فلسفة البيولوجيا

الموقع: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
المقرر: مقياس فلسفة العلوم
كتاب: فلسفة البيولوجيا
طبع بواسطة: Visiteur anonyme
التاريخ: Monday، 6 May 2024، 7:25 PM

1. تمهيد

إذا كان القرن العشرين يُعرف بأنه قرن الفيزياء والتطور الفيزيائي ،فإن القرن الواحد والعشرين يعرف بأنه قرن الثورة البيولوجية،كونها تهدف إلى أن تضع مجتمعا جديدا لا مُعدّلا،فهي تحاول الانتقال بالإنسان المعاصر إلى حياة جديدة غير مألوفة ،وعلى ضوئها ستتغير كل المعطيات وستصل إلى أعماق حياتنا وكياننا وبنائنا ووراثتنا،مما يجعلها تصطدم بالحقائق والمفاهيم السوسيوثقافية المتعددة،وهو ما يجعلنا نتساءل:إلى أي مدى ساهمت هذه التطورات في الميدان البيولوجي في زعزعة النظام القيمي والفلسفي السائد؟ 

2. تطور علم الأحياء وظهور الثورة البيولوجية

لا مراء في أن التقدم التكنولوجي والتطور العلمي المذهل في جميع الميادين قد صاحبه تطور في علم الأحياء هذا الأخير الذي يهتم بدراسة الكائن الحي بتصنيفاته الثلاث،ولا مراء كذلك في أن هذا العلم قد حقق إنجازات عظيمة على مستوى النبات والحيوان،وكذلك الإنسان،هذا الأخير الذي حققت بفضله بيولوجيا الإنسان تقدما محرزا خاصة في مجال الهندسة الوراثية والجينات وغيرها،ومافتئ هذا التقدم يدنو كثيرا إلى أن يصل إلى العصر الذي يصبح فيه بالإمكان التأثير على سلالة الإنسان بالطريقة التي يريدها أو ما يُعرف بالتخليق الجينيectogenical،وهو ما طرق ناقوس الخطر تهديدا للطبيعة البشرية.

   لكن ماهو مميز في كل هذا كما يقول صاحب كتاب البيولوجيا ومصير الإنسان"أن الثورة البيولوجية التي هي محور القرن الواحد والعشرين تهدف في عداد أهدافها إلى كشف بواطن الإنسان وإلى وصف الصراع الأبدي للإنسان عندما يحاول التعبير عن ذاته"[1]،فمع الكشف المطرد الإزدياد عن التركيب الدقيق للتعقيد المنظم الذي يميز الإنسان والذي لا يمكن إنكار فائدته المتزايدة علميا وفلسفيا ،لكن بالمقابل لا محالة خلفت هذه الثورة جملة من السلبيات التي تضرب القيم الإنسانية والفلسفية عرض الحائط.

  بدأ العصر الحديث بالنسبة لعلم الأحياء عام 1859م عندما ألف تشارلز داروين كتابه أصل الأنواع origine des éspéces،وقدّم فيه نظرية التطور والإرتقاء التي أعطت أول مبدأ موحد لمعنى الحياة ،وبالاعتماد على مبدأ الانتخاب أو الاصطفاء الطبيعيla seletion naturelle الذي يعتمد على اللياقة ،ويعتبر أن الكائن الحي كلما كان أكثر لياقة وقدرة على التكيف بالنسبة لشروط بيئته،كلما زاد النسل الذي ينجبه،ذلك النسل القادر على الحياة إلى عمر ينجب فيه هو الآخر نسلا له ،وبكلمة موجزة :يعتبر داروين أن كل أنواع الحياة الحاضرة هي عبارة عن فروع شجرة عائلية ارتقائية عظيمة.

