الصحة وجودة الحياة

2. النماذج الحديثة في تفسير الصحة

تمهيد:

       كان علماء الطب القدامى والمراجع الأساسية في الصِّحة انطلاقا من دراسات ابن سينا في القرن العاشر (980-1037) وصولا إلى باستور في القرن التاسع عشر (Pasteur 1870-1880) يفسرون جميع الأمراض على أنها خلل في الوظائف العضوية والحيوية ولذلك أطلق عليهم اسم العضويين (Organicistes)، وكانوا يعتقدون أن الصِّحة هي مجرد الخلو من المرض، والمرض ينتج عن الاستجابة الخلوية المنحرفة والتي لا تؤدي دورها بطريقة عادية. ومع التقدم السريع للفكر والعلم التي شهده القرن الماضي، تساءل بعض العلماء ما الذي يدفع الخلية للاستجابة بطرق منحرفة؟ هذه التساؤلات أثمرت إلى تقديم عدّة تفسيرات للصحة، وتنظر إليها من جوانب متعددة (بيوطبية، بيئية وبائية، نفسية، سوسيواقتصادية...). وحتى وان لم تفلح معظمها في تقديم تفسير علمي دقيق وأكيد، فإنها قدمت إسهامات كبيرة بصوابها وأخطائها، إلى أن ظهرت نماذج أكثر حداثة نقدمها في هذا القسم من الدرس.

1- الطب السلوكي (La Médecine Comportementale):

       لقد ظهر الطب السلوكي في سنوات السبعينيات، حيث تم تأسيس قسم الطب السلوكي وتكوين جمعية الطب السلوكي سنة 1973 وتم إعداد مجلة الطب السلوكي سنة 1978. انها حركة حديثة تعتمد على مبادئ عملية عيادية ونظرية والذي طور أكثر العلاجات السلوكية وذلك بإدخال طرق حديثة لعلاج العصاب والذهان كما أن تطوير البحث في هذا المجال أدى إلى تطبيق اكتشافات ونتائج علم النفس التجريبي في مجال الصِّحة والمرض. ويعرف بومرلو وبرادي (Pomerleau et Brady, 1979) في كتابهما الطب السلوكي على أنه التطبيق العيادي للتقنيات المتفرعة من التحليل التجريبي للسلوك (العلاج أو تغيير السلوك) من أجل التقييم، التسيير، الوقاية وعلاج الأمراض الجسمية والاضطرابات الفزيولوجية. وهو نشاط البحث المساهم في التحليل الوظيفي للسلوكات المصاحبة للمشاكل الطبية ومشاكل الصِّحة. ويهتم هذا التناول بثلاثة مجالات علمية في دراسة الظواهر المتعلقة بالصِّحة والمرض: الدراسات التجريبية لسلوكات الصِّحة والمرض، الاهتمام بالسياقات السيكوفيزيولوجية لهذه السلوكات، وأخيرا الاهتمام بسلوك المعالجين تجاه مرضاهم وكذا الاهتمام بجهودهم تجاه برامج الوقاية والعلاج. وعلى هذا يجب أن ننظر إلى الطب السلوكي من وجهة نظر واسعة ذلك لأن بعض الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب تؤدي إلى الضغط وفي الأخير تكون كمصدر للإمراض العضوية (دليلة زناد، 2013).

كما يهتم هذا النموذج بالجانب الايجابي للارتقاء بالصِّحة، وعلى أساس تفسيراته للصحة يقدم نموذج الطب السلوكي أساليب سلوكية صحية، وأخرى وقائية وعلاجية في آن واحد. فالاسترخاء مثلاً أحد الاستخدامات في الطب والعلاج السلوكي، ويستعمل بأساليب متنوعة، ويجمع الممارسين في المجالات الصِّحية والرياضية على فائدة وأهمية الاسترخاء في الارتقاء بالصِّحة، ويمكن تلخيص فوائد الاسترخاء فيما يلي:

الجدول يبين استخدامات أساليب الاسترخاء في الطب السلوكي.

