الفكر الذري العلمي
الموقع: | Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2 |
المقرر: | مقياس فلسفة العلوم |
كتاب: | الفكر الذري العلمي |
طبع بواسطة: | Visiteur anonyme |
التاريخ: | Saturday، 23 November 2024، 4:22 AM |
1. الذرة في الفكر اليوناني
يعتبر الفيلسوف اليوناني ديمقريطس أول الفلاسفة الذين تحدثوا عن الذرة ،وصاغ مذهبا ذريا :حيث قسّم ديمقريطس الوجود الواحد المتصل الثابت المتجانس إلى ذرات لا نهائية العدد،فهي تتميز بجملة من الخصائص منها الصلابة والخلود والانفصال ،أي أنها ذرات منفصلة بعضها عن بعض تتحرك في الخلاء أو الفراغ.
وهذه الذرات عبارة عن لا منقسمات لا ترى بالعين المجرّدة،صلبة لا تنقسم ولا تتغير،وإنما يختلف بعضها عن بعض في الشكل والوضع والترتيب،وهي إلى جانب ذلك تتحرك باستمرار في جميع الاتجاهات،فلا تسقط إلى الأسفل،لأنها غير ذات وزن.
ويعتقد ديمقريطس أن هذه الذرات كانت منتشرة بادئ الأمر في الخلاء اللانهائي،ثم تجمعت المتشابهات منها بواسطة حركة الدوامةturbillon فتشكلت منها العناصر الأربعة (التراب،الماء،الهواء،النار)،ومن هذه العناصر تتألف الأجسام،وهنا يبرر ديمقريطس اختلاف الأجسام إلى اختلاف الذرات التي تتكون منها،وليس هناك شيء في الوجود غيرها،أما حركتها فهي من ذات نفسها لا من قوة خارجية،فكل شيء يسير بحتمية القانون الطبيعي[1].وهذا الشكل يوضح طبيعة الذرة عند ديمقريطس:
لكن رغم هذه التصورات الذرية الموجودة عند ديمقريطس إلا أنه من الخطأ أن نعتبر نظرية ديمقريطس نظرية فيزيائية علمية، إذ هي لم تخرج عن كونها فروض لتأملات فلسفية،لا تستند إلى أي برهان تجريبي يقوم على الأسس العلمية السليمة،كما أنه لا يمكننا استخلاص أي نتائج منها،ولا التنبؤ بصفات أخرى يمكن أن تظهر في ظروف معينة،ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أنها فروض كانت بداية لانبثاق النظرية الحديثة[2].
[1] محمد عابد الجابري:مدخل إلى فلسفة العلوم،مرجع سابق،ص317.
عبد الفتاح غنيمة:فلسفة العلوم الطبيعية،مرجع سابق،ص59.[2]
2. الذرة في الفكر الإسلامي
لقد خاض علماء الكلام في الإسلام في مسألة الذرة وسمّوها بالجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ،وسواء استقوا آراءهم من الفلسفة اليونانية أو بعض المذاهب الهندية،فإنهم قد صاغوا كذلك مذهبا ذريا يختلف عن بعض الآراء السابقة،وهذا لمواءمة طرحهم مع الاعتبارات الدينية والكلامية للبيئة الإسلامية أنذاك.
من بين المفكرين المسلمين الذين بحثوا في الذرة نجد فرقة المعتزلة ورائدها أبو الهذيل العلاف الذي يعتبر أول من قال بالجزء الذي لا يتجزأ في الإسلام أ الجوهر الفرد ،ومن مميزاته :أنه لا طول له ولا عرض ولا عمق وبسيطا ليس مركبا،وغير منقسم ،وإنه يتبع مع غيره أو يفارقه،ومن بين خصائص هذا الجوهر نجد السكون والحركة والتماس،وعندما تجتمع الأجزاء تشكل جسما[1].
وانفرد النظام المعتزلي بالقول أنه لا جزء إلا وله جزء ولا بعض إلا وله بعض،ولا نصف إلا وله نصف،وأن الجزء جائز تجزئته أبدا ولا نهاية له من التجزؤ ،ومن النتائج المترتبة على إنكار النظام للجزء الذي لا يتجزأ استحالة الحركة وقطع المسافة،ولكنه تغلب على ذلك بالقول بالطفرة ،ومعناه أن الجسم قد يكون في مكان ما ثم يقفز(يطفر)منه إلى المكان الثامن أو العاشر دون المضي بالأماكن المتوسطة[2].
رغم الجهود المبذولة من طرف المعتزلة ومن جاء بعدهم من المتكلمين،إلا أنها ستبقى آراء فلسفية كلامية ذات طابع ديني لا علمي،لكن هناك بعض الأفكار التي كان لها عظيم الصدى والأثر في الفكر الذري الحديث مثل:فكرة الطفرة التي ستتبناها فيما بعد نظرية الكوانتم.