   وفي عام 1830 تم حل لغز التكاثر البيولوجي مع "ميتاس سليدن" وعالم الحيوان'تيودور شوان' أن هذه الخلايا الدقيقة هي الوحدات الأساسية للحياة ،بمعنى أن كل جسم حي يرى بالعين المجردة يتكون من مجموعة من بلايين الخلايا،وفي أواخر القرن التاسع عشر طرأ تحسين كبير على تصميم المجاهر مما أتاح دراسة مكونات الخلية  ذاتها(أي دراسة عضيات الخلية)،وخاصة نواة الخلية ومكوناتها وفي طليعتها الصبغياتles chromosomes ،وفي عام 1865،وُلدت الدراسة العلمية لعلم الوراثة على يد ماندل ،خاصة التي كانت تهدف إلى توضيح كيفية توزيع هذه الصفات الوراثية على الأجيال الجديدة،واتضح آنذاك:أن كل كائن ينقل إلى نسله مجموعة من الوحدات الوراثية المسماة 'الجينات genes '،وكل جين يحدد صفة منفردة ،لذا فإن المظهر الإجمالي للكائن يكون محكوما بإجمالي الجينات.

   وفي عام 1900 أعيد اكتشاف ماندل بالإضافة إلى اكتشاف تغييرات مفاجئة ودائمة يمكن حدوثها في الجينات أُطلق عليها اسم الطفرات،والتي تؤدي إلى حدوث تغيير في الصفة الوراثية المعينة التي يحددها الجين ،كتغير لون الزهرة من الأحمر إلى الأبيض.ونتيجة لما سبق  حدث تقدم كبير بالنسبة لمجال فهم الحياة:فعلى الستوى النظري يمكن أن نعتبر أن التغير الفجائي للجينات هو المصدر الرئيسي للتجديد البيولوجي،والمحرك الذي يقود عملية التطور،ويوضح أن الاصطفاء الطبيعي إنما ينتخب في الواقع الكائنات التي تحمل جينات جديدة أو تركيبات جديدة من الجينات التي تعطي لياقة وصلاحية أكثر للتكيف[2].

  أما على المستوى العملي فقد أدى علم الوراثة إلى مزايا عظيمة،ففي مجال الزراعة أمكن إنتاج أنواع ممتازة من النباتات والحيوانات الأليفة ذات القيمة الاقتصادية العالية،وفي مجال الطب أدى التعرف على دور الجينات في كثير من الأمراض إلى استحداث وسائل الوقاية من هذه الأمراض وعلاجها.

  ثم سرعان ماظهر علم تحسين النسل والذي لا يهدف فقط دراسة التطور المفترض في المخزون البشري ،بل يتعداه إلى تحسين الصفات الجسمية والفكرية للأجيال المقبلة.

  ولقد أدى النجاح العظيم في تقدم علم الوراثة إلى جعله يعتلي قمة العلوم البيولوجية في النصف الأول من القرن العشرين،ومنذ عام 1944 تم اكتشاف ADN والذي لعب دورا كبيرا في تطوير هذا العلم والمضي به حثيثا إلى الأمام.



[1]  البيولوجيا ومصير الإنسان:ص 21.

 البيولوجيا ومصير الإنسان،مرجع سابق،ص28.[2]

3. آثار الثورة البيولوجية واتجاهاتها

يقول أحد العلماء البيولوجيين بعد ما حدث من تطورات كبيرة في ميدان البيولوجيا والطب الوراثي وهندسة الوراثة والتفاعل بينهما "للمرة الأولى في الزمان بأسره،يفهم كائن حي أصله،ويستطيع القيام برسم مستقبله، وحتى في الأساطير القديمة،كان الإنسان مقيدا بجوهره ولم يكن قادرا على الارتفاع فوق طبيعته ليخطط مصيره"،فالمسائل التي نشأت تحت تأثير الاكتشافات المتوالية في علم البيولوجيا وما تركته من أبعاد بيولوجية غلى سلوك الإنسان وتركيبات مجتمعه ليست أحدث من الإنسان،وهي مشكلات مختلفة عن تلك التي كانت سائدة،والتي تعتبر عديمة الوزن مقارنة بهذه المشكلات المستجدة.