الجوانب

الفوائد

من الناحية الفيزيولوجية

عمق وبطء التنفس، تجديد واستخدام جيد للأوكسجين، خفض معدل ضربات القلب، خفض حامض اللاكتيك في الدم، تعديل الإفرازات الهرمونية في الدم، الدخول في حالة من التوازن البيولوجي.

من الناحية الجسمية

زيادة قدرة احتمال الأجهزة الحيوية ورفع مستوى دفاعات المناعة، تقليل نسبة الإصابة بأمراض القلب والاضطرابات العضلية والعظام (TMS)، تأخير ظهور التعب، خفض تأثير الأدوية على الجسم.

 

من الناحية النفسية

الشعور بالهدوء والأمان، تطوير الصِّحة العقلية والذاكرة، عدم التأثر بالضغط العصبي، زيادة التحكم في الألم، خفض التوتر والقلق، التحكم في الضواغط والقدرة على تسييرها وإدراك أفضل للقدرات.

             قدم هذا النموذج أيضا إسهامات كبيرة في ظهور النموذج البيوطبي النفسي الاجتماعي لاحقاً بل وأصبح جزء منه.

2- النموذج البيوطبي النفسي الاجتماعي (BPS):

        منذ ظهور أول نظريات في هذا النموذج (Le Modèle Biopsychosocial) لأنجل (Angel, 1980) إلى التطور الكبير الذي شهده هذا النموذج من خلال نشأة علم النفس العصبي المناعي (La psycho-neuro-endocrino-immunologie)، هناك العديد من الاقتراحات النظرية التي حاولت تقديم تفسيرات علمية للصحة والمرض، وكلها تصب حول الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها الفرد وسوابقه الجسمية وبعض الخصائص الشّخصية. تدخل هذه العوامل في تفاعل مع مجموعة من الاستجابات الموقفية التي يمكنها أن تؤثر على مختلف الأجهزة الفزيولوجية للفرد، فتنتج إخلالاً بالتوازن الانفعالي والفزيولوجي للفرد. بالنسبة لهذا النموذج فان بعض الخصائص الشّخصية (كالعدوانية، العجز والاكتئاب، والمشاعر السلبية) إذا تزامنت مع مواقف سلبية مستمرة في الزمن فإنها سوف تقوم بتنشيط لمحور الكورتيكوتروب (L’axe corticotrope)، فيزيد من مستوى إفراز هرمونات الضغط (Catécholamines, Cortisol) في الجسم محدثاً بدوره أثار رجعية على تحفيز منحدر جهاز الغدد الصماء ومختلف الوظائف العصبية-الغددية-المناعية التي تسبب هي الأخرى ردود أفعال جسمية كالالتهابات والمشكلات الحشوية-المزاجية (altérations endothéliales) كالسرعة الاستثارة والاكتئاب، وهذه التفاعلات من شانها أن تعجل الإصابة بالأورام السرطانية (عند النمط C) أو تحد من مقاومة التعفنات والالتهابات (في حضور المشاعر السلبية).

      العديد من العوامل الاجتماعية (أحداث وظروف الحياة) تتفاعل مع العوامل النفسية (الضغط الحاد، غياب الدعم الاجتماعي، الاكتئاب، العجز...) فينتج عنها فرط في النشاط الغددي والإفرازات الهرمونية وإنهاك جهاز المناعة، هذا ما يجعل الظهور أو التطور السريع لبعض الأمراض (بأنواعها) محتملاً. وقد تم تجريب هذا النموذج بطرق مختلفة على الإنسان والحيوان. (Argaman et al, 2005 ; Antoni et al, 2006 ; Lutgendrof et al, 2011 ; Thaker et al, 2008) وأسفرت النتائج على وجود مثلاً التهابات مع مشاعر سلبية تؤدي إلى مشكلات صحية مختلفة: الأمراض الوعائية القلبية، السكري نمط II، متلازمة الأيض والسمنة. وبالمقابل فان عوامل الإنقاذ (Les facteurs Salutogènes) كالتفاؤل، التحكم، المشاعر الايجابية... تحدث حالة من التحكم المدرك والاسترخاء مصحوبة بأقل قدر من الإفرازات الهرمونية المرتبطة بمحور الكورتيكوتروب (L’axe corticotrope)، مستوى متوازن من إفراز هرمونات الكاتيكولامين والكرتزول (Catécholamines et Cortisol)، عمل عضلات القلب في أحسن الظروف، ودفاعات مناعية فعالة (Schweitzer, M., et Boujut, E., 2014).

