الأشكال التّراثيّة الفرجويّة في المسرح المغاربيّ

 د. نهاد مسعي

ملخّص البحث : تُعدُّ أشكال الفرجة الشّعبيّة سواء كانت عروضًا تمثيلية مباشرة (المدّاح ،القوّال ) أو عروضًا تمثيليّة غير مباشرة (خيال الظّل ، القراقوز) مصادر إخراجية شعبيّة موروثة داخل المسرح المغاربي ، يلجأ إليها المخرجون من أجل خلق شكل تراثيّ شعبيّ بتوظيف لمسات فنّيّة ذات بعد إفهامي بالنّسبة للمتلقي من خلال أيقنة اللّغة الرّكحيّة وحملها على القيام بوظيفة إشاريّة رمزيّة تُجسِّد حالة معيّنة أو فكرة سياسّية أو دينيّة أو أخلاقيّة وبنينة جديدة للتّراث الشّعبيّ الأدبيّ والفنيّ ، وإعادة النّظر إلى مفهوم الفرجة فلا غرابة أن يكون المسرح المغاربيّ من أوائل المسارح التي سارعت إلى اعتماد الطّقوس الاحتفاليّة في عملية التّأصيل.

الكلمات المفتاحية: المسرح المغاربي؛ الأشكال؛ التراث؛ الحلقة؛ القوال؛ الفرجة.

تمهيد: عرفت دول المغرب العربي مثل باقي الأقطار العربيّة فنون الفرجة مبكّرًا، حيث عُدَّت الأشكال الفرجويّة المتداولة بمثابة الارهاصات الأولى للمسرحيّة المغاربيّة، كما اكتشفوا العرض المسرحيّ من خلال تلك الفرق الزّائرة حيث اعتمدوا الطّقوس الاحتفالية واستثمار مخزون التّراث الشعبيّ الذي يرتكز على سرد الحكايات والنّوادر كما سعوا إلى توظيفها في مسرحيّاتهم اعتمادًا على الشّكل الفرجويّ البساط والمدّاح والقوّال والقراقوز والحلقة كآليات شعبيّة تجمّعت لتضيف رونقًا وتعطي أبعادًا جماليةً.

أشكال المسرح المغاربي:

1-الحلقة:

تُعدُّ الحلقة شكلًا  من أشكال التّعبير الشّعبيّ وتراثًا فنّيًّا شعبيًّا مغربيًّا ، تدخل ضمن الأشكال التّمثيليّة ؛ هي ” شكل فرجويّ شعبيّ يتوفّر على عناصر مسرحيّة مختلفة منها الغناء والرّقص والحركة والحكاية والمؤثّرات الصّوتيّة الأخرى، فهي أقدم الفنون  الفرجويّة بحيث لازالت راسخة في وجدان جمهور المغرب العربيّ بفضائها اللّعبوي الذي يؤثّثه الحلايقي وفق أسلوب عمله ،من حيث القصّ وتشخيص السّير الشّعبيّة وتقطيعها إلى مراحل وحقب بكلمات وحركات تجعله يعيش من ذاته بطريقة تختلط فيها العجائب بالواقع بحيث يظلّ مفتوحا على شكله الدّائري وفرجاته القائمة على السّرد وبلاغة الجسد والموسيقى”[1] وهي لذلك  أقدم الأشكال المسرحيّة الطقسيّة الاحتفاليّة  التي مارسها المغاربة .

وقد حملت الحلقة تسميّات عديدة منها (المسرح الشّامل) الذي تتظافر فنون عديدة في بلورته ، لذلك  وصف بالشّامل مادام يشمل تلك الفنون المتعدّدة ، كما يطلق عليه (المسرح الدّائري )؛ وهو المسرح الذي يكون فيه العرض المسرحي على شكل دائرة ، ولأنّها كذلك فهي تغدو مكانًا سحريًّا تتكاثر فيه الفرجات مع أكبر قدر من حرّية الانجاز، وهي حرّيّة أتاحت للمسرحيين تبنّي هذا المسرح الدّائري لأنّه يتيح لهم امكانات عديدة من التّعبير لا يسمح بها على الطّريقة الايطالية[2]..ما منح المتفرّج امكانات أوسع في مشاهدة العرض الحلقويّ من زوايا مختلفة. وهي بمثابة تمسرح في شكله البدائيّ الما قبلي بطابعها الدّينيّ والشّعائريّ الذي ساد المجتمعات التّقليديّة المحافظة فتحوّلت من ممارسات تعبّديّة إلى فرجة شعبيّة لها مقوّماتها الفنّيّة والجماليّة التي تقوم على العفويّة والانفعال المباشر في الاتّصال والمشاركة مع المتلقي.

يتضمّن فضاء الحلقة “نصًّا شفهيًا تُعاد كتابته باستمرار بتأثير المحو ومن خلال الانتقال المعبّر من الحكايات الشّعبيّة والملفوظات القصصيّة إلى الرّقص الطّقوسيّ والبانتوميم المسرحيّ والارتجال[3]، كما تعتمد على الأساطير والحكايات الخرافيّة التي يستدعيها الرّاوي لإثارة الدّهشة والمتعة لدى المتفرجين من خلال الأسلوب الارتجالي في التّمثيل والحوار، فجاءت تسميتها “نظرًا للشّكل السّينوغرافي للعرض الذي يكون بحسب تجمّع المستمعين المتفرجين، وهو إمّا أن يكون حلقيّا أو يشبه حذوة حصان”[4]

نمثّل لذلك بالشّكل الآتي:

وفق هذا السّياق يعرّفها عبد القادر علولة بقوله: “في كلّ يوم من أيام الأسبوع تقوم في بلادنا السّوق الأسبوعيّة أين تلتقي جموع النّاس لقضاء حاجاتهم في هذه الأسواق كانت تقام حلقات على شكل دائريّ، تروى فيها قصص الأبطال وسيرهم ،فكان لهذه الحكايات صدى كبير وأهميّة بالغة لدى الجماهير فهي عالم يرتكز على الذّاكرة الشّعبيّة وخيال الابداع في القول والفعل والحركة و يعتمد على الفرجة والمتعة ، تختلط فيه الحقيقة بالخيال ، الجدّ بالهزل ، فالحلقة عالم يلتقي فيه النّاس بماضيهم وتقاليدهم وهي بكلّ بساطة ظاهرة ثقافيّة شعبيّة”[5]

