سمات الفلسفة الفينومينولوجية:

في الحقيقة، ينبغي علينا، بادئ ذي بدء، أن نبرز سمتين أساسيتين من سمات الفينومينولوجيا، فهي منهج في المحل الأول ينحصر في وصف الظاهرة أي: ما هو معطى مباشر. ومن زاوية أخرى، فإن الفينومينولوجيا باعتبارها منهجا تغض النظر عن العلوم الطبيعية، أي لا تنتبه إلى نتائجها وبالتالي تتعارض مع المنهج التجريبي، كون أن الأساس الذي تقوم عليه فينومينولوجيا هوسرل مؤداه أو مفاده إنقاذ العلوم الإنسانية من المنهج الاستقرائي الذي اتخذته اعلوم الطبيعية منهجا لها حيث كان هوسرل يرى بأن المنهج الاستقرائي الذي يركز عليه دراساتهم الفلاسفة الأونتروبولوجيون والاجتماعيون أمثال: (أوجست كونت)، (إيمل دوركهايم)، (إرنست ماخ)...إلخ لا يصلح أساسا لقيام العلوم الإنسانية عليه، كوم أنه منهج كمي يدرس الظاهرة الطبيعية بما هي مادة حية أو جامدة. في حين أن الظاهرة الإنسانية متغيرة وغير محددة كالظاهرة الطبيعية، وأنها أكثر حرية وحركة، من ثم لا يمكن لنا إخضاعها للمنهج التجريبي، وبالتالي تنفصل في ذات السياق الفينومينولوجيا مع مبحث الهيرمينوطيقا أو ما يسمى بالفلسفة التأويلية حيث يقول (دلتاي ويلهام) مقولته لشهيرة أين ميز بين وظيفة فعل التفسير من جهة والفهم من جهة أخرى. 

 Dans le monde absolu les hommes ne sont pas des choses pour expliquer leurs comportements. Nous expliquons le phénomène naturel et nous comprenons le phénomène humain.

موضوعها:

الواقع أن التطور الذي طرأ على الفكر البشري، فيما يتصل بتفعيل دور العقل في إدراك الأشياء، يعود إلى الفلسفة الفينومينولوجية (الظاهراتية) التي استبدلت مفاهيم كثيرة مثل الوجود بالقوة والوجود بالفعل، والجوهر والماهية، بما يسمى بالظاهرة والشيء في ذاته ومفهوم الحياة. لقد كان لظهور الفينومينولوجيا على يد هوسرل أثرا كبيرا في طرح مفهوم الحياة، والذي من خلاله استند على الوعي الإنساني الذي يرتبط بالأشياء الخارجية أو الظواهر التي تمثل موضوعا للوعي. ولما كان الوعي هو وعي بالذات، وأن الموضوع هو الظاهرة، فالعلاقة بينهما هي علاقة معرفية، تلك التي تأتي من خلال الذات وتعبر عن دلالة الظاهرة. (نبيهة قارة، الفلسفة والتأويل، 1999، ص: 34، 35)

منه، يمكن القول أنه من خلال العقل وحسب يمكننا تأويل الواقع القائم. إن العقل الذي اغترب طويلا بفعل تفعيل مقولة الحياد أو الموضوعية، هو الذي يستطيع أن يرصد ويفهم ويحلل ويدرك الواقع القائم أو قل موضوعه. لقد بات العقل وفق هذه الرؤى الفكرية هو سيد الفكرة ومكون الوجود، إذ ن خلاله نستطيع أن نحلل العالم الخارجي. فالعقل هو مصدر التحليل، بل والتأويل، أو هو فهم الفهم، حيث أن الأشياء التي يدركها ما هي إلا صفات يخلعها الوعي من ذاته على الأشياء، فلا يوجد شيء في العالم الخارجي مستقل عن إدراكنا له، بل إن كل ما هو مدرك ليس إلا ثمرة لفعالية الذهن. (مطاع صفدي، استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية، 1986، ص: 58)

والحال تلك، فبالنسبة لموضوع الفينومينولوجيا، فهو الماهية Essence أي: المضمون العقلي المثالي للظواهر الذي يُدرَكُ مباشرة، بتعبير آخر، موضوعها هو رؤية الماهيات على حد تعبير الفيلسوف الوجودي الفرنسي (موريس ميرلوبونتي) في كتابه المعنون: "فينومينولوجية الإدراك". وبالفعل، هو نفس الهدف الذي أعلنه إدموند هوسرل في فلسفته الظواهرية حيث يقول ما يلي نصه:

"ينبغي الإتجاه في دراستنا إلى الأشياء ذاتها، هذه هي القاعدة الأولى والأساسية في المنهج الفينومينولوجي، وكلمة شيء تعني هنا المعطى الخارجي، أي ما نراه أمام وعينا. هذا المعطى يسمى ظاهرة لأنه يظهر أمام الوعي. ولا تدل كلمة شيء على حضور شيء مجهول خلف الظواهر، كما كان الأمر عند أفلاطون بخصوص عالم المثل المفارق لعالم المحسوسات."