3. التصور العلمي للذرة
دخلت الذرة في العصور الحديثة في النظريات والأنساق الفلسفية الحديثة مع فلاسفة العصر الحديث(ديكارت،ومالبرانش،جاسيندي ،ليبنتز) ،ولكنها بقيت عند هؤلاء مثل التصور الكلاسيكي القديم كونها بقيت خاضعة لاعتبارات ميتافيزيقية بعيدة عن التجارب العلمية.
ومن بين هؤلاء نجد نجد جاسنديGassendi(1592-1655) حيث قدّم وجهة نظره حول الذرة وأعطاها طابعا علميا،حيث اعتبر الذرات جسيمات ذات كتلة تتحرك،ولقد زود نظريته في الذرة بنظرة دينية معتبرا أن حركة الذرات ترعاها العناية الإلهية،وأن الذرات في الأجسام الصلبة توجد في نظام صارم ،وأنه في السوائل تتحرك عشوائيا رغم أنها معبأة بإحكام[1].
مع بداية القرن التاسع عشر دخلت الذرة في الأبحاث الكيمياوية كفرضية عالمية مكنت من تفسير بعض الظواهر تفسيرا بسيطا ومعقولا،ويُعتبر العالم الإنجليزي دالتونDalton أول من طرح مسألة الذرة طرحا علميا عام 1808،حيث أدخل مفهوم الون الذري معتبرا أن لكل عنصر بسيط كالهيدروجين مثلا ذرة نوعية خاصة به،لزم أن يكون لكل ذرة نوعية وزن خاص بها،لأن الأجسام وهي تتركب من الذرات تختلف في الوزن،ولزم كذلك أن يتم اتحاد الذرات كيمياويا حسب علاقات محددة ومضبوطة،وبالتالي يصبح من الممكن استخلاص الأوزان الذرية كمقارنة العناصر البسيطة بعضها مع بعض،كما يفسح المجال للبرهنة علميا مع فرضية الذرة[2]،ومن هنا أصبح العلماء ينسبون إلى ذرة كل عنصر وزنا خاصا به،فأعطوا للأوكسجين مثلا العدد 16،لأنه أثقل 16 مرة من الهيدروجين،وأعطوا للكربون وزن 12 لأنه أثقل 12 مرة،وهكذا دواليك.
ثم جاء العالم الروسي ماندلييف Mandeliev(1834-1907) الذي توصّل إلى تصنيف العناصر الكيمياوية تصنيفا ظل يشكل أحد الأسس التي قامت عليه النظريات الحديثة حول تركيب المادة،لقد لاحظ ماندلييف عام 1869 أن بعض خصائص العناصر البسيطة تظهر دوريا كخصائص لكتلتها الذرية،فرتب مختلف العناصر المعروفة يومئذ حسب كتلتها الذرية ترتيبا تصاعديا،ولاحظ وجود عناصر متشابهة مع بعضها البعض،فأقام تصنيفه المشهور على مبدأين هما :الوزن الذري والتكافؤ الكيماوي[3].
ورغم هذه التطورات بقيت فرضية الذرة شيئا مجهولا ،حتى أن البعض رفض القول بفرضية الذرة،معتبرين إياها:فرضية ميتافيزيقية،ورفضوا اعتبارها وجودا واقعيا بدعوى أن التجربة لم تثبت وجودها،لكن مع تقدم العلم تم إثبات وجود الذرة،ولكن عن طريق النظرية الحركية للغازات.
عبد الفتاح غنيمة:فلسفة العلوم الطبيعية،مرجع سابق،ص60.[1]
محمد عابد الجابري:مدخل إلى فلسفة العلوم،مرجع سابق،ص319.[2]
[3] المرجع السابق نفسه،ص220.
4. إثبات النظرية الذرية
من المناقشات التي أسالت حبر العديد من علماء القرن 18م حول طبيعة الحرارة ظهور نظريتين مختلفتين في تفسييرها:منهم من آمن بنظرية الموائع أو السيالات les fluides،ومنهم من فسّر طبيعتها انطلاقا من حركة الجزيئات،فحرارة جسم ما تنشأ عن حركة جزيئاته،وانطلاقا من هذه الدراسات بدأ البحث في فرضية الذرة،فللتأكد من الجزيئات لا بد من الحصول عليها علميا بطريقة أو بأخرى،وهنا ظهرت فرضية أفوجادروAvogadro(1776-1856) الإيطالي على أن الأجسام المتساوية من الغازات المختلفة تشتمل دوما على نفس العدد من الجزيئات،وهذا يعني أن الخصائص الكيمياوية للجزيئات الغازية لا أهمية لها إطلاقا،وبعد محاولات متكررة أصبح بالإمكان قياس كتلة جزيئي من الغاز قياسا دقيقا،وسُمّي هذا العدد بعدد أفوجادرو ،ومن هنا أصبحت فرضية الذرة حقيقة علمية ،فالذرة إذن عبارة عن مركب من الجزيئات،أي أن الذرة نفسها قابلة للقسمة عكس التصور الكلاسيكي القديم الذي كان يؤمن بأن الذرة غير منقسمة،وانطلاقا من هذه الفرضية بدأ البحث في بنية الذرة ومكوناتها.