لأجل ذلك فالسّاحات الشّعبيّة والأسواق وضواحي  المدن هي الأماكن المفضّلة لهذا النّوع من الفرجة لانفتاحها على جميع الشّرائح الاجتماعيّة بمختلف مستوياتها الثّقافيّة، أين يلتفّ المتفرّجون في شكل دائرة في جوّ من البهجة والمتعة والانبهار ، حيث “يشترك الرّاوي والمتفرّج بصفة ديناميّة وجدليّة في ترتيب العرض ويقوم المدّاح دائما أثناء أدائه للسرد في الأحداث تارة وبالخروج منها تارة أخرى بأداء جسدي مركّب يصل في بعض الحالات إلى درجة عالية من التّجريد فبلمسات صغيرة يعطي الرّاوي حياة للشّخوص المشاركة في الحبكة بعض المرات كان المدّاح بجملتين  صغيرتين أو ثلاث يركّب الشّخصية الرّئيسيّة والشّخصيات الثّانويّة والحاكي والرّاوي دفعة واحدة ،وفي غالب الأحيان يكون المدّاح شاعر ومؤلّف النّص الدّرامي الذي يقوله ، فهو مركز الحلقة :الرّاوي، الممثّل، المغني، يمسرح الكلمة وينقش العرض بمختلف أجناس القول: التّلميح ،الاشارة ،التّصريح، التّضخيم بهدف اثراء الخيال  المبدع للجمهور”[6]  معنى ذلك أنّ ما يمنحها الطّابع الفرجويّ هو ذاك الرّصيد الكبير من الحكايات والأساطير العجيبة التي تجلب المارّة إليها حيث يغلب طابع الارتجال في الأداء والحوار وهي من هذا الجانب نمط طقوسي احتفالي شعبي وكرنفالي، تقع في شكل دائرة مغلقة  يتوسّطها الحلايقي الذي يكون  عادةً مختصّ في فنّ الحكاية والايماءة والارتجال والألعاب البهلوانية وارتجال الشّعر والنّكت كما  يتميّز بقدرة فائقة على الحكي وسرد القصص والأساطير والسّير التي ترسّبت في ذاكرته  وتقدّم للجمهور المتحلّقين حول الشّكل الهندسي الدّائريّ:

لأجل ذلك لازالت راسخة في وجدان جمهور المغرب العربيّ بفضائها اللّعبويّ الذي يؤثّثه الحلايقي وفق أسلوب عمله من حيث القصّ وتشخيص السّير الشّعبيّة وتقطيعها إلى مراحل وحقب بكلمات وحركات بطريقة تختلط فيها العجائب بالواقع .وبالتّالي ، تستند الحلقة إلى قاعدة التّفاعل العام بين : القاصّ ،الفضاء، الحكاية والمتفرّج ، وهي ذاتها القواعد التي يستند عليها المسرح الملحمي البريختي من جانب حضور مظاهر المحاكاة ،حيث تنفرد الحلقة بخاصية قلّما نجدها أو نصادفها في المسرح الكلاسيكي، لكنّها ظهرت بقوة من نظريات التّغريب[7].

من هنا أخذ شكل الحلقة التّقليدي وأدخل عليه عناصر جديدة أعطت للحلقة قيمتين جديدتين : فكريّة وجماليّة، وبعدًا شعبيًّا قريبًا من احساس المتلقي  وجدير بالذّكر أنّ شكلها المترتّب عن نشاط المدّاح أو القوّال “فرض استخدام مسرح اللّعبة بديلًا ل : مسرح العلبة ، أي المسرح الأوربي المعروف بمسرح الطّريقة الايطالية الذي ورث تقاليده عن المسرح اليوناني بقواعده الأرسطية والموسوم بكون العرض فيه يجري داخل علبة / الخشبة بجدرانها الأربعة ، ثلاثة منها حقيقية والرّابع حائط وهمي ، وإذا كان مسرح العلبة يقوم على تفعيل عنصر الايهام فإنّ مسرح اللّعبة يقوم على تكسير الايهام من خلال تحطيم هذا الجدار الفاصل بين الممثلين وبين المتفرّجين المتحلقين المشاركين في تأسيس اللّعبة المسرحيّة وتفعيلها”[8]

أصبحت الحلقة بالتّالي، شكلًا تجريبيًّا استطاع “احداث انقلاب جذري ابتداء من التّمثيل والنّص والاخراج والمعمار المسرحي والمؤسّسة ، فقد كان لفعل التّمثيل وهو أساس الظّاهرة المسرحيّة أن يراجع وذلك حتى يمكن أن يبني على أسس  جيّدة أسس تستجيب للرّؤية الاحتفاليّة والمنظور الاحتفالي”[9].أي إعادة الاعتبار والقدسيّة للاحتفاليّة الأكثر حضورًا في الذّاكرة- التي وجد فيها روادها مدخلاً إلى ميدان التّجريب بحثًا عن شكل مسرحي أصيل نابع من صميم الواقع الثّقافي العربي ويستمدّ تقنيّاته وآليات اشتغاله من الأشكال الشّعبيّة[10].

1-1-مسرحة الحلقة:

 تعتبر الحلقة مسرحا شعبيّا دائريّا يقدّم فرجاته من كان مختصّا في فنّ الحكاية والايماء يكتسي أهميته في كونه مظهرا من مظاهر التّمسرح الموجود في ثقافتنا وهو ما نسمّيه بالتّمسرح العفوي(  théâtralité spontanée )وفي كونه أثار انتباه الدّراميين  المغاربة إلى تراثهم الشّعبيّ وتوظيفه على مستوى النّص أو العرض- بتعبير حسن يوسفي-، ومن الواضح أنّها ترتكز باعتبارها تجربة جمالية في تقديم فرجاتها على جملة من الوسائل، هي:

-تقسيم أجزاء الحكاية والتّركيب بينها واستبدال التّطوّر العضوي بالتّطوّر عبر القفزات الذي يقطع الحدث ويجزؤوه ويجعله غريبا ومدهشا.

-استعمال الأغاني الأشعار والموسيقى وما يتضمّنه هذا الاستعمال من انتقال من مستوى جمالي إلى آخر ينبذ النّثر لصالح الشّعر ويتجاوز الالقاء لصالح الموسيقى،.

-تقسيم الجهاز السينوغرافي إلى قطع متحركة تنتج أشكالا تركيبية مختلفة لا توهم بواقعيتها لأنّها بسيطة وفقيرة، تعلن تمسرحها وتكشف عن تمسرح الفضاء المسرحي وفراغه.

-تحقيق جدليّة الفارغ والممتلئ بما هي تكسير لاندماج وتغريب له في كلّ مستويات العمل المسرحي.

