1- -ظهور التفكير النسقي:إن تتبع تاريخ ظهور التفكير النسقي أمر شيق لكن ليس من السهل تتبع جميع المراحل، ولهذا سنحاول في هذا العنصر إيضاح المراحل التي مر بها التفكير عموما من التفكير التحليلي والمؤسس على السببية الخطية، الحقيقة، الموضوعية، القابلية للتنبؤ...) إلى تفكير نسقي والذي يتأسس على مفاهيم السببية الدائرية،عدم القابلية للتنبؤ، عدم الاستقرار والحقيقة المبنية عن طريق الملاحظ.

2- من التفكير التحليلي إلى التفكير النسقي: إن عصر ديكارت ونيوتن كانت تغلب عليه النظرة الميكانيكية (قوانين الميكانيك)، حيث أن النموذج الكوسمولوجي لنيوتن سمح بتوقع موقع كوكب عند قدومه بمجرد معرفة وضعه الماضي أي موقعه السابق، أي بمعنى آخر الماضي يحدد الحاضر والمستقبل أي أن إمكانية التنبؤ بالعالم موجودة)، لكن مع تطور البيولوجيا والنظرية النسبية لأينشتاين وديناميكا الحرارة...، كل هذا ساهم في تغيير نظرة العلم للواقع، حيث قوانين الميكانيك القديمة لا تنطبق على هذه العلوم الجديدة.

بحيث أن قوانين الديناميكا الحرارية أدخلت مفهوم غير القابلية للعودة irreversibilité وقانون الانثروبيl’entropie*وهذا في السيرورات الفيزيائية والكيميائية.

في المقابل قام البيولوجي فان بارتالانفي(van bertalanfey,1937) مع ماسي(macy) بتقديم النظرية العامة للأنساق وهي نظرة جديدة للتعامل مع الأحداث والتعقيدات والمراد هنا هو التعاملمع النسق ككل بدون عزل أجزائه، إذن فدراسة الأنظمة تسمح بملاحظة سيرورات وعوامل متخفية، إذن فعندما نطبق المنهج التحليلي فهذا الطرح يتركز حول عزل أجزاء الظاهرة (أجزاء النسق والتعامل معه على حدى متناسيا في ذلك مختلف التفاعلات الواقعة.

 من هنا جاءت فكرة التفاعلات وبالتالي السببية هي عوامل دائرية (circulaires) وهذا ما سمحت مفاهيم السيبرنطيقيا(cybernétique) بفهم أجزاء منه عن طريق مفهوم الارتجاعية(la rétroaction)، فجميع حلقات النسق تدفع إلى أن يبقى النسق في حالة توازن (homéostasie)، إذن فالنسق يصبح في حد ذاته هو أحسن طريقة لفهم نفسه وتحديد تاريخه.

في المقابل وقبل أن تتحد مفاهيم النسقية بدقة فقد أثبتت الميكانيك الكمية استحالة الملاحظة دون تغيير موضوع الملاحظة(feyman,1990) كما وضع (Heisenberg) مبدأ الشك والذي يرى بأن الملاحظة والقياس لظاهرة ما يتأثرون بهذه الظاهرة في حد ذاتها بحيث أن النتيجة ليست انعكاس للحقيقة المطلقة كما أن هناك عدة تساؤلات في الطب العقلي فرضت نفسها.

فهل المريض النفسي هو المصدر الوحيد لمرضه؟ وكيف نفسر تحسن مريض نفسي في الأسرة وظهور عرض ما عند فرد آخر، أو بالمقابل كيف نفسر تحسنات متسلسلة لأعضاء في الأسرة مره واحدة، وكيف نفسر كذلك ظهور عرض عند أحد أفراد الأسر، بمجرد حدث جديد في الأسرة كالميلاد أو الزواج...إلخ.

إذن فكيف تفسر كل هذه الظواهر،وكما يقول موني الكاييم(Melkaime, 1995) فالمريض النفسي ليس مصدر مرضه لوحده ولكن مرضه مرتبط بتغيرات علائقية مهمة للفرد ومن أجل تفسير هذا ظهر اتجاهان في هذا المنحى يحاولان الإجابة عن هذا التساؤل:

