الخلفية التاريخية لنشأة الدولة العثمانية
كانت منطقة آسيا الوسطى وتركستان أو " بلاد الترك " (شكل1) خزانا بشريا كبيرا، ونظرا لفقر المنطقة إلى الموارد الاقتصادية الكافية، فقد كانت تقوم بعملية طرد سكاني طبيعي منتظم بين فترة وأخرى وذلك على شكل هجرات جماعية سلمية أو حربية، تتجه في غالب الأحيان غربا نحو المناطق والإمارات والدويلات الإسلامية في سمرقند وفرغانة وأسزوسنة وخوارزم وبخارى وغيرها من المدن. وبذلك كان احتكاك العنصر التركي بالمسلمين والمناطق الإسلامية لعدم تمكنه من الاتجاه شرقا أمام غلق الصين لحدودها في وجهه. كما كانت الحروب وغزوات الفتح التي كانت تقوم بها بعض الدويلات الإسلامية فيما وراء النهر، طريقا آخرا توغل منه الأتراك في التاريخ والحضارة الإسلامية عن طريق الأسر، فضلا عن الثراء في تجارة العبيد كوسيلة من وسائل تكدس هذا العنصر في المدن الإسلامية، ذلك أن مجتمعات آسيا الوسطى اعتادت على بيع أطفالها كظاهرة اجتماعية سائدة بينهم آنذاك.
الأتراك السلاجقة
الأتراك السلاجقة :
وهم طائفة أخرى من العناصر التركية المعروفة باسم الغر أو الأوغور، وينسبون إلى زعيم لهم هو سلجوق بن دقاق، وكان موطنهم الأصلي سهوب تركستان في أواسط آسيا، وفدوا إلى بلاد ما وراء النهر بغض الطرف وتسهيل من الإمارات التركية التي كانت قائمة على الحدود الشرقية للدولة الإسلامية، كإمارة فرغانة والدولة الغزنوية، وقد جاب السلاجقة نواحي بخارى وسمرقند، واستقروا بها في القرن 4هـ/10م متخذين من الإسلام دينا لهم على المذهب السني ومساهمين مع الـسامانـيين في حماية الثغور الشرقية للدولة الإسلامية، ونشر الإسلام فيما وراء ذلك بين قبائل الأتراك الوثنية، ومنذ الربع الأول مـن القرن 5هـ/11م برزوا كقوة عسكرية وسياسية وتنظيمية تحت قيادة طغرل بك حفيد سلجوق بن دقاق، وأخذوا يتقدمون غربا نحو خراسان مستولين على ما وراءها من حضائر بلاد فارس ومدنها الشهيرة، كمرو ونيسابور وبلخ وخوارزم، وذلك في حدود 429هـ/ 1037م، ثم همدان والري وأصفهان في حدود سنة 435هـ/ 1043م وكانوا خلال زحفهم غربا مناوئين للمذهب الشيعي ومحاربين للشيعة.
وقد برزت شخصية ألـب أرســــلان ( 455 ـ 465هـ/ 1063 ـ 1072م) الذي أحيا روح الجهاد بعد أن خمدت، وحمل لواء الحرب ضد الروم البيزنطيين والشيعة على السواء، وكان هدفه التوسع شمالا في آسيا الصغرى على حساب الدولة البيزنطية والجهاد ضدها في عقر دارها، وقامت استراتيجيته على توحيد جهود المسلمين أولا بإخماد بؤر التوتر الخلفية التي قد تؤثر على مشاريعه، وخاصة الشيعة منها بغرض حماية ظهره، فاستولى على حلب من أميرها محمود بن صالح بن مرداس، كما استولى على عدة مدن في فلسطين وما جاورها، وحاصر دمشق حصارا شديدا ثم أقلع عنها بعد أن أظهر للشيعة أن يده طائلة إياهم إذا ما حاولوا الغدر به أو ضربه من الخلف.