وقد عرف المسرح الجزائريّ هذا الشّكل من المسرح في مرحلته الأولى التي سبقت نُشوءه في الأماكن الشّعبية والأسواق والسّاحات العامة ،حيث يكون الممثّل أو الممثّلين ضمن حلقة من المتفرّجين ،يتقمّص من خلالها العديد من الشّخصيات ويستعمل الحكي كما يوظّف التّراث الشّعبي وقد كافحته السّلطات الاستعمارية لعلمها بمدى خطورته في تمرير الأفكار المناهضة لوجودها في الأوساط الشّعبيّة ،لذلك كانت مثار اهتمام الكثير من المسرحيين المغاربة منهم: كاكي وعبد القادر علولة  (المائدة)،الطيب الصديقي (سيدي عبد الرحمن المجذوب)وعبد القادر البدوي (الحلقة فيها وفيها )وأحمد الطيب العلج(القاضي في الحلقة )و(الأرض والذئاب  ).  أصبحت بعد الاستقلال شكلًا واقعًا مع ولد عبد الرحمن كاكي وعبد القادر علولة الذي واصل البحث لتطويرها، حيث يقول  “عندما نتكلّم عن الحلقة والقوّال فإنّنا نتكلّم عن البنية المسرحية ومكوّناتها التّقليدية ، فلم يكن لقاؤنا مع التّراث عام 1972 بل قبله ولكن تجربة مسرحية المائدة التي قدّمت هذا العام نبّهتنا إلى وجود ثقافة شعبية تتعامل مع تراثها وتتطلّب بنيات مسرحية أخرى”[11]

2-خيال الظل (shadow Theater) و (théâtre d’ombre):

إنّ خيال الظّل[12] لون من  فنون المسرح التّمثيليّ الشّعبيّ وشكل من أشكال الفرجة  له طابع درامي، اندمج قديمًا في ضمير الشّعب وحياته التّعبيريّة حتى اكتسب دلالةً خاصّةً ، وارتقى بمخيّلة الانسان الشّعبيّ إلى مصاف مضاهاة الأشكال الفنّيّة ،هو “فنّ مسرحيّ متكامل إلى ما يقوم على اخراج قصّة ذات حبكة وشخصيات فيقدّمها بالتّمثيل من خلال الشّخوص والحوار والفعل ، بدلا من سردها سردا ، وما يختلف به عن المسرح البشري هو اعتماده الدّمى بدلًا من البشر أساسًا في التّمثيل وهي شخوص مسطّحة تصنع من ورق وتتَّخذ أشكالًا مختلفة ويجري عرض المسرحيّة وراء ستار أبيض خلال تحريك الممثّلين الدّمى بالأيدي”[13]، عرف هذا الفنّ بعدة أسماء أهمها : خيال الظّل ، ظلّ المسرح ، طيف الخيال ، شخوص الخيال ، خيال السّتار ، دمى الخيال وذي الخيال أو السيليويت المتحرّك عبر الخيط أو العصا مع الرّاوي وغيرها .

  حيث كان خيال الظّل مصدرًا ضوئيًّا ، يُحرّك اللّاعبون الشّخوصَ بأعواد دقيقة من الخشب لتسقط ظلالها السّوداء على ستار أبيض ، يجلس أمامه  المشاهدون حيث يقوم اللّاعبون بأداء أدوارهم لذلك تقوم عروض خيال الظّل على تتبّع حركات الخيال وربطها مع النّص المقدَّم الذي يضمُّ مقوّمات وخامات درامية تزيد من ابهار الجمهور بالعمل وانشادهم نحو مواضيعه لإبعاد الملل الذي قد يصيبهم فكان لابد من ادخال عنصر التّشويق والاسترسال في السّرد المسرحيّ لوصف الأطر التي تحدث فيها الأفعال الحكائية ما جعله مجالا جوهريا لتحقيق الفرجة والتّسلية والمتعة ويفتح مساحات أوسع للتّأويل وتفسير المعنى الظّلي الكامن في بنية سمعيّة بصريّة رصينة، فشخوصه رموز قد توجد في الواقع أو في خيال المتلقي ، وقد يحدث أن تظهر شخصية ظلّيّة تمسّ وجدانهم وهنا تتحوّل العروس إلى رمز جمعيّ.

   إذ يهدف تقديم القيمة الجماليّة والفكريّة ، خلال التّسلية والضّحك والسّخرية حيث “تتوافر فيه الشّروط الأربعة: النّص ،الخشبة ،الممثّل ،المتفرّج ، إذ لابد للبابا من نصّ سواء كان شفاهيًا مرتجلاً متّفق عليه أم كان مدوّنًا ، كما لابد من مكان خاصّ لتقديم العرض بكل ما يحويه من آليات الاضاءة وقطعة القماش البيضاء ، وبعض ملامح الدّيكور البسيط ، وهو ما يماهي مفهوم الخشبة في المسرح الحديث ، أمّا شرط الممثّل / المتفرّج / فحضورهما في خيال الظّل أمر بديهي فالدّمى تؤدّي وظيفة الممثّل أمّا المتفرّج فهو جمهور الخيال “[14] الذي كان يجلس في المقاهي أو النّوادي التّقليدية أو السّاحات العامة أو الخيم وغيرها ، ويشارك في الحكم بعد أن اتّخذ موقفًا ممّا يدور أمامه في الّلعبة والحفلات المسرحيّة ، كما يؤكّد ذلك السعيد الورقي بقوله :”إنّ كسر الايهام ومشاركة المتلقي والتّغريب بمفهومه البريختي أمور مألوفة في الأشكال الشّعبية  في المسرح العربي ، ومنها خيال الظّل الذي كان حريصا على وجود مسافة بين الممثّل والمتفرّج، تلغي الايهام بواقعية ما يحدث على خشبة المسرح “[15]

    فتكون لعناصر العرض دلالات نفسيّة تتمثّل في كونها قوة دافعة للتّحرّر من عبودية الارادة باتّجاه تكامل الذّات وذلك من خلال ممارسة هذا الفنّ وعبر الحدس يدركها المشاهد لأنّ الظّل هو قمع لحضور الجسد بالكامل ولا يلتقي بالجمهور بشكل مباشر فلا يعرف الطّرفان ملامح الآخر أو شخصيته في العرض الظّلي[16]. ولكن تتأصّل الحقيقة في البنى العلائقية التي تجمعها لتؤسّس العمل الجمالي: العلبة المغلقة، تقنية الأداء، وضعية الجسد ، المنظر والديكور الوهمي ، الاكسسوارات ، المؤثر الموسيقي المصاحب ، الأزياء ـ الضوء، اللون ، الايقاع.