   لقد أخذ الإنسان لا محالة يرسم مستقبله بكل تأكيد بعد أن كان مقيدا بمصيره وقدره بل بجوهره وطبيعته كإنسان واستطاع أن يحقق شيئا من كونه بشرا دون أن ينهزم أمام عالم مليء بالمفارقات والمتناقضات والتحديات،حيث أصبحت منجزات الثورة البيولوجية وتأثيراتها على القيم  والأخلاق والقانون وحتى الوجود الإنساني حديث العام والخاص ،وأصبحت موضوع الجدالات العلمية والفلسفية بين منطوق علم متطور يفرض نفسه وبين حدود قيمية فلسفية ترفض الانصياع لهذا التطور،وهو ما أعاد ترتيب العلاقة بين البيولوجيا والقيم الإنسانية،خاصة بعد أن ساهمت-البيولوجيا- في تحسين الكثير من العيوب الوراثية،وهو ما ستعد بشكل كبير في إزالة عبء اجتماعي كبير يثقل كاهل الأسرة والدولة والمجتمع وأكبر مثال على ذلك أطفال متلازمة داون،فعلم البيولوجيا يعمل على توضيح نمو الخلية وتصحيح خطئها الوظيفي.

   لكن التساؤل الأكثر إلحاحا:كيف يغير علم البيولوجيا مفهوم الإنسان لذاته؟وكيف يعمل على توجيه الغير؟وكيف يعمل على تطوير الإنسان وتطوير وضعه الاجتماعي؟فالإجهاض وإطالة العمر وتحديد نمو السكان كلها تعتبر مظاهر لاهتمامات أساسية مثل :القيمة الذاتية لحياة الإنسان،والتوازن بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع،وسلطة الأخلاقيات،والنظم التقليدية،فقد ظهر فهم معاصر لهذه الملامح الأساسية للوضع البشري بقانون عصري للأخلاقيات،فقد توطدت أركانه وفق فكرة أن تغييرا لابد من إحداثه له منجزات المعرفة البيولوجية التي أضحت حقيقة مقنعة تفرض نفسها فرضا.

    وبالتالي فإن تأثير هذه المنجزات قد أضاف العديد من الأمور والتعديلات لمفهوم الإنسان ذاته،مع أنه في الوقت ذاته هناك الكثير من المعضلات المعاصرة التي تهدد المستوى القيمي والقانوني والاجتماعي:مثل الإجهاض أو قيمة الحياة ودور المرأة وحتى دور الأسرة وموقع الحقوق والواجبات في ظل التخلي عن الكثير من المسؤوليات القانونية والاجتماعية.

4. مصير الأسرة في عهد الثورة البيو هندسية

  لا مراء في أن الأسرة تعتبر الخلية الأساسية والجوهرية التي يقوم عليها المجتمع ،وبها يتطور المجتمع أو ينحل،فهي مكمن  قوته،ولكنها لم تكن في منأى عن الثورة البيوهندسية وعن منجزاتها وتداعياتها وهنا نلتمس جملة من الآراء حول هذه العلاقة الجدلية بينهما:

-فإذا كانت الثورة العلمية التقنية وما أحدثته من تسارع في تقدم الحياة ،قد أحدثت الكثير من التغييرات ،فإنها لا محالة في نظر بعض المفكرين تنذر بتحطيم الأسرة وتمزيقها تماما،كيف لا وكل ما يقوم به علماء التناسل من محاولات لجعل الخيالات حقيقة وما تجريه من تجارب من أجل تحسين النسل،وكل هذا يهدد دور الأسرة ويدخل عليها الاضطراب والتوقف غير المتوقع عن أداء دورها،فعندما نقوم بنقل الأجنة من رحم إلى آخر فإننا نكون بذلك قد حطمنا تلك الحقيقة الثابتة من قديم الزمان،والقائلة بأن مدة الحمل هي تسعة أشهر،وهنا سينمو الجنين أو الطفل في عالم تتذبذب فيه دور الأسرة ووظائفها التي كانت تتميز بالثبات والاستقرارية.

