2. مدخل إلى الطقوس الجنائزية في المغرب القديم

2.1. وظائف الطقوس

- وظيفة دينية :

لم تعد علاقات الطقس بالدين بحاجة إلى برهنة فكل دين إلا ويفرز طقوس خاصة به يستخدمها في نمط ثابت لأهداف دينية وأخرى تذكارية لطمئنة فكر الإنسان المرتبك، فالاحتفال الطقسي يبحث عن مناسبة للتقرب من القدرة الفوطبيعية التي تقلق وتهيمن في نفس الوقت.

ويشير كازنوjف 1971 (J.Cazeneuve) إن القصدية الدينية للطقوس تجد حقيقتها في تحولات الوضع البشري ومن بين هذه التحولات الأكثر إرباكا هي الشعور الذي يدركه الإنسان حول المقدس وهو شعور مبهم ومحير يضطره إلى إحداث تعديلات متلاحقة ومنظمة لوضعه المشوش، أو ما يمكن تسميته بالقلق الوجودي وعن طريق الطقوس يتقرب الإنسان من العالم المقدس موضع تهدئة اضطراباته([1]).

فالطقس بمختلف بدائله التطهيري والسحري لا هدف له سوى إعادة التوازن الداخلي للإنسان وهذا ما يشير إليه ج.كازنوف، وهكذا تكون وظيفة الطقس الدينية دفاعية.

ويشير كذلك ج.كازنوف "...يُلجأ إلى الطقوس لاستعادة التوازن المفقود، ليتقي الدنس أو يتخلص منه... إن المحرمات، التطهيرات، طقوس الانتقال، هي ردود فعل دفاعية ضد هذه التهديدات".

إذن: ج.كازنوف يربط الطقس بتوقعات الوضع البشري في علاقاته مع الروحي والمقدس([2]).

 

 

من أهم الوسائل الطقسية القادرة على تحقيق التقارب من القوى العليا نجد الصلاة والتضحية كونهما تستعيدان البعد الديني في الطقس، الصلاة باعتبارها طقس شفوي يركز على تحقيق أمنية معنية والتضحية في كونها طقس عطائي دعامة لهذه الصلاة وتضمن شروط تأثيرها الرمزية والدينية.

وتقدم هذه الأخيرة (التضحية) قربانا كموضوع تبادل بين المتضرع الذي يلتمس والمتضرع إليه، إذن يرى ر.ياستيد(1975) Bastide في هذا تداخل القوى بين الإنسان والألوهية إذ تسهم التضحية في تحرير طاقة ضرورية للقوى الملتمسة ضمن مهمتها المتعلقة بتوكيد حياة المؤمنين بها([3]).

 

ب- وظيفة رمزية:

مهما تكن الدوافع الاجتماعية والدينية المفسرة للنشاط الطقسي يوجد دائما دافع واحد نفسي له الغلبة، وهنا يشير اريك فروم أن الطقس في نهاية المطاف ما هو إلا تعبير رمزي عن الأفكار والمشاعر بواسطة الفعل([4]).

 


3. الطقس – الأسطورة – المعتقد

أ- الأسطورة والمعتقد:

على اعتبار الأسطورة ظاهرة من أهم الظواهر الثقافة الإنسانية تميزا وخصوصيتها العالية، إذ أنها حكاية تقليدية تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية وهي بذلك مادة غنية تساعدنا على فهم وتفسير ظواهر الثقافة الإنسانية([5]).

وإذا أردنا أن نسلط الضوء عليها أكثر فهي :

1-      من حيث الشكل:  قصة تحكمها مبادئ السرد القصصي من شخصيات وحبكة وعقدة وغالبا ما تصاغ في قالب شعري ليسهل ترتيلها في المناسبات الطقسية وتداولها شفاهة وهذا ما يزودها بسلطان على العواطف والقلوب.