العوامل البيوطبية

  • فيروسات
  • بكتيريا
  • تورمات وتعفنات

العوامل النفسية

  • سلوكات، معتقدات
  • الضغط واستراتيجيات التعامل مع الضغط
  • الألم

العوامل الاجتماعية

  • الطبقة الاجتماعية
  • العمل
  • الثقافة

شكل يبين  النموذج البيوطبي النفسي الاجتماعي (Angel, 1977-1980).

 

     يفترض النموذج البيوطبي النفسي الاجتماعي أن ما يسبب المرض هو نظام معقد من العوامل المتداخلة فيما بينها والتي تتفاعل، وليس عامل واحد، بحيث لا يمكننا أن نتكلم عن السببية المرضية، ولا عن العلاقة الخطية بين المرض والسبب، بل يتعلق الأمر بمجموعة واسعة من المتغيرات التي تتجمع في ثلاثة مجموعات من العوامل البيولوجية (كالفيروسات) والنفسية (كالسلوكات والمعتقدات) والاجتماعية (كالعمل) (Ogden, J., 2004).

        على أساس هذا النموذج التكاملي والشمولي في تفسير الصِّحة والمرض، أضحى تكاثف الجهود بين مختلف العلوم الطبية، البيولوجية، الاقتصادية، الاجتماعية والنفسية أمراً ضروريا للوقوف على الصِّحة والتنبؤ بها ومحاولة ضبطها، ومنه ظهرت اختصاصات علمية مهمة يتكفل كل اختصاص بجانب معين من جوانب الصِّحة. ففي علم النفس ظهر علم النفس الصِّحي لدراسة سيكولوجية الصِّحة (الصِّحة من الجانب النفسي).

3- أهمية جودة الحياة عند أخصائيي الصحة:

     ان استعمال مفهوم جودة الحياة لتقييم الحالة الصحية لم يكن وليد الصدفة، وهذا لأن الوجهة العلاجية تحولت من التكفل بالاضطراب الى التكفل بالحالة، ولا يتم هذا الا بفهم الحالة وأعراضها ومختلف الجوانب المتأثرة.

       ان جودة الحياة التي يعيشها المفحوص تعتبر مؤشراً لمدى تحسن وتطور الحالة، كما نقيس بها مدى استجابة الحالة للبرنامج العلاجي وتقدمها. هذا لأن الصحة على العموم ترتبط مباشرة بنوعية الحياة وتتأثر بقوة بأحكامنا حول صحتنا الجسمية والنفسية (Revicki, D. & all, 2022) فقد أكد العديد من الباحثين  (e.g., Brief, Butcher, George et Link, 1993 ; Okun et George, 1984) على الارتباط القوي لجودة الحياة بالصحة العامة للفرد، اذ تساهم جودة الحياة في طول عمر المرضى، بحيث أن عدم الرضا عن الحياة يمكن أن يكون مؤشراً ينبئ بالوفاة لدى المرضى (Amy Love Collins & al, 2007)، وتعتبر العلوم الطبية والمختصين في المجال الصحي حالياً جودة الحياة ك مؤشر على الحالة الصحية للفرد  (M. Schweitzer et E. Boujut, 2014)  وهذا لأن دراسات عديدة تبين أن الرضا عن الحياة مرتبط مع غياب أو حضور المرض والأعراض الاعاشية (J Dischamps et L Cheneiweiss, 1999) وترتبط الأعراض مع انخفاض في الرضا عن الحياة، وتختلف استجابات المرضى والأفراد المصابين إلى الرضا عن الحياة حسب طبيعة الأعراض (ظاهرة، واضحة ومشوِّهة...)، شدتها (وجود ألم، اكتئاب، قلق...)، مدتها (مزمنة، حادة وعابرة، دورية تظهر وتختفي على فترات متقطعة...) (Matthieu Bureau, 2001).

