وهو في حقيقته شكل من أشكال الأسلوبيات المقارنة، مع اختلافات جذرية من حيث الموضوع والمنهج والهدف. ويعنى هذا الفرع بدراسة نصين أو أكثر لكاتبين أو لمجموعة من الكتاب، في عصر واحد أو في أعصار متباينة، داخل جنس واحد أو أجناس مختلفة، شريطة أن يتم ذلك داخل اللغة الواحدة، أي "أن الأسلوبية المقارنة تحصر نفسها في إطار اللغة الواحدة ولا تتجاوزها، وهي بهذا تختلف اختلافا بينا عن الأدب المقارن الذي يدرس علاقات التأثير والتأثر بين الآداب العالمية أو في آداب أمة بعينها أو في أي نطاق اللغة الواحدة".

    ولابد لهذا الفرع ليكون مثمرا أن يراعي مجموعة شروط في التحليل المزدوج أو المتعدد، فلا يمكن أن نتصور أن المقارنة الأسلوبية تكون بأي كيفية كانت دون ضوابط:

    أولا ـ أنها مقارنة معللة: فلا نتصور المقارنة بين جنسين أدبيين عند أديبين مختلفين لغياب المسوغ في مراحل زمنية شتى، في حين يجوز ذلك عند الشخص الواحد ولو اختلف الجنسان، بغرض معرفة طبيعة أسلوبه في فنين أو جنسين متباينين؛ وللوقوف على طائفة التحولات التي تطرأ على أسلوبه إذا خرج من فن ودخل في آخر، أو إذا اختلف سياق الصياغة، أي لا بد أن يكون هناك وجه لارتباط ما يكون دعامة للمقارنة وعلتها، كأن نقارن بين جنس السيرة الذاتية وبين الشعر والمقالة عند عباس محمود العقاد أو الرافعي أو غيرهما، وكالاختلاف الحاصل في طرائق التعبير ودروب الوصف في سياقين مختلفين عند علي بن الجهم  الذي أساء مطابقة الأسلوب لسياق الموقف حينما امتدح المتوكل على سجيته البدوية أول الأمر فقال:

أنت كالكلب في حفاظك للود     وكالتــيس في قراع الخطوب

أنت كالدلو لا عدمـنـاك دلوا     من كبار الدلاء عظيم الذنوب

فعلم المتوكل ما خالط الطبع من الخشونة والبداوة ما أفرز هذا المديح، فأمر له بدار على نهر دجلة ببغداد، ثم دعاه ثانية لينشده، فقال:

عيون المها بين الرصافة والجسر     جلبن لي الهوى من أدري ولا أدري

فتعجب المتوكل من حاله فقال: لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة !

    ثانيا ـ أن المقارنة الأسلوبية أعمق أثرا من مجرد التطبيق، فهي تشمله وتزيد عليه المقابلة، وهي فوق ذلك خلاصة التطبيق وزبدته، فهي تطبيق تجاوز مجرد إثبات القيمة، كما أنها عبارة عن تطبيق مركب أو معقد بحسب طبيعة الأعمال التي تتصدى لمقارنتها، وعلى هذا يجب أن يكون المحلل الأسلوبي المقارن على درجة عالية من حساسية الذوق؛ لأنه إذا كان من اليسير عليه في التطبيق المجرد تمييز الأسلوب الأدبي، الذي يخلق القيمة ويوجد المفارقة الأسلوبية، من الأسلوب المحايد، فإن عمل المقارن أشد صعوبة وأكثر كلفة، والصعوبة متأتية من كونه لا يميز بين ما هو أدب وبين ما ليس أدبا، بل من كونه يروم تحديد الفروق والتطابقات بين أساليب تجمعها خاصية الأدبية وفرقتها الأشكال أو الأشخاص أو الأزمان أو الجغرافيا، وهو أمر ليس باليسير، لأنه مظنة للالتباس والتداخل، وبقدر ما يكون المحلل الأسلوبي ذواقا يكون قادرا على التمييز، وتكون أحكامه التي يطلقها بخصوص معالم المقارنة أقرب للصحة والاكتمال.

ثالثا ـ التخفف قدر الإمكان من أحكام القيمة المتولدة من المفاضلة والترجيح على أساس المنشئ أو المجتمع أو المتلقي، وهي مجازفات تخرج المقارنة عن هدفها ومنهجها. إن هذا الثالوث وإن يكن له أهمية في تشكيل الخطاب أي خطاب، والأدبي منه على وجه الخصوص، فإن المستند الذي يكون به الخطاب جماليا إنما هي أمور داخل ـ خطابية ناتجة عن مقدرة فذة على حسن التصرف اللغة لتولد لنا أسلوبا.