لاقى هذا الشّكل التّعبيري قبولًا من الجمهور المغاربي ،تقول أرليت روث في كتابها المسرح الجزائري النّاطق بالعامية “أنّ بعض الباحثين شاهد خيال الظّل في الجزائر عام 1835، كما ذكر بوكلير موسكو أنّ هذا النّوع من التّمثيل قد منع بقرار من الادارة الفرنسية بعد الاحتلال الأجنبي للجزائر لأسباب سياسية وكان ذلك عام 1843”[17]، كذلك ظلّت تونس وفيّة للأشكال ما قبل المسرحية التّراثية وبقيت لتلك التّقاليد آثار غير قليلة تتجلّى في الرّقص البربري والرّقص البدوي ، كما تتجلّى هذه الآثار في الاستعداد الذي ظلّ عند  المغاربة  للعمل المسرحي وقد جعلهم يقتبسون خيال الظّل لاسيما في تونس والجزائر لما كان لهما من علاقة مع الدولة العثمانية[18]. وعمومًا فإنّ فنون الأراجوز وخيال الظّل والدّمى تتداخل بحيث يصعب ايجاد فروق واضحة بينها؛ ففي الأراجوز يظهر جسم الدّمية ولا يكون الظّلّ هو وسيط العرض بخلاف ما في خيال الظّلّ.  وعلى هذا الأساس فإنّ الموضوعات التي تطرّق إليها هذا الفنّ الشّعبي كانت منتقاة من الحياة الشّعبية وخرافاتها وحكاياتها، وإمّا من التّراث الشّعبي العربي كقصص ألف ليلة وليلة أو كليلة ودمنة، أو بعض النّوادر التي دوّنت في بعض المصادر العربية ككتاب البخلاء للجاحظ وغيرها[19].

3- القراقوز:

يعدّ فنّ القراقوز أقدم الأشكال التّراثية وأكثرها تأثيرًا ، هو أحد أشكال العرائس أو ما يسمّى بالدّمى المتحرّكة “لا يعرف بالتّحديد متى بدأ فنّ القراقوز ويقال أنّه في العصر الفرعوني وهي كلمة مصرية قديمة تعني (أرجويوس) معناها فعل الكلام ومنها اشتقت كلمة (أراجوز) ويقال أيضا إنّه اسم يعود إلى العصر العثماني حيث سمي ب( الأرا  أوز)”[20] ويقول البعض أنّها “ذات أصل تركي لكلمة( قره  قوز) المتكوّنة من مقطعين هما( قره )بمعنى سوداء و( قوز) بمعنى عين ، وبذلك يصبح المعنى العام للكلمة ذو العين السوداء وذلك للدّلالة على سوداوية النّظر للحياة”،على ذلك يقوم القراقوز على الشّكوى من الحياة ومنحها مفاجآتها وتقلّباتها ونقد أحوالها.   تعرّفه زينب محمد عبد المنعم بأنّه “شخصيّة من أبطال مسرح العرائس ، تتّخذ مكانها في خيال الظّل ، ولم تحدّد المراجع العلمية تاريخًا محدّدًا لظهور هذه الشّخصيّة الكوميديّة الشّعبيّة ومثلما اشتهرت هذه الشّخصية في المسرح العربي نعثر على أصلها في مسارح أخرى حيث نجدها في أروبا في شخصية الأحدب في كوميديا الفن الايطالية وبوليشينل (  polichinelle ) في المسرح العرائسي الفرنسي وبونس (  punch  )في المسرح الانجليزي وباتروشكا (  petrusa  )في روسيا وكاسبر في المسرح التشيكي”[21] ويعلّق كمال الدين حسين بقوله:” ومن العرائس التي عرفتها مصر وشعبها خيال الظّل والأراجوز اللّذان أمتعا الشّعب المصري قرونًا من الزّمن ،سواء عن طريق أشكالها أو عن طريق تلك المضامين شبه الدّراميّة التي حملت الكثير من النّقد الاجتماعي لعدد من القضايا الاجتماعية والسّياسية لدرجة أنّ بعض الحكومات قد أمرت بإغلاق مسرح خيال الظّل بدعوة خروجه عن الآداب العامّة”[22]،فقد كان لهذا المسرح الانتقادي تأثير كبير في نفوس العامّة ، ممّا جعله تنفيسًا عن المكبوتات التي  يعيشها المجتمع من جهة أخرى.

لقد كان اللّاعب في الأراجوز يقوم بتحريك الشّخصيات واعطائها كريزمة خاصة مميّزة لكلّ شخصيّة وأدوارا متفرّقة معتمدة كلّ الاعتماد على الحركة والقفز والرّقص حينا كما يجعلها تتحادث وتتصارع وتقوم بحركة متمايلة وملتوية ، ما يوقظ في نفس المشاهد خيالات جذّابة ورغبات دفينة لتحقيق فرجة شعبيّة متميّزة وعادة ما يقدّم الابداعات الاستعراضيّة في الحارات والشّوارع والسّاحات العامّة المفتوحة غالبا تعبّر عن قضيّة ما بدمى مختلفة تعلو ستارا من قماش سميك يحجب الّلاعبين ، وهذه الدّمى تظهر بوضوح للعيان ولا تحتاج إضاءةً خاصّةً أو إظلامًا ،يتحكّم لاعب الأراجوز في رأس الدّمية بأصبع السّبابة ويحرّك يديها بإصبعي الوسطى والابهام، ولم تتطوّر تلك الدّمية في العصر الحديث سوى في استبدال الأجزاء الخشبيّة بأجزاء من البلاستيك /، كما لا تخلو هذه العروض من الموسيقى والغناء فاستخدامها يأتي في بعض الأحيان كفواصل بين الفقرات التّمثيلية وقد تدخل في الحدث ذاته[23].

بهذه الطريقة يُوجِّه الخطاب بلغة عاميّة مهذّبة إلى الجمهور بل ينصهر في ضمير الشّعب وحياته التّعبيريّة اليوميّة ، إذ ينحو مسرح القراقوز إلى نص غالبًا ما يكون مرتجلًا أو نصًّا محفوظًا معتمدًا على الموروث العربيّ القديم و على التّراث الشّعبيّ الدّارج ، يتصرّف الّلاعب وقت الحاجة بالإضافة والحذف حسب المقام والظّرف الذي تقدّم فيه المسرحيّة.