5. الطريق إلى بنية الذرة
انطلقت الأبحاث في بنية الذرة انطلاقا من الظواهر الكهرومغناطيسية ومحاولة تحويل الذرة إلى مقدار فيزيائي كمّي،ليتوصل هيلمولتز عام 1881 إلى أن الأيونات أو الشوارد هي أصغر جزء من المادة يمكن اطلاقه لتندفع منفصلة متقطعة،وكان العالم الإيرلندي Stonny أول من اقترح تسمية هذه الحبات الكهربية بالإلكترون electron أو الكهرب عام 1881،ومنذ ذلك الوقت أصبح الالكترون بمثابة الذرة الكهربائية،بل إن أبعد من ذلك بكثير،بل أصبح مكونا لها ،فالمادة تنحل إلى كهارب أو الكترونات.
ثم قام ميليكان Milikan عام 1909 بتحديد شحنة الالكترون وكتلته ،وتوصل العلماء إلى إثبات وجود الالكترونات حتى في الأجسام المحايدة التي لا تصدر أية كهرباء مما دفع بالعلماء إلى القول أن الالكترون يدخل في تركيب المادة،وأنه جزء أساسي فيها،وهنا تغير المفهوم الفلسفي للذرة،فلم تعد الذرة الجزء الذي لا يتجزأ أو أبسط مكون للمادة،بل أصبحت عبارة عن بنية من العناصر والعلاقات التي ترتبط بينها،فذرة الهيدروجين مثلا تشمل على الكترون واحد،وذرة اليورانيوم تشمل على 92الكترونا.
وبما أن الذرة جسم حيادي فالالكترون ذو شحنة سالبة فلا بد من البحث عن مكون آخر لها يحتوي على شحنة موجبة معادلة للكهرباء السالبة،وهنا جاءت فرضية'النواة' ذات كهرباء موجة بفضل مفعول الكهرباء السالبة.ومنذ ذلك الحين توالت الفرضيات(حقائق غير تجريبية)،وكان أنجحها تجريبيا فرضية روثرفورد Rutherford والتي يرى من خلالها أن الذرة أشبه ما يكون بالنظام الفلكي:فكما تدور الكواكب حول الشمس تدور الإلكترونات في الذرة حول النواة ثم افترض نيلز بورNhils Bohr أن لكل الكترون عدد من الذرات الممكنة يجري فيها دون أن يصدر طاقة،ولكن عندما ينتقل من مدار إلى آخر فإنه يصدر الطاقة أو يمتصها بقدر معلوم.
انطلاقا من هذه الفرضيات يُظهر لنا أنها كلها افتراضات عن الذرة لا حقيقة الذرة،والواقع أن الأمر يتعلق بتصور معين للذرة أي بناء نظري افتراضي يشكل حقيقة علمية مؤقتة لا حقيقة انطولوجية ثابتة،وهو ما طرح العديد من الإشكالات الابستمولوجية أثارت وتثير مناقشات حادة خاصة من طرف ذوي النزعة الوضعية بمختلف فروعها ،أولئك الذين يقولون إننا لا نعرف إلا ظواهر الأشياء وآثارها لا الأشياء في ذاتها،ومعرفتنا هذه نتيجة الملاحظة وأدوات القياس،إذن فلابد أ ن تتأثر ملاجظتنا بهذه الأدوات وتأثيرها ،وبالتالي فإن في المعرفة عنصرا ذاتيا[1]،وهنا تطرح مشكلة الذاتية وموقع الموضوعية في العلم.
وهنا تبين للعلماء أن الذرة تتكون من نواة والكترونات والنواة تتألف من بروتونات ونيترونات تسمى جميعا بالنويات،وهو عبارة عن تصغير لمفهوم النواةnueléons،ويختلف عدد هذه النويات وتوزيعها باختلاف الذرات أي باختلاف العناصر،أضف إلى ذلك أن الروتونات ذات كهربية موجبة،وهي التي تبطل مفعول الكهرباء السالبة التي تحملها الالكترونات.
وتوالت الاكتشافات إلى درجة أن اكتشف العلماء عددا آخر من الجسيمات الدقيقة جدا لا تدخل في تركيب الذرة مثل الميزونméson والهيليرون،وهما يعيشان فترة زمنية أقصر من لمح البصر ، واكتشفوا أشكالا أخرى من الجسيمات الأولية الدقيقة أسموها مضادات الجسيمات les antiparticules وفي سنة 1932 تم اكتشاف البوزيتون الالكتروني positons،وهو مضاد للالكترون ولكنه يحمل كهرباء موجية.
6. خلاصة
نلاحظ أن الطبيعة الجسيمية للكهرباء قد تأكدت وأصبحت الذرة حقيقة علمية وليس فكرة فلسفية كما كانت في العصر الكلاسيكي ،وتخلت عن كل الاعتبارات الدينية والفلسفية التي كانت تحكمها في ذلك العصر،ولم تعد الذرة الجزء الذي لا يتجزأ بل أصبحت بنية تتألف من جسيمات أولية بسيطة. وهذه الصورة تبين مكونات الذرة المتوصل إليها: