المحاضرة الأولى

الموقع: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
المقرر: مقياس فلسفة العلوم
كتاب: المحاضرة الأولى
طبع بواسطة: Visiteur anonyme
التاريخ: Friday، 17 May 2024، 9:28 AM

1. تمهيد

     تعتبر فلسفة العلوم من الأبحاث الفلسفية الجديدة التي عرفت تطورا مذهلا في السنوات الأخيرة ،وذلك توازيا مع التطور العلمي المذهل في مختلف العلوم مع تعددها وتنوعها،وأضحى ضروريا  العودة إلى دراسة المشكلات العلمية التي تلقي بضلالها على الفلسفة ،وتفكيك الأنساق العلمية المختلفة لتقديم قراءة ابستمولوجية تستوعب هذه التطورات الجديدة والمفاهيم العلمية الجديدة المنبثقة عنها،وتساهم بدورها في تفكيك المشكلات العلمية وحل مختلف الألأزمات التي تعيق العلم،وتقديم مقاربات موازية لها،لذا فإن الإشكال الذي تتمحمور حوله محاضرتنا اليوم هو:ما المقصود بفلسفة العلوم وما موضوعها؟وأين تكمن الغاية من دراستها؟

2. ماذا نعني بفلسفة العلوم؟

  يذهب الكثير من الباحثين في هذا لمجال إلى صعوبة ضبط تعريف دقيق واضح لهذا المصطلح،وذلك يعود إلى عدة عوامل ،من بينها كون المصطلح مركب من العلم والفلسفة ،وهذين الأخيرين بالتحديد يصعب تعريفهما تعريفا محكما،ومن بين العوامل كذلك تقاطع هذا الميدان من الدراسات مع الكثير من الميادين الأخرى التي تتشابه معه في الاهتمامات كمبحث تاريخ العلوم ومناهج العلوم وكذا نظرية المعرفة ،وغيرها. ولإزالة لثام الغموض عن هذا المصطلح يجدر بنا تفكيكه إل مفردتيه البسيطتين حتى نتمكن من تقديم تعريف شامل له.

2.1. تعريف الفلسفة

الفلسفة:لايمكن في هذا المقام عرض التعريفات المتعددة والمتنوعة للفلسفة،ولكن سنكتفي فقط بإبراز مفهوم الفلسفة من وجهة نظر العلماء،فالفلسفة في نظر هؤلاء تحاول دوما الإجابة عن مختلف الإشكالات التي عجزت العلوم عن إيجاد حل نهائي لها،كما يكمن دور الفلسفة أيضا في تقصّي أسباب عجز العلم عن الإجابة عنها ،مثل قولنا:ماهي المادة؟ما المقصود بالمكان؟ما أصل الإنسان؟..الخ.

  إذن انطلاقا من خصائص كل من العلم والفلسفة يمكن أن نستنتج أن كلا منهما يختلفان في طبيعة البحث المعرفي:فإذا كانت الفلسفة ميدانا عقلانيا مجردا يتجاوز الفيزيقا إلى الميتافيزيقا بحثا عن العلل القصوى التي تقف خلف هذا الوجود،فإن العلم على العكس من ذلك تماما يحصر نفسه في دراسة الظواهر الحسية الفيزيقية بغرض الوصول إلى قوانين علمية تتحكم فيها وتسمح لنا بالتنبؤ بها مستقبلا.

2.2. تعريف العلم

-تعريف العلم:

   يذهب ألكسيس رونبرج في كتابه"فلسفة العلم،مقدمة معاصرة" إلى صعوبة ضبط مصطلح العلم،وذلك يعود في نظره خاصة "عندما نكون إزاء نوعين من العلوم لم تتحقق لهما الدقة والضبط ما تحقق للعلوم الطبيعية أو عندما نكون إزاء أنماط من المعرفة  تحاول أن تتزيل بزي العلم وهي أبعد ما تكون عنه"[1].

  تعود كلمة علم Science في اشتقاقها اللاتيني scientia إلى المعرفة knowledge  وهي بمعناها الأشمل كل معرفة منهجية أو ممارسة تؤدي إلى نتائج أو تنبؤات لأشياء من الممكن التنبؤ بها في هذا المعنى[2]،من هذا التعريف يتضح لنا أن العلم يتميز بخصائص منهجية منطقية تميزه عن أية معرفة،ومن ثمة فهو يتميز بكونه مجموعة من المعارف التي تتصف بالوحدة والتعميم[3].

  إن هذا التناظر والتقابل بين المبدأين أدى إلى انقسام فلاسفة العلم إلى فريقين:الفريق الأول:يرى أن العلم والمعرفة لهما نفس المعنى ،إنما يكمن الفرق بينهما في العمومية فقط لا من حيث الجوهر ،وبذلك تكون المعرفة أوسع وأعم من العلم.....أما الفريق الثاني فيرى أن الفرق بينهما ليس فرقا في الكم وحسب،بل من حيث الكيف،أي يختلفان في المنهج والخصائص التي تميز محتوى كل منهما[4].       يتميز العلم بجملة من الخصائص التي تميزه عن المعارف الأخرى ،نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر ما يلي:

-الصياغة الدقيقة للمفاهيم المختلفة وتكميم النتائج وصولا إلى تعميمها على الحالات الجزئية المشابهة في قانون واحد يعبر عنه بدالة رياضية ضمانا للدقة وتوخيا للموضوعية .

