المحاضرة الثانية
طبيعة القواعد القانونية
المبحث الأول : أنواع القواعد القانونية
المطلب الأول :القواعد الأمر les règles impératives
القاعدة القانونية الأمرة هي تلك القاعدة التي يلتزم الأفراد بإحترامها، بحيث لا تجوز الإتفاق على خلافها، وذلك لتعلقها بالنظام العام في المجتمع، فبالتالي فإن القاعدة الامرة تأمر بفعل ما أو تنهي عنه بصفة مطلقة ينعدم إزائها سلطلن إرادة الافراد.
إن الإتفاق الذي يقضي بمخالفة القاعدة قانونية أمرة يقع من الناحية القانونية باطلا بطلانا مطلقا، فلا يمكن مثلا لشخص أن يتفق مع شخص أخر من أجل أن يقدم أحدهما على قتل الأخر، كما انه لا يمكن لأي شخص أن يزعم بأنه بإمكان التنصل من أداء الضرائب التي يفرضها عليه القانون، مثال على ذلك في المادة 304 من تقنين العقوبات .
الفرع الثاني: القواعد المكملة les règles supplétives
القواعد القانونية المكملة هي تلك القواعد التي تجوز للافراد الإتفاق على ما تخالفها وإستبعاد تطبيق أحكامها والإتفاق على عكس ما جاء فيها، لأنها لا تتصل بالمصلحة العامة للمجتمع ولا بالنظام العام.
إن فكرة القواعد المكملة تنظم في الغالب علاقات يترك تنظيمها في الاصل لإرادة الأفراد، ولكن لإحتمال ورود إمكانية إقدام الأفراد على تنظيم بعض المساءل في مجال المعاملات القانونية، فإن القانون يشتمل على قواعد إحتياطية تكمل ما يشوب إتفاقات الأفراد من نقص.
والجدير بالذكر أن القاعدة القانونية المكملة تتسم بالطابع الإلزامي، غير أن ذلك لا يتحقق إلا بتوافر شرط عدم إتفاق الأفرد على عكس ما جاء فيها من أحكام.
ومن أمثلة القواعد القانونية المكملة أحكام المادة 387 من القانون المدني التي تقضي أنه يجب دفع ثمن المبيع في مكان تسليم المبيع، ما لم يوجد إتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك، أي أن إلزامية دفع ثمن المبيع في مكان تسليم المبيع لا تتححق إلا في حالة عدم الإتفاق بين الأطراف المتعاقة، وكذلك في حالة عدم وجود عرف يقضي بخلاف ذلك.
المطلب الثاني : معيار التفرقة بين القاعدة الأمرة والقاعدة المكملة
الفرع الأول : المعيار الشكلي أو اللفظي
يتسم حسب هذا المعيار التمييز بين القواعد الأمرة والقواعد المكملة على أساس عبارات النص في حد ذاته، التي من خلالها يمكن إستنتاج نية المشرع في تحديد صفة القاعدة، إن كانت قاعدة أمرة أو قاعدة مكملة.
يستعمل المشرع في حالة القواعد الأمرة ألفاظا قاطعة للدلالة على عدم جواز الإتفاق أو مخالفة القاعدة القانونية، كما أنه يستعمل المشرع عبارات واضحة للدلالة على إقتران مخالفة قاعدة قانونية بعقوبة، مثلما هو الحال في القانون الجنائي، كما انه يمكن للمشرع أن ينص صراحة على بطلان أي تصرف يكون مخالفا لمضمون قاعدة قانونية امرة، ومثال ذلك أحكام المادة 92/02 من التقنين المدني الجزائري التي تنص :"...غير أن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل، ولو كان برضاه...".