ثم اتجه السلطان ألب أرسلان إلى الشمال موسعا نفوذه إلى آسيا الصغرى، مواجها البيزنطيين ومتوسعا على حسابهم، حيث استولى فيها على عدة مدن: كمدينة آني سنة 458هـ / 1065م كما خرب عدة مراكز بيزنطية كقيلقية وقيصرية في أعالي الفرات وذلك سنة 460هـ/ 1067م.
وأمام هذا المد السلجوقي في آسيا الصغرى الذي كان يهدد الوجود البيزنطي، فقد بادر الإمبراطور رومانوس الرابع المعروف باسم ديوجينيسDIGENESE إلى مواجهة السلاجقة، جامعا قوة عسكرية كبيرة، تضاربت المصادر المعاصرة في تقديرها، حيث تراوحت بين مائتين وثلاث مائة ألف جندي من طوائف وأقوام مختلفة كالروم والروس والأرمن والفرنج، ودخل رومانوس في مواجهات عديدة مع السلاجقة وأغار على عدة مدن ومناطق إسلامية في سيواس ونواحي حلب، واستولى على بعضها، كمدينة منبج HIERAPOLIS وذلك سنة 461هـ/ 1068م، كما أغار على مدينة خلاط سنة 462هـ/1069م في الوقت الذي كان فيه السلاجقة يهاجمون بعض المدن البيزنطية مثل مدينة خوينة، ويستولون على البعض الآخر منها كمدينة منزكرت وذلك سنة 463هـ/ 1070م وكانت مدينة بيزنطية هامة، مما أثار حفيظة الإمبراطور رومانوس وأشعل صدره غيضا، فجهز حملة رابعة سنة 463هـ/ 1071م بتلك القوة التي فاقت الثلاث مائة ألف جندي، حيث زج بها في معركة ضد السلاجقة، أرادها أن تكون فاصلة، يسترد من خلالها مدينة منزكرت، ويقضي فيها نهائيا على جيوش ألب أرسلان، ثم يخترق بعد ذلك ثغور المسلمين الشرقية عبر مناطق الجزيرة والتوغل في بلاد إيران، حتى مدينة الري، غير أن ألب أرسلان فطن لمشروع الإمبراطور البيزنطي وأنه أوسع من إعادة مدينة منزكرت، وهو إدراك أعلنه الإمبراطور فيما بعد لرسول ألب أرسلان الذي بعثه لعقد هدنة، وتجنُّب الحرب مع البيزنطيين، بعد أن هاله ما كان عليه الجيش البيزنطي من ضخامة العدد وقوة التسليح، في الوقت الذي كان جيشه هو لا يزيد عن خمسة عشر ألف مقاتل، وكان ألب أرسلان يسعى إلى مهادنة البيزنطيين رأفة بجنده أو على الأقل تأجيل اللقاء معهم لحين وصول الإمدادات العسكرية إليه من بغداد، ولكن الإمبراطور البيزنطي رفض الهدنة، مجيبا المبعوث في مدينة الري بعد أن أغراه قلة عدد جيش المسلمين. 1[1]
معركة منزكرت
قرر ألب أرسلان دخول المعركة، مختارا توقيتها: وهو يوم الجمعة وخطباء المساجد على المنابر يدعون بالنصر للمجاهدين، مصرحا بذلك للجند لإثارة نخوتهم وحماسهم، مخيرا إياهم بين الانصراف أو البقاء إلى جانبه مقاتلين، مذكرا إياهم أنه بـيـنهم جنديا مقاتلا لا سلطانا، فإن استشهد فخليفته ابنه ملكشاه، وخلع عنه عدة السلطان الفارس، وهما القوس والنشاب، وأمسك بالسيف والدبوس عدة الجندي المقاتل من المشاة، وعقد ذيل فرسه، ولبس البياض وتحنط كناية عن النصر أو الاستشهاد، وذلك في حضرة جنده، الذين فعلوا مثله، ثم هيأ نفسه وجنده للمعركة، واقتحم بهم صفوف جيوش الروم البيزنطيين، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، باذلين الشهادة من أجل الحياة، ودام القتال من صلاة الظهر إلى غروب الشمس، حيث أمر الإمبراطور جنده بالانسحاب من المعركة والعودة إلى المعسكر في ترتيب ونظام خاص متفق عليه، وتشير الرواية البيزنطية أن أحد قواد الإمبراطور، وهو أندرونيقوس ابن القيصر يوحنا دوقاس، انسحب من المعركة بغير النظام المتفق عليه، مشيعا بتعمد هزيمة الجيش البيزنطي، فاختلت صفوفه وارتبك النظام، حيث استغل السلاجقة ذلك الوضع وأمعنوا في الـفـتك بالجيش البيزنطي، فلم يستطع رومانوس معالجة الوضع فحلت الهزيمة المنكرة بجيشه ووقع هو أسيرا في يد ألب أرسلان، بعد أن كاد أحد الجند أن يفـتك به لولا صياح أحد الجند البيزنطييـن أنه الإمبراطور.