يعدّ  القراقوز من الألوان التّمثيليّة إلى جانب خيال الظّل التي عرفها العالم العربي بشكل عام و إذا كان هذا النّوع من المسرح الشّعبي قد عرفته بعض أقاليم المشرق العربي كمصر والشّام في وقت مبكّر ، يرجع إلى القرن العاشر الميلادي، حيث تطوّر وازدهر وأصبحت له نصوص مدونة ،فإن شهادات بعض الرّحالة الاوروبيين تذكر لنا أنّهم رأوا عروضًا للقراقوز في المغرب العربيّ بشكل عامّ والجزائر بشكل خاصّ ، حيث اكتسب شهرةً واسعةً وأهميّةً قصوى في البلاد العربيّة العامّة وفي الجزائر التي عرفت فنونًا فرجويّةً شعبيّةً انتشرت في ظلّ الحكم العثمانيّ واستطاعت أن تؤسّس لنفسها موقعًا مهمًّا ضمن أشكال الثّقافة ، فنسجوا على منواله وقاموا بتقليده في محاكاة فعليّة له. يعتمد مسرح القراقوز على أسلوب ساخر جذاب لم يكن بمجرد المتعة والتّسلية بل كان يعبّر عن وعي الشّعب وانتمائه الفكريّ والحضاريّ العربيّ والاسلاميّ، يهدف إلى بلورة الوعي الوطنيّ وانتقاد الادارة الفرنسية، ما جعل السّلطات الفرنسيّة تتسارع إلى إصدار قرار يمنع مسرح الظّل ومسرح القراقوز سنة 1843 من المقاهي والنّوادي والسّاحات العامّة لما فيه من إساءة لفرنسا وسياستها[24]. لأنّه كان “مسرحًا انتقاديًّا اجتماعيًّا سياسيًّا معاصرًا بكلّ معنى الكلمة، وكان له تأثير كبير على نفوس العامّة، فقد كان يستمدُّ موضوعاته من الأوضاع المحليّة ومواكبة الأحداث اليوميّة المعيشة، ممّا جعله متنفّسًا للتّعبير عن كره النّاس للظّلم ومعارضة النّظام”[25]

    4- مسرح البساط:

عرف هذا الفنّ الفرجوي منذ زمن بعيد؛ يعود تاريخه إلى القرن 18،حيث قدّمت أولى حفلاته بالمغرب أمام السّلطان محمد بن عبد الله 1757-1790،ونظرا لأهميّة هذه التّظاهرة التّرفيهية فإنّ الملوك  كانوا يحيطون المبسطين بحفاوة كبرى ؛إذ يعدُّ المبسّطون عدّتهم في عيد الأضحى أو في عاشوراء عن طريق تبرّع الأصدقاء ما يسمح بإقامة الحفل ثمّ يتّجهون نحو القصر وتلحق بهم مواكب الرّجال والمجموعات الفولكلورية وعند وصولهم القصر تأخذ كلّ مجموعة المكان المخصّص لها حيث يقدّم البعض مسلياتهم وتمثيلاتهم المستمدّة من التّقاليد المغربيّة ، ويقوم البعض بتأدية الرّقصات والأغاني المميّزة وفي النّهاية يكرّرون الصّلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم ويتوجّهون بالدّعاء للملك[26]. تحيل كل شخصية إلى جملة الوظائف المنوطة بها:

يلاحظ أنّ البساط يستعمل مجموعة من العناصر المسرحيّة التي يعتمدها المسرح كفنّ بذاته، ورغم عفويته إلّا أنّه استطاع استيعاب المواقف الاجتماعيّة نقدًا وسخريةً بعد أن يُغلِّفها بالرّمزيّة والايحائيّة ،ـإذ كان الممثّلون يقدّمون اسكتتشات يمثّلون فيها شكواهم في قالب مسلّ أمام الملك الذي يدرك مآسي أصحابها الخفيّة فيبحث عنها ويمكّنهم من حقوقهم[27]، لذلك عُدَّ مسرحًا انتقاديًّا إلى جوار تسليته؛ تعرض فيه تمثيلات ساخرة تتعرّض لانتقاد ممثلي السّلطة وتذمّر الشّعب من سلوكاتهم وقد عمد الطيب الصديقي إلى توظيف فنون البساط والأهازيج الشّعبية والنّقلات الكاريكاتورية والحكم والألعاب البهلوانية.

من المسرحيات التي وظّف فيها الطيب الصديقي البساط مسرحيّة (الفيل والسّراويل) وهي عبارة عن بساط ترفيهيّ استطاع فيه توظيف الشّكل المسرحيّ وتجسيده في عمله المسرحيّ كذلك مسرحيّة (عطيل والخيل والبارود) لعبد الكريم برشيد وظّف فيها الكاتب البساط والممثّل في شخصية البوهو حيث سعى من خلالها استنطاق الشّكل الفرجويّ واهتمّ بتجسيد مشاركة جماعية والغاء حدود الزّمان والمكان والاهتمام باللّحظة وهو ما تبلور فعلًا في أغلب مسرحيّاته التي نحت منحًا احتفاليًّا أراد من خلاله التّأصيل للمسرح المغربيّ[28].

5- القوّال: 

القوّال شخصيّة شعبيّة تعتمد أساسًا على فاعلية القول، هو” حامل الّتراث الشّفهيّ بكامله فهو يؤلّف ويغنّي ويروي الحكايات والأساطير المتداولة”[29].لذلك عُدَّ الرّابطة الأساسية في التّواصل مع الجمهور من خلال الكلمة التي تجلب انتباه المتفرّجين وتدعوهم إلى تخيّل فردي ومستقلّ لوقائع ما هو بصدد سرده[30].

لم يأخذ مكانه البارز إلّا في العصر الحديث ، فقد جرت العادة أن يروي الحكايات الشّعبيّة والمغامرات ويقصّ سير الأبطال التي يحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب عن أبطال تاريخيين مشهورين أو أولياء صالحين أو ما شابههم :من شخصيات الحكايات الشّعبيّة وأن يكون قادرًا على الغناء والرّقص ، بارعًا في التّشخيص والايماء وغيرها من الصّفات التي تجعله يراهن على “امكانات خياله وقدراته على الأداء الدّرامي، فيتقمّص شخوص القصّة ليخلق مشاهد دراميّة منسجمة مستخدمًا الحركة والحوار بالإضافة إلى كونه راوية ومعلّقًا على أحداث القصّة معتمدًا في ذلك على السّرد الذي يتضمّن حتمًا التّشخيص”[31]   “معتمدًا أساسًا على ذاكرته القويّة وعلى خياله  الخصب وقدرته الارتجال والتّلوين في طبقات الصّوت ومستعينًا بربابة يغني على أنغامها أشعاره أو طبلة ينقر عليها ليحدث التّأثير الذي يرغب في إحداثه لدى الجمهور السّامع أو المتفرّج “[32]ما يتيح له عرض قضيّته في أحسن صورة ممكنة. وفي هذا السّياق، يميّز عبد الحميد بورايو[33] بين ثلاث فئات من محترفي الرّواية الشّعبيّة في الجزائر نوجزها ب:

كما تأخذ هذه الشّخصية أسماء مختلفة حيث يعرف في تركيا باسم (الحكواتي/ المكلا )وفي العراق (المحدّث) وفي ايران (التّقليدجي /النّقال) وعند سكان افريقيا الغربية (هريوت )وفي عهد الخلافة العباسيّة (السماجة) نسبة إلى اسم الممثّل الذي أبدع هذا الفنّ الشّعبيّ وعلى سواحل الاطلسي (ايميادزين) وما تجمعهم رغم اختلاف التّسمية مهنة التّمثيل[34].