-    في الجهة الشرقية: والتي متأثرة بنازحين كثر من أوربا، فالتقليد التحليلي (التحليل النفسي) كان له أثر كبير من التاريخ المرضي كعامل مفسر للمرض النفسي فالحاضر يفسرعن طريق الماضي والذي ينتقل من جيل إلى جيل كالخرافة والطقوس والتقاليد والعادات،في هذا الإطار الذي يمزج الحاضر بالماضي نجد ناثان اكرمان (Nathan,ackerman) والذي كان من الأعمدة، لكن أبعاده أعيد ادماجها ليس على مستوى الاثار التي تتركها هذه الأحداث على المستوى الشخصي ولكن أعيد ادماجها في كيفية ربطها لأعضاء الأسرة ككل وكيف يصبح بإمكان الفرد التأثير على الأخرين، فإفانبوزورمونيناجي(I.b.nagy) حاول تفسير هذا الرابط عن طريق ميزان الأخذ والعطاء(La balance du donnée et du reçu) والذي يبرر الأفعال الحاضرة باسم العدالة العلائقية(l’éthiquerelationnel) والتي تأسست على أساس الشرعية(la légitimité) والإستحقاق(le mérite) والإرث الذي نحمله من أسرنا الأصلية (سنعود إلى هذا بالتفصيل في محور العلاج الإطاريcontextuelلناجي) من جانبه أصر بوين (Bowen) على سيرورة تفردن الذات.processus de différenciation du soi(M ,heirman,1999).

 في الجهة الغربية: كان لهم الأفضلية في التوجه نحو آفاق جديدة حيث كان هناك ملتقى متعدد لعلوم كثيرة، فمساهمة النظريات الجديدة كنظرية الأنساق لبارتا لونيفي(Bertalanfey)والسيبرنيطقا...الخ أثمر بأعمال لمدرسة بالو آلتوpaloaltoMRI etفي كاليفورنيا، فمفهوم التفاعل هنا والآن أخذ خطوة هامة في أعمالهؤلاء الباحثين، ووضع جانبا أثر الماضي في الحاضر، لمفهوم التوازن(L’homéostasie) في هذا الأفق، لم يصبح العرض عند الفرد عبارة عن اضطراب نفسي داخلي لكن يأخذ جذوره ويدلعلى اضطراب داخل النسق الأسري، ومن هنا أصبح البحث منصبا على وظيفة العرض في هذا النسق الأسري، فإن كان العرض يضمن التوازن الأسري(L’homéostasie)، فإن زواله لا يكون سهلا وسيبقى لمدة طويلة.

ومع أعمال (johen. Weaklandet D.jacksonet j.p.watslawick,)خوات هامة ثم قطعها بحيث أظهر هؤلاء الباحثين كيف أن العرض (المرض النفسي) يمكن فهمه كنتيجة لفعل إتصالي، وكيف أن الملاحظة وتغيير التفاعلات تساهم في خلق تغييرات جذرية وحاسمة.

بعد ذلك وبقليل ومع دخول السيبرنيطيقا الثانية (2èmecybernétique) في أعمال فون فورستر (VonForester)انقلبت الأمور بشكل أكبر، كفكرة أولى والتي كانت مفتاحية حيث أن الملاحظ (المعالج النفسي) لا يستطيع أن يكون خارج النسق الأسري الملاحظ، وبالتالي أصبح لزاما عليه أن يكون عضوا في هذا النسق الأسري يلاحظ ويغيير عبر انتمائه لهذا النسق وليس كملاحظة فقط.

فكرة ثانية وهي أنه لا توجد حقيقة أخرى غير التي يبنى بين المُلاحِظ والمُلاحَظ وقي هذا الأفق أصبح مفهوم "الحقيقة الموضوعية"أمر نسبيا ليستدل بالحقيقة التي تبنى بين الملاحظ والملاحظ(M Elkaim, 1995).

ومن هنا كانت الانطلاقة الحقيقة للعلاج النسقي الأسري والذي لا يزال يشق دربه حتى يومنا هنا.



*أنتروبيantropie: هو مفهوم لتحديد الديناميكية الحرارية أي مقدار تدهور الطاقة في نظامنا، حيث أنه عندما يكون لدينا نظام مغلق في حالة تطور بدون مادة أو طاقة، أو دون معلومات، فهل يؤول نحو الانحطاط، ويذهب إلى حالة كبيرة من عدم الانتظام،إنه يؤول نحو حالة من عدم التأكد،إذن  الأنتروبي تسمح بقياس هذا الميل نحو عدم الانتظام والانحطاط (Dictionnaire hachette,2012)، في مقابل ذلك وفي الأنظمة المفتوحة حتى ننقص من حدة الأنتروبي يجب العمل على la néguentropieبمعنى آخر الطاقة والمادة اللازمة(بالنسبة للأسرة هذه المادة والطاقة هي المعلومات)(G.ausloos,2005,p52)

Modifié le: Thursday 7 December 2023, 18:52