وتتفق المصادر العربية والبيزنطية أن ألب أرسلان أحسن معاملة أسيره وعفا عنه مقابل أموال كثيرة، وإطلاق سراح جميع أسرى المسلمين في الإمبراطورية وعقد هدنة بينهما لمدة نصف قرن، مع تزويد الإمبراطور لألب أرسلان بالجند البيزنطي إن استدعى الأمر وطلب منه ذلك.
وقد تمخضت عن هذه المعركة عدة نتائج أهمها :
* انفتاح الحدود الشرقية للدولة البيزنطية أمام التوسع السلجوقي غـربا وعلى حسابهم.
*سيطـرة السلاجقة على مناطق واسعة من آسيا الصغرى مؤسسين فيها إمارات أو إيلخانات تركية سلجوقية، سيكون لها علاقة بتأسيس الدولة العثمانية وقيامها وتوسعها غربا.
*قيام الحروب الصليبية
ولم يعش السلطان ألب أرسلان طويلا بعد انتصاراته في معركة منزكرت، فقد توفي مقتولا في حروبه بإحدى نواحي نهر جيحون سنة 465هـ/1072م، فخلفه ابنه ملكشاه.
و قد سار السلطان ملكشـاه (465 ـ 485هـ / 1072 ـ 1092 ) على سياسة والده، فاتسعت الدولة في عهده اتساعا كبيرا، واستكثر في جيشه وبلاطه من المماليك الأتراك، وكان عماد دولته هو ووالده من قبل الوزير المحنك نظام المـلك الطوسي، صاحب المآثر العمرانية والمعمارية الكبرى، ومشيد المدارس، ومشجع العلم والعلماء، ومحارب للمذهب الشيعي وأفكاره وهو أيضا صاحب كتاب سياسة نامة: الذي يحمل مضامين ونصائح وتوجيهات سياسية وتنظيمية عملية للحكم والتوجيه السياسي العام والخاص.
وفي عهد السلطان ملكشاه ووزيره نظام المـلك وقع تغيير جوهري في البنية العسكرية لنظام الدولة، حيث لجأ إلى إقطاع الإقطاعات من الأراضي للـمماليك من الأمراء ورجال الدولة وقادة الجند، تعويضا لهم عن العطاء النقدي والرواتب التي كانوا يتلقونها من الدولة، وذلك مقابل خدمات عسكرية ومالية يقدمونها للدولة عند الحاجة.
وبوفاة السلطان سنة485هـ/1092م ووزيره قبله بسنوات قليلة، استقلت تلك الإقطاعات وتشكلت قي شكل إمارات، عرفت في التاريخ باسم الأتابكيات جمع أتابكية أي إمارة، ومع ذلك فإن الوجود السلجوقي في آسيا الـصغرى وإماراته ظل محدودا وسط أمواج من صراعات الثغور والمدن بين المسلمين والبيزنطيين.
وعادت المنطقة على إثر ذلك إلى سابق عهدها من الصراع والحروب بين الثغور تحت زعامة رؤساء الطوائف الدينية والطرق الصوفية باعثين روح الجهاد ضد الدولة البيزنطية مكونين كيانات سياسية وإمارات مستقلة كالقرمانيون في ليقاونية القديمة وإيسوريا والكرميانيون في كوتاهية والحميديون في ميسيه والصاروخان في مغنيسيه، وظل الوضع على ذلك حتى ظهر الأتراك العثمانيون فقضوا على هاته الإمارات لتحل محلهم الدولة العثمانية. 2[3]
أهم شخصيات المرحلة
عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية
كانت بلاد الأناضول أو آسيا الصغرى من ضمن أملاك الإمبراطورية البيزنطية قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام قضى على الإمبراطورية الفارسية، وانتزعت الدولة الإسلامية بلاد الشام ومصر من الإمبراطورية البيزنطية ثم سائر الشمال الإفريقي، وتمكن المسلمون من انتزاع أجزائها الشرقية من أطراف أرمينيا.
استوطنت عشائر الغز وقبائلها الكبرى في منطقة ما وراء النهر والتي نسميها اليوم تركستان والتي تمتد: من هضبة منغوليا وشمال الصين شرقاً إلى بحر الخزر (بحر قزوين) غرباً، ومن السهول السيبرية شمالاً إلى شبه القارة الهندية وفارس جنوباً، وعرفوا بالترك أو الأتراك.
وكـان أرطغرل والد عثمان زعيم قبيلة قايي، يواصل تحركه نحو الشمال الغربي من الأناضول، وكان معه حوالي 100أسرة وأكثر من 400 فارس. وأرسل أرطغرل في طلب أرض من الأمير علاء الدين السلجوقي أمير إمارة قرمان. وفي هذه الأثناء وجد قتالاً حامياً بين مسلمين وبيزنطيين، وكانت كفة الغلبة للجيش البيزنطي، فتقدم أرطغرل بكل حماس وثبات لنجدة إخوانه في الدين والعقيدة، فكان ذلك التقدم سبباً في نصر المسلمين على النصارى.
وبعد انتهاء المعركة قدر قائد الجيش الإسلامي السلجوقي الأمير علاء الدين السلجوقي هذا الموقف لأرطغرل ومجموعته، فأقطعهم أرضاً في الحدود الغربية للأناضول بجوار الثغور في الروم، وأتاحوا لهم بذلك فرصة توسيعها على حساب الروم، وكانت مساحة هذه الأرض حوالي 2000كلم2 استطاع أرطغرل أثناء جهاده ضد البيزنطيين توسيعها إلى 4800 كلم2.
وبعد وفاة أرطغرل سنة 687 ه خلفه في الحكم ابنه عثمان الذي سار على سياسة أبيه السابقة في أراضي الروم، بدأ عثمان يوسع إمارته فتمكن أن يضم إليه عام 688ه قلعة قره حصار (القلعة السوداء) أو أفيون قره حصار، فمنحه السلطان علاء الدين لقب (بيك). وملكه الأراضي التي يضمها إليه، وسمح له بضرب العملة، وذكر اسمه في خطبة الجمعة.
ويُرجع كثيرٌ من الباحثين نشأة الدولة العثمانية إلى عام (699هـ/ 1299م)، عندما استقل الأمير عثمان بإمارته الصغيرة عن الدولة السلجوقية، بينما يرجعها البعض الآخر إلى عام( 708هـ/1308م)، عندما توفي آخر سلاطين سلاجقة الروم السلطان غياث الدين.
ولد الأمير عثمان بن أرطغرل عام(656هـ/1258م) في بلدة سوغود Sogudأو عثمانجق . Osmancik وهو رأس أسرة آل عثمان ومؤسس الدولة العثمانية. خلف والده في قيادة عشيرته. وبقي مصاحباً للسلطان السلجوقي علاء الدين كيكوبات. وقد ساعده في فتح مدن منيعة وقلاع حصينة.