من هنا، يظهر لنا رفض هوسرل القطعي للنظرية المثالية الأفلاطونية التي تزعم بأن المعرفة قائمة في تذكر عالم المثل، فهو يقول بأنه وضعي  والمعرفة قائمة على المعطى إلا أنه يختلف مع الوضعيون الذين يخلطون ما بين الرؤية بوجه عام والرؤية الحسية والتجريبية حيث لا يفهمون – حسب هوسرل – أن كل موضوع حسي ومفرد له ماهية، أي: صورة جوهرية، هي التي يتعين إدراكها إدراكا مباشرا لهدف الكشف عن حقيقتها.

أسس المنهج الفينومينولوجي:

ولبلوغ حقيقة، جوهر الشيء يجب على الفلسفة الظواهرية – حسب هوسرل – أن تستبعد الشك الديكارتي لأنه لا يضع وجود العالم الخارجي موضع الشك، فما عليها إلا أن تعتمد على ما يسمى ب:

تعليق الحكم:

وهو باللغة اليونانية (Epoché) : التوقف حرفيا. بمعنى، على الفينومينولوجيا (علم، دراسة الظاهرة) أن تضع بين قوسين عناصر معينة من المعطى وهي عناصر لا تهتم بها ومن بينها: مختلف المذاهب الفلسفية المثالية المجردة والميتافيزيقية التي تنحاز عن ضبط المفاهيم والدقة في النتائج. هذا، بالإضافة إلى "وضع المعتقدات كلها بين قوسين، فلا نلتفت إلا ما هو معطى لنا مباشرة. ووضع الوجود كله بين قوسين، ويقصد به البحث في الماهيات بغض النظر عن وجودها مثل وجود الأنا وهو في هذا يوسع دائرة الشك الديكارتي حيث يشك حتى في وجود الأنا وجودا مسبقا [أي وجودها كفكرة قبلية أو فطرية]، فهذا الوجود كغيره من الأشياء يجب أن يوضع بين قوسين، لأن الفينومينولوجيا لا تهتم بآراء الآخرين بل تتجه إلى الأشياء ذاتها. (زهور حمر العين، النقد الفينومينولوجي عند إدموند هوسرل، ص: 84)

والحقيقة، إن المفاهيم مثل الإيبوخي (تعليق الحكم)، توحي بحركة نقدية منذ النشأة الأولى للفينومينولوجيا فكان نتيجة ذلك كتاب: (أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانسندنتالية)، حيث ينتقد النزعة الموضوعية ويحذر من خطورة نسيان عالم العيش اللذين يقفان عائقا دون قيام الفلسفة كعلم صارم، فلسفة متعالية راديكالية بحق ترفض الركض وراء معطيات الوعي، وتدع الأشياء تكشف عن ذاتها، (المرجع نفسه، ص: 74) بفعل القصدية الكامنة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة الذي يطلق عليه هوسرل تسمية المعطى المباشر.  

 الرد أو الإختزال الماهوي:

ويقوم على التمييز بين الواقعة Fact والماهية Essence، وفيها ترد الوقائع الجزئية إلى الماهية الكلية، كرد كل أنواع الأحمر المتجلية في هيئة مختلف الأشياء الحمراء إلى ماهية الحمر، وترد مختلف أفراد الإنسانية إلى ماهية الإنسان. (المرجع نفسه، ص: 84)

الرد أو الإختزال الترنسندنتالي:

ويقوم على التمييز بين الواقع Réel وبين اللاواقعي Irréel وفيه ترد المعطيات الواقعية الحسية التجريبية إلى الشعور الخالص، وبهذا تضعنا الفلسفة الظاهراتية أمام عالمنا المعيش الذي نحياه ونعيش فيه بكل حرية. (كامل فؤاد، أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص: 166)

Last modified: Tuesday, 9 April 2024, 12:02 AM