-استخدام المنهج العلمي:من المعروف في قاموس المعارف العلمية أن أي علم لا يكتمل نضوجه وظهوره إلا بمقدار توظيفه لمنهج دقيق وموضوعي ينسجم مع طبيعة الموضوع التي تحدد نوعه،ومن هنا تم اكتشاف المنهج التجريبي القائم على الفرضية والملاحظة والتجربة والتخلي عن المنهج التأملي الفلسفي الذي لا يتناسب مطلقا مع طبيعة الظواهر الطبيعية.

-الموضوعية: تتصف المعارف العلمية على تعددها بالموضوعية أي استقلال الذات عن الموضوع المدروس،بعيدا عن الذاتية والميول والأهواء الشخصية للباحث مما يمكّن من الحصول على نفس النتائج من باحثين متعددين متى توفرت نفس الأسباب والظروف،ما يكسب القوانين العلمية صفة العالمية والوحدوية.

-التراكمية:يعتير الكثير من الباحثين أن من سمات البحث العلمي التراكمLa cumultation،فلا يتيسر أي بحث علمي إلا بالأبحاث والاكتشافات السابقة وفي مجالات متعددة،أي أن لكل كشف علمي شجرة أسباب أدت إليه،مثلا:لم تكن الهندسات اللاإقليدية لتظهر لولا هندسة إقليدس،ولا مكان في العلم للصدفة والتولد التلقائي،بل إن العلم كما يقول جورج سارتون هو النمو الوحيد للخبرة الإنسانية[5]،لكن هذا لاينفي مطلقا الصفة الثورية عن التطور العلمي،فالنظريات العلمية هي كشف جديد وتقدم قطائعي مع النماذج القديمة.



[1]  أليكس رونبرج:فلسفة العلم،مقدمة معاصرة،ترجمة أحمد عبد الله السماحي وفتح الله الشيخ،مراجعة:نصار عبد الله،ط1، المركز القومي للترجمة،القاهرة،العدد 1693،2011،ص07.

[2]  المرجع السابق نفسه،ص 08.

 جميل صليبا :المعجم الفلسفي،ج2،ص 99.[3]

 عبد العزيز بوالشعير:مقالات في الدرس الابستمولوجي،منشورات ضفاف والاختلاف،لبنان،ط1،2016.،ص33.[4]

 صلاح قنصوة:فلسفة العلم،ص57.[5]

3. ماذا نعني بفلسفة العلوم

يذهب الكثير من الباحثين في هذا لمجال إلى صعوبة ضبط تعريف دقيق واضح لهذا المصطلح،وذلك يعود إلى عدة عوامل ،من بينها كون المصطلح مركب من العلم والفلسفة ،وهذين الأخيرين بالتحديد يصعب تعريفهما تعريفا محكما،ومن بين العوامل كذلك تقاطع هذا الميدان من الدراسات مع الكثير من الميادين الأخرى التي تتشابه معه في الاهتمامات كمبحث تاريخ العلوم ومناهج العلوم وكذا نظرية المعرفة ،وغيرها. ولإزالة لثام الغموض عن هذا المصطلح يجدر بنا تفكيكه إل مفردتيه البسيطتين حتى نتمكن من تقديم تعريف شامل له.

4. العلاقة بين الفلسفة والعلم

-العلاقة بين الفلسفة والعلم:

     رغم الاختلاف والتمايز بين كل من العلم والفلسفة إلا أن هذا لا ينفي وجود علاقة وظيفية بينهما قائمة على التكامل والتداخل،ولقد شبّه أليكس رونبرج علاقة الفلسفة بالعلم بعلاقة الناقد بالمبدع،ففلسفة العلم ما هي في جوهرها إلا نقد للعلم،وهي تقوم بما يقوم به الناقد في مجال من المجالات من تحليل وتفسير العمل محل النقد ثم تقييمه وإيضاح مدى اقترابه أو ابتعاده عن الصورة المثلى للإبداع[1].

   إذن إن الفلسفة تُخضع العلم للدراسة النقدية من ناحية الموضوع والمنهج والنتائج،كون أن العلم كما يقول هايدغر"لا يفكر في ذاته"،أي أنه لا يعتني كثيرا بذاكرته -على حد تعبير  يمنى طريف الخولي-ولا يلتفت إلى ماضيه،وهنا تضطلع الفلسفة بهذا الدور أي التفكير في ذات العلم في منهجه ومنطقه وخصائص المعرفة العلمية وشروطها[2].

   وانطلاقا من هذه العلاقة تولد فلسفة العلوم والتي تعتبر حلقة الوصل بين الفلسفة والعلم،فهي إذن الدراسة النقدية لمبادئ العلوم وفروضها ونتائجها وقوانينها التي تقوم عليها،ومن ثمة الكشف عن أصولها وأبعادها الابستمولوجية التي تقبع خلفها.