لما قُتل السلطان السلجوقي وسقطت الدولة السلجوقية على أيدي المغول، أسرع الناس يلتفون حول الأمير عثمان غازي، وبايعوه حاكماً عليهم، وذلك (عام 699هـ/1299م)، فاتخذ مدينة قره حصار مركزاً لدولته. ثم حصَّن مدينة يني شهر وجعلها عاصمة إمارته. حكم بين الناس بالقسط والعدل، حتى ذاع صيته، وعلا شأنه، ولاسيما بعدما تزوج بنت الشيخ أده بالي. Edebali
توسعت منطقة نفوذ عثمان أو إمارته، فشملت مناطق سوغود، ودومانيج، وإين هكول، ويني شهر، وإين حصار، وقويون حصار، وكوبري حصار، ويوند حصار. وجعل في عام(1300م)،يني شهر مركزاً لتلك الإمارة.
وفي هذه الأثناء وفد على عثمان بن أرطغرل كثير من علماء الدولة السلجوقية، التي كانت في طريقها إلى الاضمحلال، وأقبل عليه أمراؤها وأعيانها، فدخلوا تحت حمايته.
ومع أنّ عثمان بن أرطغرل لم يلقّب بالسلطان أو خان إلاّ بعد وفاته، إلا أنه يعد المؤسس الأول للإمارة. واستطاع توسيع مملكته من 4800 كم2، عند توليه الإمارة بعد والده أرطغرل، عام(681هـ/1281م)، إلى 16000 كم2، حين سلّمها لولده أورخان، عام (726هـ/1324م).
بعد أن أصبحت الدولة العثمانية مستقلة استقلالاً تاماً، توسعت جبهات القتال مع البيزنطيين. وكان الهدف الأسمى، الذي سعى الأمير عثمان لتحقيقه، هو فتح مدينة بورصا واتخاذها عاصمة للدولة العثمانية. ظل هذا هدفاً يطمح إليه الأمير عثمان حتى آخر حياته؛ فقد أمر، وهو على فراش الموت، ولده أورخان بفرض الحصار عليها، والإستماتة في فتحها. وقد نجح أورخان في ذلك، وطارت أنباء الفتح إلى الأمير عثمان وهو يجود بأنفاسه الأخيرة. ونُقل جثمانه إلى مدينة بورصا ودفن بها عام( 726هـ/ 1324م)، بعد أن عاش سبعين عاماً، قضى منها 27 عاماً على عرش السلطنة. 3[4]
الدولة العثمانية من السلطان أورخان إلى السلطان مراد الثاني
اتخذ أورخان بن عثمان الذي ولد عام 1281م، مدينة بورصة، الواقعة في أقصى غرب الأناضول، عاصمة لملكه، وقاعدة لتحركاته، بعد أن تيسر له فتحها قبيل وفاة والده، عام 726هـ/1324م. ثم فتح إزمير عام(1327م)، وطاوشانلي في عام 1330م، واستطاع بذلك أن يفرض على الإمارات السلجوقية المجاورة، الاعتراف الفعلي بحكمه، وبأنه وريث العرش السلجوقي.
ومما زاد من شهرته، تمكنه من هزيمة الإمبراطور البيزنطي، الذي حاول استعادة مدينة إزنيق من العثمانيين، عام ( 732هـ/1331م). وقد بدأ السلطان أورخان، بعد ذلك، باتباع سياسة متسمة بالحكمة، في التعامل مع البيزنطيين، والحرص على عدم البدء بالاعتداء، مع محاولة الوصول إلى البحار المفتوحة والمضايق.
وقد توالت الفتوحات، طيلة حكم السلطان أورخان، الذي يعد أول أمير عثماني تسمى بلقب السلطان. وفي عام 736هـ/1335م، كوّن جيشاً منظماً، ومدرباً أحسن تدريب. وانضمت بعض الإمارات السلجوقية إلى الدولة العثمانية، التي وصلت حدودها إلى البحر، بعد أن استولت على أسكودار، وهي الضفة الآسيوية من مدينة القسطنطينية. وفي الوقت نفسه، توسعت الدولة في الجانب الشرقي من البلاد، ففتحت مدينة أنقرة، عام 756هـ/1354م.