6- المدّاح:

شخصيّة تاريخيّة عريقة، ارتبط وجودها بمفهوم المديح ؛ فالمدّاحون هم حكواتيّة يتفرّغون للمديح ، مادتهم التي يلقونها كلّها في مديح الأنبياء والأولياء والتّحدث بمآثرهم ومناقبهم وفي العادة يفتتحون قصصهم  ويختمونها بمدح النّبي صلّى الله عليه وسلّم[35].ليتطوّر لاحقًا ويتحوّل إلى قاصّ يقدّم حكاياته في الأسواق الشّعبيّة فيلتفّ حوله جماعة من المتفرّجين يصغون إلى حكايته بلهفة ومتعة لا نظير لها ،بل تأخذ المتعة بالمتفرّج لأن يحرّك أطرافه كلّما حرّك المدّاح أحد أعضاء جسده حتى يعتقد المشاهد إليهم أنّهم جميعًا مشتركون في العرض وليسوا فقط مجرّد متفرّجين ومستهلكين[36]. وهذا التّفاعل الذي حقّق الفرجة المسرحيّة المنشودة وليد التّأثير الدّرامي الذي تحدثه القصص والسّير الشّعبيّة في المتلقي. يرى عبد الحميد بورايو أنّ تسميّة المدّاح تستخدم في الجزائر للدّلالة على فئة من مؤدّي المأثورات الشّعبيّة في الأماكن  العامّة والمناسبات الدّوريّة ، حيث كانت رواية الأقوال الشّعبيّة مجّرد هواية لدى بعض الرّواة ثمّ غدت عملاً احترافيًا يقوم به أشخاص لهم مواصفات محدّدة ، يقدّمون عروضهم لجمهور مخصوص وفق اجراءات وطقوس معيّنة وفي مناسبات مبيّنة بمراعاة الزّمان والمكان[37].حيث يفسح للمدّاح المجال على شكل دائرة تكفي لأدائه الحركي والتّمثيلي وحين يتحلّق حوله الحضور يتّخذ مركز الحلقة واقفًا أو مقرفصًا وقد يرافقه في عرضه مساعد أو اثنان يتبادلون الرّواية والعزف وانشاد المغازي.

وقد يضيف على ذلك فيستشهد ويعلق مستعينًا بما أوتي من مواهب في التّعبير بالكلمات والحركات، مستثمرًا كلّ ما يحمله من مهارات خياله الابداعيّ وقدرته على الأداء الدّراميّ، وهو في تقمّصه لشخوص القصّة يخلق مشاهد مسرحيّة يقوم فيها بدورين أو أكثر، مستخدمًا الحركة والحوار والعزف تعامل مساعد على تصعيد توتّر المواقف الدّرامية وتصوير  المشاهد القصصيّة  والايحاء بالأجواء الدّاخلية والخارجية التي يعيش فيها الشّخوص[38].

إزاء ذلك ، يحاول المدّاح -في مسرح الحلقة- نقل جمهوره إلى زمن القصّة ومحاولة تبصيرهم لا بما حدث من خلال كشف الواقع مستعينًا بالأقنعة ،إذ إنّ الممثّل هو المقلّد والمصوّر الميكانيكي المباشر للفعل المسرحي، بل أصبح بإمكانه أن يتكلّم عن شيء ويصوّر شيئا آخر[39]حتى تندمج الشّخصيّة في الممثّل المسرحي وفي واقعه الرّاهن. فالمدّاح عند علولة هو الشّخص الذي يشعر أنّه قام بما يجب عليه فهو يعلّق على الأحداث فوق خشبة المسرح من أجل إضفاء أبعاد جمالية عن المسرحيّة، حيث تختلف نبرات التّعبير ، إذ يعبّر مرّة عن رأي الجمهور ومرّة أخرى ، يتحدّث عن المؤلّف فقول المدّاح ينطوي على أحداث سياسيّة واجتماعيّة وبالتّالي، فهو شخصيّة شعبيّة تنتقل في هذه الأوساط  بحيث يمدّها بما تعلّمه من عند الأجداد والأسلاف ولا تكفّ هذه الشّخصيّة عن العطاء ، وهذا يزيدها فخرًا واحساسًا بالنّشوة وهو القصص والأساطير للجماهير الشّعبيّة[40].

    تجدر الاشارة أنّ اسم القوّال يستخدم كذلك مرادفًا للمدّاح ، بينما كانت الادارة الاستعماريّة الفرنسيّة زمن احتلالها للجزائر تثبت على تراخيص المداّحين والقوّالين اسم التروبادور أو الشّاعر الجوّال[41].في ذات السّياق ، أراد الباحث اللبناني (يوسف رشيد حداد ) الفصل بدقّة  في المصطلحات الدّالة على هذا الشّكل المسرحي التّراثي نوجزها كما يلي[42]:

    إنّ نشاط القوّال أو المدّاح وهو يقدّم عرضه لجمهوره من النّاس الملتفّين حوله في شكل حلقة يكشف عن قدراته المسرحيّة العالية، فهو ممثّل موهوب ذي كفاءات فنّيّة عالية تمكّنه من تقديم عرض مسرحيّ مكتمل العناصر والمقوّمات، من موضوع يتمثّل في القصّة الممثّلة وطريقة عرضها بالانتقال بين ثنائية الحكي والتّمثيل باستعمال الكلمة والحوار الافتراضي والحركة والموسيقى، إضافة إلى توفّر أحد مقوّمات المسرح ألا وهو الجمهور ممثّلًا في تلك الحلقة من المتفرّجين في العرض[43].  ومهما تعدّدت التّسميات من مدّاح /وقوّال فإنّ الصّفة المشتركة بينهما تتمثّل في كون كلّ منهما يحكي ويسرد مع الاقرار بوجود اختلافات في شكل الحكي/ السّرد ، كما يشتركان وبصفة دينامية وجدليّة في ترتيب العرض ، حيث يقوم المدّاح بالسّرد والتّمثيل في الوقت نفسه ، حارصا على إضفاء الحياة والحركة على شخوص عرضه باستخدام لمسات وعبارات موحية وفي غالب الأحيان يكون المدّاح شاعرًا ومؤلّفًا للنّص الدّرامي الذي يعرضه ، إنّه في مركز الحلقة هو الرّاوي والممثّل والمغني يُمسرِح الكلمة وينقش العرض بمختلف جماليات القول من تلميح وإشارة وتصريح وتهويل ، كل ذلك يهدف إثارة التّصوّر المبدع للجمهور[44].

خاتمة: إنّ الحديث عن المسرح المغاربيّ مرتبط بالأشكال الفرجويّة التي عرفها الانسان المغربيّ ، وقد وقفنا على بعض هذه الأشكال نظرًا لعددها وتنوّعها بتنوّع الثّقافات والمناطق واللّهجات، هذه الأشكال ما قبل المسرحيّة باعتبارها بداية ممكنة للمسرح المغاربيّ أو باعتبارها فرجة مسرحيّة أو بوصفها بداية ضمنية للمسرح المغاربيّ ، وهذه البداية  تتمثّل في الأشكال الفرجويّة التّقليديّة التي تنطوي على ارهاصات مسرحيّة إمّا لاهتمامها بالمقدّس( الاحتفالات الدّينية) أو لاندراجها في ممارسات اللّعب والاحتفال التي تقوم في الأساس على فنون السّرد والحكي والرّقص والموسيقى أو باعتبارها نواة لمسرح تقليدي(رواية الملاحم والسّير)47.

(د. نهاد مسعي أستاذة محاضرة قسم ب جامعة 20أوت 1955، سكيكدة، كلّية الآداب واللّغات)

قائمة المصادر والمراجع:

  1. أمين، خالد: رهانات دراسة الفرجة بين الشرق والغرب، مداخلة في كتاب السرديات وفنون الأداء، وقائع الملتقى العلمي 18-19-20، أكتوبر2010، محافظة المهرجان الوطني للمسرح، الجزائر
  2. الأدرع، الشريف: بريخت والمسرح الجزائري، مثال بريخت وولد عبد الرحمن كاكي، رسالة ماجيستر، الجزائر،2008.
  3. البحراوي، حسن: المسرح المغربي، بحث في الأصول السوسيو ثقافية، ط1، المركز الثقافي العربي ،1994.
  4. برشيد، عبد الكريم: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة، الدار البيضاء ،1985.
  5. بن ابراهيم، عبد الرحمن: الحداثة والتجريب في المسرح، ط1، دار افريقيا الدار البيضاء المغرب ،2014.
  6. بن شيبة، عبد القادر: مسرح علولة مصادره وجمالياته، وهران،1995.
  7. بورايو، عبد الحميد: رواية القصص الشعبي في الجزائر، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر،1982
  8. بورايو، عبد الحميد: في الثقافة الشعبية الجزائرية، التاريخ والقضايا والتجليات، منشورات الرابطة الوطنية للأدب الشعبي لاتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر ،2006
  9. بوفنابوتيتسيفا، تمارا ألكساندرا: ألف عام وعام على المسرح العربي، تح: توفيق المؤدن، دار الفارابي، بيروت،1981.
  10. بوردا، دني: الدمى المتحركة وعالم الأطفال، تر: نجلا خوري، بيروت،1981
  11. بيوض، أحمد: المسرح الجزائري نشأته وتطوره، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر
  12. حجازي، حسين سليم: خيال الظل وأصل المسرح العربي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1994.
  13. حسين، كمال: مقدمة في مسرح ودراما الطفل، مطبعة العمرانية، القاهرة ،1999
  14. حمداوي، جميل: المسرح التونسي بين التأسيس والتأصيل،21.38سا،4أفريل2020، www.atitheatre.ae.
  15. ثليلاني، أحسن: توظيف القوال والحلقة في المسرح الجزائري.
  16. الساعدي، حاتم: محاضرات في النثر العربي الحديث، ط1، مؤسسة المعارف للمطبوعات، بيروت/ لبنان ،1999.
  17. سعد، فاروق: المسرح في التراث الشعبي ملف خاص، ندوة التراث الشعبي، اتحاد الكتاب اللبنانيين
  18. سعودي، أميمة: فن العرائس، عام من المهارة والابداع httpLLsis.gav.eg
  19. شاكر، عبد الحميد: التفصيل الجمالي، دراسة في سيكولوجيا التذوق، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،1994.
  20. صقر، أحمد: التراث الشعبي في المسرح، مركز الإسكندرية للكتاب
  21. صيبان، نصر الدين: اتجاهات المسرح العربي في الجزائر ،1945-1980، جامعة دمشق،1985،
  22. عتاب، نعيم: مسرح الدمى واستخداماته، جريدة شرفات، ع18، منشورات وزارة الثقافة، دمشق،2009
  23. علولة، عبد القادر: مسرحيات القوال.. دار موفم للنشر، الجزائر ،1997
  24. قرقوة، ادريس: التراث في المسرح الجزائري، دراسة في الأشكال والمضامين، ط1، مكتبة الرشاد، الجزائر ،2009
  25. مباركي، بوعلام: مظاهر التجريب المسرحي في المغرب العربي، مقاربة راماتورجية، دكتوراه، وهران،2006.
  26. مباركي، بوعلام: توظيف التراث الشعبي في المسرح الجزائري، ماجستير، جامعة وهران،2000،2001، ص62
  27. مكرم، نورا: الأراجوز تاريخه وأسراره، 6.9.2020.http//noon.net
  28. مندور، أحمد: المسرح الجزائري بداياته وتطوره، ضمن مجلة ثقافات، جامعة البحرين، ع10، ربيع 2004
  29. منصوري، لخضر: التجربة الاخراجيىة في مسرح علولة ،2001،2002، وهران،
  30. المنيعي، حسن: أبحاث في المسرح المغربي، مطبعة صوت مكناس،1974.
  31. الناجي، سعيد: المسرح الملحمي والشرق قراءة جديدة لأصول المسرح الملحمي في ضوء الثقافة الشرقية، ط1، الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، دولة الامارات العربية المتحدة،2012.
  32. الورقي، السعيد: تطور البناء الفني في ادب المسرح العربي المعاصر، دار المعرفة الجامعية، الاسكنرية،1990

 [1] مباركي: مظاهر التجريب المسرحي في المغرب العربي ، مقاربة دراماتورجية،دكتوراه،وهران،2006،ص14

 [2] ينظر: حسين بحراوي، المسرح المغربي، بحث في الأصول السوسيو ثقافية، ط1، المركز الثقافي العربي، المغرب،1994، ص14-

[3] خالد أمين: رهانات دراسة الفرجة بين الشرق والغرب، مداخلة في كتاب السرديات وفنون الأداء، وقائع الملتقى العلمي 18-19-20، أكتوبر2010، محافظة المهرجان الوطني للمسرح، الجزائر، ص135

[4] الشريف الأدرع: بريخت والمسرح الجزائري، مثال بريخت وولد عبد الرحمن كاكي، رسالة ماجيستر، الجزائر،2008،ص60.

[5]  عبد القادر بن شيبة: مسرح علولة مصادره وجمالياته، وهران،1995،ص180

[6]عبد القادر علولة: الظواهر الأرسطية في المسرح الجزائري ، ترجمة بن العربي جمال، مقدمة كتاب من مسرحيات علولة الأقوال الأجواد اللثام ، موفم للنشر ، الجزائر ،1997،ص11.