  نشأت فلسفة العلم من حيث كونها مبحثا أكاديميا متخصصا في النصف الأول من القرن التاسع عشر،هذه الحقبة شهدت ذروة من ذرى المجد العلمي والثروة العلمية التكنولوجية[3]،لذا فإنه فرع جديد من فروع الفلسفة يقصر اهتمامه بالعلم دون غيره من المواضيع،لكن هذا لا ينفي مطلقا وجود مثل هذه الدراسات من قبل،والتي كانت متضمنة في الكثير من نظريات الفلاسفة،حيث أن الكثير مما تقوم به فلسفة العلوم على صعيد المفاهيم والطرق المعرفية والمنطقية والمناهج،قد قام به الفلاسفة والعلماء من قبل،حتى وإن لم يكن المصطلح قد استخدم عندهم لأنه ظهر حديثا،وما الدراسات النقدية للطرق المعرفية والمنطقية إلا جزء من العمل الذي تقوم به فلسفة العلم[4].



[1]  أليكس رونبرج:فلسفة العلم،مرجع سابق،ص 09.

[2]  يمنى طريف الحولي:ص11.

[3]  المرجع نفسه،الصفحة نفسها

[4] محمد عابد الجابري:مدخل إلى فلسفة العلوم، العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،ص ص 131،132.

5. موضوع فلسفة العلم وغايته

 تتناول فلسفة العلم بالدراسة والتحليل والنقد عدة موضوعات،يمكن تلخيصها فيما يلي:

أ-المعرفة وأنواعها:أمثال المعرفة الحسية والمعرفة العقلية والمعرفة التجريبية والمعرفة الحدسية وغيرها من المعارف العلمية لبيان درجة اليقين فيها وحدودها ومدى قدرتها من الوصول إلى الحقيقة والموضوعات التي تتعامل معها هذه المعارف،ومدى إمكان تحقيق اليقين فيها،وبيان الشروط المنطقية الصحيحة لها.

ب-مناهج البحث العلمي:أي دراسة مختلف الطرق المنطقية التي تعتمدها هذا المناهج في الوصول إلى الحقيقة وبهذا تتجه بالمناقشة والتحليل لموضوعات مثل القياس ،الاستقراء،الاستدلال وبيان درجة اليقين فيها لتحقيق درجة عالية من الصدق والدقة في تركيبها وتكوينها.

-المفاهيم العلمية:حيث تقوم فلسفة العلم بتحليل ونقد هذه المفاهيم للوقوف على الشروط المنطقية في تعريف هذه المفاهيم وعلاقة بعضها مع البعض الآخر[1].

-نقد جملة من الافتراضات التي يقوم عليها الفكر العلمي أو ينطلق منها في بناء نظرياته وتقديم تفسيرات لتنبؤاته،بالإضافة إلى نقد الواقع المعرفي للعلوم من حيث نسقه ومستوى تقدمه وطبيعة البناء الذي يضعه العلم أيا كان موضوعه ومنهجه ونتائجه[2].

-كما تعمل على الاستفادة من نتائج العلم وتوظيفها لخدمة الإنسان والإنسانية.

    لذا فإن القيمة الابستمولوجية لهذا الميدان تكمن بما ينتجه من أفكار ومبادئ في تكوين بنية الفكر العلمي والفلسفي على حد سواء،يقول نيلز بوهرN.Bohr بخصوص هذه القيمة:"إن الفلسفة تتيح الفرصة للعلماء بأن تنبههم إلى إعادة النظر في مفاهيمهم العقلية وتنقيحها،وذلك بعد أن كشفت دراسة التركيب الذري للمادة عن تصور واضح في مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية،لذلك فمراجعة الأسس الغامضة لمفاهيمنا الأولية مسألة حتمية"[3].

  يمكن حصر غاية فلسفة العلم في محاولة عقد الصلة بين الفلسفة والعلم،التقريب بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وتوحيد البناء الداخلي للإنسان الذي تشكلت بداخله ثقافتان متمايزتان:علمية وأخرى نفسية إنسانية،ومن ثمة توحيدهما في بوتقة واحدة وثقافة واحدة سواء على الصعيد الإجتماعي أو البناء الفكري،كما تساهم فلسفة العلوم في توحيد جميع الاتجاهات الفلسفية والعلمية تحت راية الحقيقة ووحدتها العلمية،وإيجاد منطق عام تنطوي تحت لوائه كل العلوم وتستمد منه الشروط المنطقية في التعامل مع موضوعاتها مما يؤدي إلى وحدة العلوم[4].



[1] محمد عابد الجابري:مدخل إلى فلسفة العلوم:المرجع السابق، ص،ص135،136.

[2]  عبد العزيز بو الشعير:مقالات في الدرس الابستمولوجي،مرجع سابق،ص ص22،23.

[3] N.Bohr :atomic,physics and human knowledge

نقلا عن عبد العزيز بو الشعير:مقالات في الدرس الإبستمولوجي،مرجع سابق،ص27.

[4]  روبير بلانشيه:نظرية المعرفة،ص ص 35،37.