• سنّت الدولة، في فترة حكم السلطان أورخان، وبإشارة من الوزير قره خليل جاندارلي، قانوناً يقضي بتشكيل جيش سمي "الإنكشارية"، وبمقتضى هذا القانون يجمع اليتامى من ضحايا الحروب خاصة أبناء المسيحيين، ويُعنى بتربيتهم، وتهذيبهم تهذيباً إسلامياً، حتى إذا بلغوا سن التجنيد، أُرسلوا إلى الثكنات العسكرية في العاصمة؛ ليتولوا الدفاع عن أراضي الدولة دفاعاً مستميتاً.
• كما وضعت تنظيمات إدارية ومالية، في عهد السلطان أورخان، أصبحت قاعدة، تركن إليها الدولة في السنوات التالية، مثل النظام الخاص بإقطاع الأراضي الأميرية، وكيفية تقسيمها على المشاركين في الحرب، وتشكيل الوزارة، وغيرها من الأنظمة، التي استقرت قواعد الدولة عليها.
استلم السلطان مراد الأول قيادة الدولة العثمانية سنة 761 هجرية ومساحتها 95 ألف كلم2، ولم يكن للدولة العثمانية أي قواعد بأوروبا ماعدا ميناء غاليبولي، ولم تكن أية إمارة أناضولية قد انضمت للدولة العثمانية سوى إمارة قره سي. لذلك كان على السلطان مراد الأول العمل على جبهتين: الأولى توحيد الأناضول الذي يعتبر ثغر الإسلام والثانية أوروبا النصرانية، حيث الدولة البيزنطية والهدف المنشود الذي قامت من أجله الدولة العثمانية هو فتح القسطنطينية.
ومن أول عام تسلم فيه مراد الأول القيادة عمل على إيجاد نقطة إستراتيجية للعثمانيين بأوروبا. وبالفعل استولى على مدينة أدرنة البلقانية سنة 762هـ في ضربة خاطفة للدولة البيزنطية لأن هذه المدينة كانت أهم المدن بعد العاصمة القسطنطينية.
اتخذ مراد الأول قراراً استراتيجياً في غاية الذكاء والحكمة السياسية والعسكرية، حيث جعل هذه المدينة – أدرنة- عاصمة للدولة العثمانية وذلك من أجل الاستفادة من موقع المدينة الاستراتيجي ودفاعاتها الحصينة في نقل الحرب إلى قلب الجبهة الأوروبية وظلت أدرنة عاصمة الدولة العثمانية حتى فتح القسطنطينية في857هـ.
وكان لنقل الوجود الإسلامي إلى الجبهة الأوروبية أثر شديد ورنة كبيرة عند نصارى أوروبا، وسرعان ما سقطت عدة مدن فلييه، كلمجينا، وردار، وبالتالي صارت القسطنطينية محاطة بالعثمانيين من كل مكان في الجبهة الأوروبية.
تولى بايزيد الحكم بعد استشهاد أبيه، وتزوج ببنت الأمير كاريبال كما تزوج بنت الأمير لازار لاستمالة الصرب. وتمكن من هزيمة الأفلاق والألبان، كما استولى على مدينة نيكوبوليس في 1393م وتغلب على البلغار، فتحالف البابا بونيفاس مع ملوك أوربا لوقف المد العثماني لكن بايزيد انتصر عليهم فترتب عن ذلك:
1-اعتراف أوربا بظهور دولة إسلامية جديدة في آسيا الصغرى
2- فتح طريق أوربا أمام العثمانيين
3- تخلي بيزنطا نهائيا عن طرد الأتراك الذين وطّنوا في أوروبا
4- اعتراف الأقطار الإسلامية بضرورة الوجود السياسي العثماني
وكانت معركة أنقرة بين جيشي بايزيد وتيمورلانك المغولي في صيف 1402م لصالح تيمورلانك، أسفرت عن وقوع بايزيد أسيرا ثم وفاته بعد بضعة أشهر من أسره في 19 مارس 1403.