[7]  ينظر: حسن البحراوي، المسرح المغربي ،بحث في الأصول السوسيوثقافية،ط1،المركز الثقافي العربي ،1994،ص28.

.[8]  ينظر، أحسن ثليلاني، توظيف القوال والحلقة في المسرح الجزائري، ص6

[9] عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة ، الدار البيضاء ،1985نص24.

.[10] عبد الرحمة بن ابراهيم، الحداثة والتجريب في المسرح، ط1، دار افريقيا الدار البيضاء المغرب ،2014ص 185

[11] ينظر:سعيد الناجي، المسرح الملحمي والشرق قراءة جديدة لأصول المسرح الملحمي في ضوء الثقافة الشرقية ،ط1،الهيئة العربية للمسرح ، الشارقة، دولة الامارات العربية المتحدة،2012،ص90.

[12]  ظهر في حضارات قديمة كالحضارة المصرية واليونانية غير أن الأثر الموثق لهذا الفن تطور في الصين ثم انتقل إلى البلدان المجاورة فبلاد الشرق الأدنى عبر غزوات المغول والمرجح دخوله إلى العالم العربي وكذلك أروبا عن طريق الأتراك ، نشأ في تركيا حين أخذ السلطان سليم من مصر بعض المخايلين, كما يرى مجموعة من الباحثين وعلى راسهم المستشرق الالماني جورج يعقوب أن الوطن الأول لخيال الظل هو بلاد الهند وأقدم نصوص عرضت له تلك التي تسمى بالأدب السنسكريتي -تيرة جاثا -أي أغاني الراهبات للتوسع ينظر: حسن سليم حجازي ، خيال الظل وأصل المسرح العربي ،ص98،ينظر: دني بوردا ، الدمى المتحركة وعالم الأطفال ، تر: نجلا خوري ، بيروت،1981،ص ص6،5.  ينظر، ابراهيم حمادة، خيال الظل وتمثيليات دانيال،ص254.

[13]  تمارا ألكساندرا وفنابوتيتسيفا: ألف عام وعام على المسرح العربي،تح: توفيق المؤدن ،دار الفارابي ،بيروت،1981،ص92. 

 [14] حسين سليم حجازي :خيال الظل وأصل المسرح العربي ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق، 1994،ص66.

  [15] السعيد الورقي: تطور البناء الفني في ادب المسرح العربي المعاصر، دار المعرفة الجامعية، الاسكنرية،1990،ص278

[16]ينظر: عبد الحميد شاكر التفصيل الجمالي، دراسة في سيكولوجيا التذوق، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،1994، ص14.

[17] حمد بيوض : المسرح الجزائري نشأته وتطوره ،دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع الجزائر ،ص 22.

[18]ينظر: جميل حمداوي، المسرح التونسي بين التأسيس والتأصيل،21.38سا،4أفريل2020، www.atitheatre.ae

[19]للتوسع ينظر: دريس قرقوة، التراث في المسرح الجزائري، دراسة في الأشكال والمضامين، ط1،مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع ،الجزائر ،2009،ص149.

[20] نورا مكرم: الأراجوز تاريخه وأسراره، 6.9.2020.http//noon.net

[21] أحمد صقر: التراث الشعبي في المسرح، مركز الإسكندرية للكتاب، ص 59

[22]  كمال حسين: مقدمة في مسرح ودراما الطفل، مطبعة العمرانية، القاهرة ،1999، ص23

[23]أميمة سعودي: فن العرائس، عام من المهارة والابداع httpLLsis.gav.eg

[24]ينظر:ادريس قرقوة، التراث في المسرح الجزائري، دراسة في الأشكال والمضامين،ط1،مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع،الجزائر،2009،ص ص 58،57.

[25] نعيم عتاب عناب: مسرح الدمى واستخداماته، جريدة شرفات، ع18، منشورات وزارة الثقافة، دمشق،2009، ص29.

[26] ينظر: حاتم الساعدي، محاضرات في النثر العربي الحديث، ط1، مؤسسة المعارف للمطبوعات، بيروت/ لبنان ،1999، ص137.

[27]حسن المنيعي: أبحاث في المسرح المغربي، مطبعة صوت مكناس، 1974،، ص28.

[28]مسرحية في عصر الدول والامارات، أوراق اليوم الدراسي، كلية الآداب، مركز العلم والثقافة، الجامعة الاسلامية، غزة، 29ديسمبر 2018، ص114

[29]لخضر منصوري: التجربة الاخراجيىة في مسرح علولة ،2001،2002، وهران، ص32.

[30] ينظر: عبد القادر علولة، مسرحيات.. ص11

[31] نصر الدين صيبان: اتجاهات المسرح العربي في الجزائر ،1945-1980، جامعة دمشق،1985، ص 11.

[32] أحمد مندور: المسرح الجزائري بداياته وتطوره، ضمن مجلة ثقافات، جامعة البحرين، ع10، ربيع 2004، ص182

[33] عبد الحميد بورايو: في الثقافة الشعبية الجزائرية، صص63،64

[34]ينظر: تمارا الكسنروفنا بوتيتسيفا، ألف عام وعام على المسرح العربي، ط1، دار الفرابي، بيروت،1981، ص60.

[35] ينظر: فاروق سعد المسرح في التراث الشعبي ملف خاص، ندوة التراث الشعبي، اتحاد الكتاب اللبنانيين ص 7.

[36] عبد القادر علوللة، مسرحيات القوال.. دار موفم للنشر، الجزائر ،1997، ص11.

[37]ينظر:عبد الحميد بورايو،في الثقافة الشعبية الجزائرية، التاريخ والقضايا والتجليات، منشورات الرابطة الوطنية للأدب الشعبي لاتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر ،2006،ص ص63،64.

[38]عبد الحميد بورايو: رواية القصص الشعبي في الجزائر،منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين،الجزائر،1982،ص21.

[39] ينظر: أحمد بيوض، المسرح الجزائري نشأته وتطوره، ص 263

[40] بوعلام مباركي: توظيف التراث الشعبي في المسرح الجزائري ماجستير، جامعة وهران،2000،2001، ص62

[41] ينظر: بورايو: رواية القصص الشعبي في الجزائر، ضمن مجلة الرؤيا، 1نمنشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر ،1982، ص18.

[42] للتوسع ينظر: أحسن ثليلاني، توظيف القوال والحلقة في المسرح الجزائري، ص7

[43] ينظر: عبد القادر علولة، الظواهر الأرسطية في المسرح الجزائري، تراث العربي جمال، مقدمة كتاب من مسرحيات علولة ، موفم للنشر الجزائر ،1997،ص11

[44]للتوسع ينظر: محمد أسليم: حول مفهوم الأشكال ما قبل المسرحية، سا23:26،4أفريل 2020، Aslimnet.free.fr 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *