أبو السعود-محمد حسين منصور/بيروت-لبنان:منشورات الحلبي الحقوقية(2003) ص 91- 94 .
1 - المدخل للعلوم القانونية: (النظرية العامة للقانون.والنظرية العامة للحق)\توفيق حسن فرج/ بيروت لبنان:/الدار الجامعية (1988) . ص 209
2 - المدخل إلى علم القانون /هشام القاسم / جامعة دمشق /2003-2004 ص 123- ص 124
3 - المادة 111 من الدستور السوري .
1 - أصول القانون أو المدخل لدراسة القانون/عبد الرزاق احمد السنهوري-احمد حشمت أبو ستيت/ القاهرة-مصر:لجنة التأليف والترجمة(1941) 158 – 160
1 – المدخل لدراسة العلوم القانونية:مبادئ القانون-النظرية العامة للحق/عبد القادر الفار/عمان- الأردن:مكتبة دار الثقافة(1994 ص 102
2 - المدخل إلى علم القانون /عدنان جاموس / جامعة دمشق / 1985-1986 ص 63
1 - المدخل إلى علم القانون /هشام القاسم / جامعة دمشق /2003-2004. ص 1