  بالإضافة إلى هذا يعمل التطور البيولوجي في التغلغل إلى أعماق حياتنا ويجعل الأسرة تصاب بعدة انشقاقات وتصدعات وأنواع من التمزق لم تعرفه من قبل،يقول ليندبرج في كتابه"التحول المقبل في لعالم":"إن الأسرة تقترب من نقطة الانقراض التام بفعل منجزات التغيير والجدة في نطاق تحسين النسل وهندسة الوراثة"،ويؤكده قول وولف"إن الأسرة قد ماتت بالفعل،فما عدا العام الأول أو العامين الأوليين من تنشئة الطفل،إذن فالأسرة في طريقها نحو الانقراض والتمزق.

-الرأي الثاني وهو من بين العلماء والمفكرين المتفائلين الذين يعتقدون أن منجزات الثورة البيولوجية لن تؤدي إلى الهاوية بل على العكس يعتقدون أن هذه التطورات من شأنا أ تنقل الأسرة نحو العصر الذهبي.

-وهناك من يعتقد أن مصير الأسرة في ظل التغيير الناجم عن هندسة الوراثة وغيرها من تقنيات غصر ما بعد التصنيع،ترى أن نفس الاضطراب الذي سيتعرض له العالم في المستقبل هو الذي سيدفع بالناس لا محالة إلى العودة لأحضان الأسرة.

من بين منجزات هندسة الوراثة وتأثيرات تكنولوجيا الإنجاب الجديدة،فالقدرة على التحكم في جنس المولود،والقدرة على التحكم في تصميم ذكائه وملامحه وخطوط شخصيته ينبغي أن يُنظر إليها اليوم كإمكانيات واردة في المستقبل القريب،وأيضا زرع الأجنة والقدرة على الدخول إلى معرض الأجنة وشراء ما نرغب فيه،كل هذه الأمور تدفع الإنسان إلى أن يعيد التفكير في ذاته وفي مستقبله بعيني شاعر أو رسام أكثر منه بعيني عالم اجتماع أو فياسوف.

  وعندما يصبح من الممكن تنمية طفل داخل حاضنة في المخبر أو إناء مناسب يجب التساؤل عنها عن مصير مفهوم الأمومة وما ذا سيحدث لهذا الشعور،وماذا يحدث لصورة الأنثى في المجتمعات التي أنشأتها منذ بداية وجود الإنسان ؟وما مستقبل النساء بعد أن تخلين عن قدرتهن على الحمل والإنجاب؟ وما هي رسالتها إذن بعد تغيير وظيفتها من حفظ وتنمية للجنس البشري؟وهي أسئلة لابد من إثارتها ومحاولة التفكير في جواب مقنع لها.

   وبالنسبة لتعدد الأنساب من يكون الوالد أو الوالدة في حالة تعدد الأنساب أي عندما تحمل المرأة  في رحمها جنينا لامرأة أخرى؟وعندما تضطر الأسر لشراء الأجنة المخصبة،فإن الوالدية تصبح مسألة قانونية أكثر من كونها مسألة بيولوجية،وإذا افترضنا أن الأجنة قد أضحت معروضة للبيع ،فهل نستطيع أن نبيعهم؟ومن يقوم بعمليات البيع هذه الشركات أم المخابر؟وكيف تكون صيغ البع والشراء؟وإذا كنا نشتري ونبيع الأجنة الحية في فهل نحن في طريقنا إلى استحداث شكل جديد من العبودية؟

5. نتيجة

كل هذه الأسئلة وغيرها لا تعبر إلا عن نسبة ضئيلة من مشروع إنسان مابعد التصنيع البيولوجي،وإن لم توضع لا محالة في إطار قانوني محكم ستعرف أبعادا خطيرة لا يمكن حتى التنبؤ بنتائجها.  

 وهذا الفيديو يوضح موقف الفلاسفة من الثورة البيولوجية