       ان الاضطراب في حد ذاته قد يبعث إلى درجة كبيرة بالتوتر والقلق والاكتئاب والشعور بعدم الأمن والتهديد (e.g., Mehnert, Krauss, Nadler et Boyed, 1990) وتزيد حدة هذه الاضطرابات إذا تزامنت وتصاحبت مع اضطرابات اخرى (Tarquinio et al, 2011) وينقص الشعور بالأمن وترتفع بالمقابل العصابية عند المعوقين جسمياً وكذلك المصابين بمختلف الاصابات عضوية كانت أو وظيفية التي من شأنها أن تحد من وظائف الفرد المصاب، ويكون الشعور بالتهديد والنقص عن المرضى والمصابين بالاضطرابات أكثر من الأصحاء (Sarkar&Ganguli, 1982) كما ترتبط الشكاوي الجسمية والمشكلات الاجتماعية الناتجة عن عدم القدرة على القيام بالنشاطات اليومية الاعتيادية لأسباب صحية ارتباطاً سالبا جودة الحياة. وبالطبع هناك العديد من الأدلة العلمية التي أظهرت مساهمة المشاعر الايجابية والسعادة والرفاهية الذاتية في الصحة (e.g., Brief, Butcher, George et Link, 1993 ; Okun et George, 1984)، إذ أثبتت التدخلات العيادية القائمة على رفع مستوى الرفاهية الذاتية وفعالية الذات لتحسين جودة الحياة المطبقة على المصابين بداء السكري أن حياتهم تحسنت واستطاعوا في الأخير ضبط مضاعفات المرض والسيطرة على أعراضه والتعايش معه، كما تبين أن المشاعر الايجابية والرفاهية الذاتية المكتسبة من خلال نشاطات وخبرات سارة خلقت حالة من الصحة الايجابية (Weinberg, 1988)، بمعنى أن المصابين أنهم لازالوا يعانون من مرض مزمن (السكري) إلا أنهم استطاعوا أن يسيطرو على الأعراض التي تهددهم وتمكنوا من التعايش مع مرضهم وأن يتحكموا في أجزاء من صحتهم وحياتهم ويستمتعون بما تبقى لديهم من قدرات جسمية عوض التركيز على النقائص وما تم خسارته (C. Tarquinio et al, 2014). كما تبين من دراسات على عينات مصابين بارتفاع ضغط الدم بأنهم قادرون على استعادة وظائفهم الجسمية المفقودة جرَّاء جلطة دماغية (AVC) بسرعة إذا كانوا متفائلين ومعتقدين في إمكانياتهم على استرجاع تلك الوظائف ويعيشون حالة من التقبل والتمسك بالحياة (C. Tarquinio et all, 2011). هذه الدراسات وان كانت على عينات مرضية، فإنها تبين ذلك الارتباط الكبير والمتداخل الذي يجمع بين كل من الصحة الجسمية وذلك الشعور بالرفاهية الذاتية، مما جعل منظمة الصحة العلمية تستدل بها للتعبير عن الحالة الوظيفية للفرد وبالتالي يمكن تقدير حالة الصحة العامة للفرد من خلال الرفاهية الذاتية مثلما يدركها الفرد ويشعر بها (بورجي شاكر أ، 2016).

خلاصة:

      تعتبر الصحة جانب مهم من جوانب حياة الفرد والمجتمع، ولعل اهتمام سياسات الدول المتقدمة التي تضع الصحة في قائمة أولوياتها تعكس هذه الأهمية، وبلوغ الإنسان أعلى مستوى من الصحة وتعزيزها هو هدف ليس فردي فحسب بل هدفاً اجتماعياً ومطلباً أساسياً لتحقيق التنمية وتحسين نوعية الحياة. فالصحة هي تلك الحالة من التوازن الدائم نسبيا بين وظائف الجسم الناتج عن تكيف الجسم واتصاله مع العوامل البيئية التي تحيط بالجسم، ولا تقتصر أيضا على مجرد انعدام المرض أو العجز، بل هي كما تعرفها منظمة الصحة العالمية (OMS) حالة من الرفاهية النفسية والجسمية والاجتماعية. ومن هنا يتضح أن كل من الرفاهية النفسية والجسمية والاجتماعية على ارتباط.