2-      من حيث المضمون: يحافظ النص الأسطوري على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن وتتناقله الأجيال طالما حافظ على طاقته الإيجابية بالنسبة إلى الجماعة.

3-      من جانب التأليف: لا يعرف للأسطورة مؤلف معين بل هي نتاج جماعي يخلقها الخيال المشترك للجماعة وعواطفها وتأملاتها، لكن هذا لا يمنع من خضوعها لتأثير شخصيات روحية متفوقة.

4-      إن الآلهة وأنصاف الآلهة تلعب الدور الرئيسي في الأسطورة والإنسان على مسرح أحداثها، له دورا مكملا لا رئيسيا([6]).

5-      تتميز موضوعات الأسطورة بالجدية والشمولية مثل: التكوين، الأصول، الموت، العالم الآخر، معنى الحياة، سر الوجود... مستخدمة الخيال والعاطفة والترميز والصور الحية المتحركة([7]).

6-      تجري أحداث الأسطورة في زمن مقدس هو غير الزمن الحالي ومع ذلك فإن لها مضامين أكثر صدقا وحقيقة بالنسبة للمؤمن بها .

7-      ترتبط الأسطورة بنظام ديني معين وتعمل على توضيح معتقداته وتدخل في طلب طقوسه.

8-      تتمتع الأسطورة بقدسية وسلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم وهي بذلك تخلص إلى مفهوم شامل كونها حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يكشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان([8]).

والأسطورة تعمل على أنسنة الكون ببث عنصر الإيرادات الفاعلة والعواطف المتباينة، وترى في كل ظاهرة موضوعية نتاج إرادة أو عاطفة ما.

والأسطورة تضع صورة لكون حي تقوم على إيرادات وعواطف تتبدى في شكل حركي، وفي سعيها لخلق هذه الصورة تستعمل وسائل الترميز، كما تفتح البوابات على مصراعيه بين الوعي واللاوعي في تجربة متكاملة تحفظ من خلالها علاقة الإنسان الطبيعية مع عالمه من جهة وثقافته من جهة أخرى.

وهكذا تفرض الأسطورة سطوتها على النفس كونها تعطينا ذلك الإحساس بالوحدة بين المنظور والغيبي، الحي والجامد، الإنسان وبقية مظاهر الحياة.

فالنظام الذي تخلقه الأسطورة حولها هو نظام إنسان متعدد الأبعاد الذي يرى نفسه جزء لا يتجزأ من العالم الذي يعمل على تفسيره ويدرك بطريقة ما أن المفسِر والمفَسَر وجهان لعملة واحدة.

إذن الأسطورة تعمل على ربط طرفي الوجود: الإنسان/ الوعي، الكون/المادة([9]).

 

 

وهنا يمكن القول أن الأسطورة تقوم بنقل معاني عبارة عن إيحاءات وإشارات وتضمينات معتمدة على استخدام الظلال السحرية للكلمات، هذه الأخيرة ذات الوجهين: الوجه الدلالي الذي يرتبط بالمعاني المباشرة للمسميات ووجه آخر سحري يتدرج بين الخفاء والوضوح قادرة على الإيحاء بمعان غير مباشرة واستثارة شاعر وأهواء كثيرة.

وهي بهذا (الأسطورة) لها سلطان على النفوس ومقدرة على تثبت الأفكار والمعتقدات، وهذا ما يشير إلى الصلة الواقعة بين الاعتقاد أو المعتقد والأسطورة وضرورة كل واحد للآخر، وهذا بسبب النزوع الطبيعي عند الناس نحو البيان والإيمان.

فسحر الأسطورة وأثرها الفعال في توصيل الأفكار المجردة وتثبيت المعتقدات يفسر الوحدة المصيرية بين الدين والأسطورة أو المعتقد والأسطورة([10]).