  وبما أن الخطاب يتشكل من مستويات أو مدارات، فإن المفارقة قد تتخلق على امتداد تلك المدارات، وعلى المقارن أن يتتبع حضور المخالفات الأسلوبية للمعايير القارة، سواء كان ذلك في مستوى الأصوات والإيقاعات إن كان موضوع، أو في مستوى التصريف وتوليد الصيغ وتواتر بعضها في مقابل غياب أخرى وارتباط ذلك بالمعاني، أو كان في مستوى المعجم وتفضيل وحدات دالة بعينها ونسب تكرارها ومعدلات ورودها في مقابل غيرها، وأنماط الترادف أو التوليد اللفظي أو التناسبات اللفظية أو المتضادات أو ألفاظ المشترك، ووجوه العدول الدلالية المدخلة على الكلمات وغيرها، أو في مستوى التركيب، بتتبع التنميطات التركيبية الشائعة في نص في مقابل غيره عند مؤلفين فصاعدا، وطبيعة الجمل طولا وقصرا، ووجوه التأليف من تقديم وتأخير، وحذف وإضمار، وفصل ووصل وغيرها، أو في مستوى التصوير الذي يتوزع بحظوظ مختلفة بحسب نوع النص، فيتتبع المحلل الأسلوبي المقارن المجازات على اختلافها ويبحث في كيفيات تخلق الصور وفي ما تضيفه من قيمة دلالة وشحنة تأثيرية وبراعة منشئ دون آخر في تسخير اللغة في توليد صور جديدة وتجاوز المألوف وتفرده في القدرة على استثارة المتلقي من أجل تعبئته لصالح ما المضامين التي يطرقها وهكذا، وبالقدر ذاته وفي الاتجاه نفسه تسعى المقارنة للموازنة بين الأجناس المختلفة في نقطة قد تحضر في واحد منها دون غيره، لأن الاختلافات التي تعطي الأساليب شرعية الوجود، وتكسبها تميزها تعود أساسا إلى سببين اثنين: ()

  ـ أما الأول فالجنس الذي تكون فيه الكتابة، وهو الذي يحول الأسلوب إلى "واقع موضوعي، من خلال التحاقه بالأشكال النصية المميزة، فبمجرد أن تفرغ اللغة في الواقع الحي وتشتق في صورة الرواية أو المقالة أو الشعر .. يكون ذلك إعلانا بميلاد الأسلوب مفعما بخصوصيات الجنس الأدبي المختار، "فالموضوع هو السبب الأول الذي يقوم عليه اختلاف الأساليب، ويراد بالموضوع الفن الذي يختاره الكاتب ليعبر به عما في نفسه، علما أو أدبا، نظما أو نثرا، مقالة أو قصة أو رسالة أو خطابة..  فلكل فن منها أسلوبه الخاص الذي يلائم طبيعته" (). وقد يتزاحم فنان على بوابة ضرب معين من الأسلوب كما حدث ذلك في أوروبا في عصر النهضة حيث تنافس الشعر الغنائي والتراجيدي الذي كان مرتبطا بالديني والمقدس مع الملحمة في الأسلوب المتعالي الذي كان يؤدي الوظيفة الكهنوتية ().

  ـ وأما الثاني فالكاتب الذي يكسب اللغة المشتقة في شكل إرسالية خطابية خصوصية لم تكن لها من قبل، وهو على حد تعبير راستيي المعول عليه في بعث الفرادة داخل الأسلوب التي تكسب الخطاب خاصية عدم القابلية للاستبدال في مستوى الواقع الشخصي، بما يدخله على اللغة من خصوصية التجميع المتناسق. 

كما يمكن أن يختلف الأسلوب باختلاف البيئة التي تفرزه، فكما أن للفن أثره وللشخص أثره، فإن للحقبة التاريخية وللطبقة الاجتماعية أثرهما كذلك في الأسلوب، ولقد أقام فابري ثلاثية للأساليب العالي والمتوسط والبسيط في مقابل الطبقات التي ينتمي إليها، وأخرج لنا "تماثلا بين الأساليب الثلاثة والأوضاع الثلاثة: ينطبق الأسلوب الأول على الكبار متضمنا البابا والملوك، وينطبق الثاني على البورجوازيين، والثالث على طبقة الفلاحين والخدم" ()، ومن قبل ربطت تلك المستويات من الأسلوب باختلاف المدارس مع شيشرون الذي ميز في ذلك بين مدارس ثلاث للفصاحة هي الأسيوية والرودوسية واللاتينية، أو اختلاف الأجناس مع ديوميد بعد القرن الرابع، وفي الفترة نفسها ربط دونا ذلك بما يسمى الموضوعاتية المتباينة "التي تقول: كل أسلوب يقابله حقبة في العالم وحالة اجتامعية ونوع من المشهد الطبيعي" ()، فجملة الميزات الأسلوبية على هذا، كما تكون شخصية يتركها المؤلف أثرا، تكون اجتماعية كذلك "فنجد العصر الواحد من العصور الأدبية له طوابع عامة شائعة بين أدبائه، منها تتكون ميزاته الأدبية أو شخصيته الأسلوبية يخالف بها سائر العصور" ().             

 

Modifié le: Friday 26 November 2021, 23:13