الفرع الثاني : المعيار الموضوعي
إن في بعض الحالات لا يمكن من خلال الالفاظ المستعملة في النص القانوني التعرف على طبيعة القاعدة القانونية، إذ هي من قبيل القواعد الأمرة أو المكملة، وفي هذه الحالة يتعين الرجوع إلي معيار أخر لتحديد التفرقة، وهو المعيار الموضوعي الذي يعتمد على التأكد إن كانت القاعدة القانونية تتعلق بالنظام العام أو الأداب العامة أم أنها لا تتعلق بأحدهما، فإذا كانت كذلك، أي إذا كان موضوع القاعدة يمس بالنظام العام أو الأداب العامة فنكون بصدد قاعدة أمرة لا تجب مخالفتة مضمونها أو الإتفاق على عكس ما جاء فيها، وذلك كون النظام العام والاداب العامة يتعلقان بالمصلحة العامة ويرتبط بكيان المجتمع، أما إذا كان موضوع القاعدة القانونية لا يتعلق بالنظام العام ولا الأداب العامة فنكون بصدد قاعدة مكملة يمكن الإتفاق على عكس ما جاء فيها، وذلك لتعلقها بالمصلحة الخاصة للأفراد الذين هم أحرار في التصرف فيها.
تعتبر قواعد القانون العام من صميم القواعد الامرة التي لا يمكن مخالفتها وذلك سواءا تعلق الامر بالقواعد الدستورية، القواعد القانونية الإدارية، أو القواعد القانونية الجنائية، لأنها كلها قواعد مرتبطة بالنظام العام يتمحور موضوعها حول ممارسة السلطة، حماية الحريات الاساسية للافراد، وكذلك حماية كيان المجتمع إلى جانب حماية سلامة الفرد وممتلكاتهم، فالنظام العام حسب التعريف الفقهي هو مجموعة المصالح الجوهرية للمجتمع أو مجموعة الاسس التي يقوم عليها كيان الجماعة، سواءا تعلق الامر بالسس السياسية، الإجتماعية، الإقتصادية أة الخلقية.
أما فكرة الأداب العامة فهي مجموعة الأصول والأسس الأخلاقية التي يقوم عليها نظام المجتمع واللازمة لبقائه
القاعدة القانونية هي الخلية الأساسية التي يتألف منها القانون بمعناه العام.
وقد عرفها الدكتور سليمان مرقس بأنها خطاب موجه إلى الأشخاص في صيغة عامة له قوة الإلزام.
من هذا التعريف نجد أن1:
1 ـ القاعدة القانونية خطاب موجه إلى الأشخاص:
وهذا الخطاب الموجه إلى الأشخاص إما أن يتضمن أمراً لهم بالقيام بفعل معين, أو نهياً عن القيام به, أو مجرد إباحة هذا الفعل دون أمر به أو نهي عنه.
$ فعلى سبيل المثال المادة ( 554 ) من القانون المدني: تنص على أنه (( يجب على المستأجر أن يقوم بوفاء الأجرة في المواعيد المتفق عليها )).
فهذه القاعدة تتضمن الأمر بفعل معين هو أداء الأجرة إلى المؤجر.
و المادة (185 ) من قانون التجارة بالنسبة للشركات المغفلة تنص على أنه: (( لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الإدارة وأية وظيفة عامة )).
فهذه المادة تتضمن النهي عن فعل معين هو الجمع بين عضوية مجلس الإدارة في الشركة المغفلة والوظيفة العامة.
$ولو أخذنا المادة ( 549 ) من القانون المدني التي تنص على أنه (( يجوز للمستأجر أن يضع بالعين المؤجرة أجهزة لتوصيل المياه والنور الكهربائي والتلفون والراديو وما إلى ذلك )). لوجدناها تتضمن إباحة فعل معين والترخيص به دون أمر ولا نهي.
ونلاحظ أنه لا يشترط في القاعدة القانونية أن تأتي بصيغة الأمر أو النهي أو الإباحة والترخيص لأنها قد تأتي على شكل إنذار موجه إلى الأشخاص بترتيب أثر ما على واقعة معينة فيستنتج من هذا الإنذار ما تريد القاعدة أن تأمر به.
فالمادة ( 388 ) من قانون العقوبات التي تنص على أنه:
(( كل سوري علم بجناية على أمن الدولة ولم ينبئ بها السلطة العامة في الحال عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالمنع من الحقوق المدنية )).
فهذه القاعدة لا نجد فيها صيغة الأمر, وإنما نجد فيها إنذاراً إلى من يتوانى عن إخبار السلطة العامة عن الجنايات الماسة بأمن الدولة.
2 ـ القاعدة القانونية يجب أن تكون عامة ومجردة:
لا يكفي أن يكون هناك خطاب موجه إلى الأشخاص سواء أكان أمراً أو نهياً أو مجرد إباحة وترخيص ليعتبر أن هناك قاعدة قانونية, بل يجب أن يكون هذا الخطاب أو يجب أن تكون هذه القاعدة عامة ومجردة1.
ومعنى ذلك أن القاعدة القانونية يجب ألا تخص شخصاً معيناً بالذات أو تتعلق بحادثة معينة, بل يجب أن تكون قابلة للتطبيق على كل من يمكن أن تتوافر فيهم الصفات والشروط التي تنص عليها.
وفي الواقع, فإن مفهوم القاعدة نفسه يفترض الاطراد وإمكانية التطبيق في الحالات والظروف المماثلة, أما الأحكام التي لا تطبق إلا على أشخاص معينين أو حالات محددة بالذات فإنها لا تكون قواعد قانونية بالمعنى الصحيح.
مثال:
1 ـ يحرم الطالب الذي يرتكب عملية الغش في الامتحان من متابعة امتحانه.
2 ـ يحال الموظف الذي يبلغ سن الستين على التقاعد.
إن كلا المثالين يمكن إدراجهما في عداد القواعد القانونية لأنهما لا يخصان طالباً أو موظفاً معين بذاته وإنما هما عبارة عن نصين عامين يمكن تطبيقهما على كل طالب يرتكب عمليه الغش في الامتحان وعلى كل موظف يبلغ سن الستين.
أما المثالين الآتين:
1 ـ يحرم الطالب ( فلان ) من متابعة امتحانه لارتكابه عملية الغش.
2 ـ يحال الموظف ( فلان ) على التقاعد لبلوغه سن الستين.
فلا يمكن اعتبارهما بمثابة قاعدتين قانونيتين لأن الحكمين اللذين يتضمنانهما يقتصر تطبيقهما على الطالب أو الموظف المعينين فيهما دون أن يتجاوزهما إلى غيرهما.
من جهة أخرى لا يشترط في القاعدة القانونية أن تتناول في حكمها عدداً كبيراً من الأشخاص أو أن تشمل المواطنين جميعاً ليعتبر أنه قد توافرت فيها صيغة العموم.
فكثرة الأشخاص الذين تطبق عليهم القاعدة أو قلتهم ليس لها اعتبار ولكن المعتبر في القاعدة القانونية هو ألا تتناول أشخاصاً معينين بذاتهم, بل أن يعم حكمها جميع الأشخاص الذين تنطبق عليهم الصفات والشروط المحددة فيها.
لذلك فقد تتناول القواعد القانونية في أحكامها فئات من الناس لا يكون عدد أفرادها كبيراً كالقواعد المتعلقة بالتجار أو الموظفين أو أساتذة الجامعة أو غيرهم.
وأحياناً قد تتناول القاعدة بحكمها شخصاً واحداً كالقواعد التي تتضمن تحديد صلاحيات واختصاصات رئيس الجمهورية مثلاً فهذه القواعد تعتبر قواعد قانونية على الرغم من أن تطبيقها يتعلق برئيس الجمهورية وحده. ذلك لأن الأحكام التي تتضمنها ذات صفة عامة بحيث يمكن تطبيقها بالنسبة إلى أي رئيس للجمهورية يجري انتخابه وليست خاصة برئيس معين بشخصه وذاته.
3 ـ القاعدة القانونية يجب أن تتصف بالصيغة الإلزامية
$-يقصد بذلك أن يكون للقاعدة القانونية مؤيد أو جزاء, بحيث يجبر الأشخاص على إتباعها ويفرض عليهم احترامها ولو بالقوة عند الاقتضاء.
والمؤيد أو الجزاء هو الأثر الذي يترتب على مخالفة القاعدة القانونية.
فمثلاً الأثر الذي يترتب على مخالفة القاعدة التي تأمر بعدم السرقة هو الحبس, والأثر الذي يترتب على مخالفة القاعدة التي تأمر بالوفاء بالديون هو التنفيذ الجبري...
والمؤيدات القانونية تعود في الدول المتمدنة إلى الدولة وحدها, فهي التي تملك وحدها وسائل إجبار الأشخاص على احترام القاعدة القانونية وهي التي ترتب الآثار الناجمة عن مخالفتها.
أي أننا نقصد بقولنا أن القاعدة القانونية تتصف بالصبغة الإلزامية هو أن تكون مؤيدة من قبل الدولة.
وهذا ما يميز القاعدة القانونية عن سائر القواعد الاجتماعية والأخلاقية ( كقواعد الأخلاق ) التي تفتقر إلى المؤيد من قبل الدولة.
بحيث لا يمكن للدولة أن تعاقب الفرد على عدم اللطف ( كقاعدة أخلاقية ).
بالمقابل ليس من الضروري أن يكون احترام الناس للقاعدة القانونية وتطبيقها من قبلهم ناجماً عن تأييد الدولة لها وفرضها إياها, بل قد يطبقونها من تلقاء أنفسهم لأنهم يعتقدون أنها واجبة التطبيق ولو لم تكن مفروضة عليهم من الدولة ومؤيدة من قبلها.
والمؤيد الذي تضعه الدولة للقاعدة ليكفل احترامها وتطبيقها من قبل الأشخاص يكون على نوعين1:
1 ـ المؤيد الجزائي: ويقصد به الزجر, ويكون ذلك بإيقاع العقوبة بالمخالف للقاعدة القانونية ردعاً له ولغيره عن مخالفتها.
2 ـ المؤيد المدني: ويقصد به الجبر, يكون ذلك بإعادة الأمور إلى نصابها وإزالة الخلل الذي أحدثته مخالفة القاعدة القانونية أو إصلاحه على قدر الإمكان.
والمؤيد الجزائي قد يقع على جسم الشخص ( كالسجن أو الإعدام ), وقد يكون عبارة عن غرامة يعاقب بدفعها.
أما المؤيد المدني فيكون على أنواع2:
1 ـ فهو إما أن يكون تنفيذاً عينياً وذلك بتنفيذ ذات الالتزام ( كإجبار البائع مثلاً على تسليم المبيع للمشتري ).
2 ـ أو أن يكون تنفيذاً بمقابل وذلك عن طريق التعويض ( كإجبار من سبب بعمله غير المشروع ضرراً للغير على دفع تعويض له عنه ).
3 ـ أو أن يكون ببطلان الاتفاق المخالف للقاعدة القانونية, كبطلان الاتفاق الواقع على بيع المخدرات.
وللتميز بين المؤيد الجزائي والمؤيد المدني نطرح المثال التالي:
لو فرضنا أن شخصاً يقود سيارته مخالفاً قواعد المرور قد صدم شجرة واقتلعها فحكم عليه بغرامة من جهة وبالتعويض عن الشجرة من جهة ثانية.
فالمقصود من الغرامة ليس إصلاح الضرر بل معاقبته لمخالفته قواعد المرور ( مؤيد جزائي ).
أما التعويض فلا يهدف إلى معاقبته وإنما لإزالة الضرر الذي ألحقه بمالك الشجرة من جراء عمله غير المشروع ( مؤيد مدني ).
أي أن المؤيد الجزائي والمؤيد المدني إنما يترتب على مخالفة القاعدة القانونية.
ولكن المؤيد الجزائي يقصد به المعاقبة, بينما لا يقصد بالمؤيد المدني سوى إعادة الأمور إلى نصابها
1 - للتوسع في تعريف القاعدة القانونية وخصائصها راجع ,المدخل إلى العلوم القانونية أو النظرية العامة للقانون /محمد محمود عبد الله/ جامعة دمشق -1982-1983 ص 4-16 ,و المدخل إلى علم القانون /عدنان جاموس / جامعة دمشق / 1985-1986 ص8 , و المدخل إلى علم القانون /هشام القاسم / جامعة دمشق /2003- 2004 , ص15-21 .
1المدخل إلى القانون/رمضان محمد أبو السعود-محمد حسين منصور/بيروت-لبنان:منشورات الحلبي الحقوقية(2003) ص 20
1 المدخل إلى القانون/رمضان محمد أبو السعود-محمد حسين منصور/بيروت-لبنان:منشورات الحلبي الحقوقية(2003) ص 21
2 – المدخل إلى علم القانون /هشام القاسم / جامعة دمشق /2003-2004 ص 21