والأسطورة تكشف القداسة المنطلقة، لأنها تحكى النشاط الخلاق للآلهة وتكشف قداسة عملها، وبعبارات أخرى تصف الأسطورة الانقطاعات المختلفة والمأساوية أحيانا للمقدس في العالم، ولهذا السبب لدى الكثيرين لا يمكن للأساطير أن تروى بلا مبالاة... فالأسطورة في غالبها تظهر كيف أن حقيقة الشيء قد جاءت إلى الوجود، سواء كان هذه الحقيقة الكلية أو جزءا منها فقط([11]).

 

ب- الطقس والأسطورة:

إن العروة الوثقى التي تجمع الطقس إلى الأسطورة طرحت كإشكالية في مطلع القرن 20م، إثرها نشأت نظرية "الأصل الطقسي للأسطورة"، إلا أن هاته الأخيرة لم يكتب لها بداية أن تثبت إلى أن تبناها جيمس فريزر (James Frazer) في كتابه الغصن الذهني من ثمة عملت مجموعة من الباحثين عرفت بجماعة كامبريدج عملت على تطويل النظرية ودراسة الأسطورة على أساسها. من أهم هؤلاء الباحثين:

Jone Harrison ، Gilbert Murray ، F.M.Conford ، A.B.Cook ......

 والتي رأت أن الأسطورة ناتج من نواتج الطقس الأسبق عليها، فالطقوس المؤسسة قديما تفقد بمرور الأيام معناها وغاياتها وتتحول إلى إجراءات مبهمة قد يجهل ممارسوها والقيمون عليها مدلولاتها ومضامينها، عندها تأتي الأسطورة لكي توضح أصل الطقس ومعناه، مقدمة تبريرا مقنعا لتلك الإجراءات المتناقلة عبر الأجيال([12]).

الشعيرة التي قد تتجسد في شكل طقسي في حقيقة أمرها أمور دينية، تفسر من خلال الأساطير والمعتقدات الخاصة بالأرواح والقوى والآلهة، ولا تسأل الناس لماذا يؤدون هذه الشعائر أو الطقوس وكل ما يهم أنها تلب رغبة الإنسان في التخلص وإزالة القلق والخوف الذي قد ينتابه([13]).

ويصور بعض علماء الاجتماع والأتنولوجيا أن في كل أسطورة إسقاطا إيديولوجي لطقس من الطقوس مخصص لتقديم أساس لهذا الطقس([14]).

ونجد يونغ K.Young يشير إلى أن الأساطير والطقوس كانت ترتبط تقليديا بالدين ومن ثمة أصبحت تؤدي أدوارا معينة في حياتنا اليومية، وأن للطقوس معاني رمزية في مواقف الشدة كالموت أو الميلاد... ([15]).



[1]- نور الدين طوالبي، الدين والطقوس والتغيرات، مرج سبق ذكره، ص38.

[2]- نفس المرجع السابق، ص38.

[3]- نور الدين طوالبي، نفس المرجع السابق، ص38.

[4]- نفس المرجع الساق، ص41.

[5]- فراس السواح، الأسطورة والمعنى، مرجع سبق ذكره، ص08.

[6]- نفس المرجع الساق، ص12.

[7]- نفس المرجع الساق، ص13.

[8]- فراس السواح، الأسطورة والمعنى، مرج سبق ذكره، ص14.

[9]- نفس المرجع الساق، ص21.

[10]- فراس السواح، الأسطورة والمعنى، مرجع سبق ذكره، ص22-23.

[11]- مرسيا إلياد، المقدس والمدنس، مرجع سبق ذكره، ص75.

[12]- فراس السواح، الأسطورة والمعنى، مرجع سبق ذكره، ص145.

[13]- محمد أحمد بيومي، علم الاجتماع الديني، مرجع سبق ذكره، ص99.

[14]- كلود ليفي، ستروس، الأنتروبولوجيا البنيوية، ترجمة د.مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1977، ص273.

[15]- عبد الرحمن عيسوي، سيكولوجية الخرافة والتفكير العلمي، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1982-1983، ص63.