بعد موقعة أنقرة رجع زعيم المغول تيمورلنك إلى بلاده، وترك البلاد مهزومة مفككة، وترك أولاد بايزيد يتحاربون فيما بينهم من أجل الملك. أما السلاجقة، فقد ترك لهم السلطان محمد الأول كل الأراضي التي تحت أيديهم، وتفادى أي اشتباكات معهم، وركّز كلّ همّه في توطيد سلطانه في الداخل. وبعد مرور 10 سنوات من الحروب الأهلية بين الإخوة سليمان وموسى وعيسى ومحمد جلبي الأول استلم هذا الأخير السلطة عام 1413 وسعى لتوحيد الدولة العثمانية.
عزز محمد جلبي سلطته في الأناضول واستولى على مدينة بورصا وأماصيا وانتهت عهدته بإعادة تنظيم الدولة العثمانية واستعادة هيبتها من جديد. وتوفي سنة 1421م.
تولى مراد الثاني أمر السلطنة بعد وفاة أبيه محمد الأول عام 825هـ/1421، وكان عمره لا يزيد على ثماني عشرة سنة، كانت حالة الدولة العثمانية تمكنها من اتخاذ بعض الخطوات الهجومية. وقد رأى أن يعمل قبل كل شيء على إعادة إمارات الأناضول إلى حظيرة الدولة العثمانية بعد أن استولى تيمورلنك عليها عند سيطرته على المنطقة.
استردّ مراد الثاني ما أخذه السلاجقة من أراضي العثمانيين، واستعاد العثمانيون ثقتهم وقوتهم في عهده، فاتجهوا إلى أوروبا. لم تنسَ أوروبا هزيمتها في نيقوبولس وما لحق بها من عار، فراحت تكون جيشًا كبيرًا من المجريين والبولنديين والصرب والبيزنطيين، وهاجمت ممتلكات الدولة العثمانية في "البلقان". وفي البدء تمكن المسيحيون من إحراز عدة انتصارات على جيوش السلطان مراد الثاني، إلا أنه جمع قواته، وأعاد إعدادها وتشكيلها. وفي 13 جويلية سنة 1444 م، الموافق 26 ربيع الأول سنة 848 هـ، أبرم السلطان مراد الثاني معاهدة سلام مع إمارة قرمان بالأناضول، وعقب ذلك توفي أكبر أولاد السلطان واسمه علاء الدين، فحزن عليه والده حزنًا شديدًا وسئم الحياة، فتنازل عن الملك لابنه محمد البالغ من العمر أربع عشرة سنة، وسافر إلى ولاية أيدين للإقامة بعيدًا عن هموم الدنيا وغمومها. لكنه لم يمكث في خلوته بضعة أشهر حتى أتاه خبر غدر المجر وإغارتهم على بلاد البلغار غير مراعين شروط الهدنة اعتمادًا على تغرير الكاردينال "سيزاريني" مندوب البابا وإقناعه ملك المجر أن عدم رعاية الذمة والعهود مع المسلمين لا تُعد حنثًا ولا نقضًا.
وكان السلطان محمد الثاني قد كتب إلى والده يطلب منه العودة ليتربع على عرش السلطنة تحسبًا لوقوع معركة مع المجر، إلا أن مراد رفض هذا الطلب. فرد محمد الثاني الفاتح : "إن كنت أنت السلطان فتعال وقف على قيادة جيشك ورياسة دولتك وإن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش". وبناءً على هذه الرسالة، عاد السلطان مراد الثاني وقاد الجيش العثماني في معركة فارنا، التي كان فيها النصر الحاسم للمسلمين بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1444 م، الموافق في 28 رجب سنة 848 هـ. وهكذا تكون الدولة العثمانية منذ إنشائها إلى فتحها للقسطنطينية قد مرت عليها فترتان:
• تمتدّ الفترة الأولى من استقلال عثمان بالدولة سنة 700هـ/1300م إلى هزيمة بايزيد الأول في موقعة أنقرة سنة 805هـ/1402م.
• أما الفترة الثانية، فتبدأ من إعادة إنشاء الدولة في عهد السلطان محمد الأول (جلبي) سنة 816هـ/1413م حتى فتح القسطنطينية سنة 858هـ/1453م. 4[5]