1. نظريات الاستراتيجية و تطورها في القرن العشرين

يمكن أن تكون الإستراتيجية "فن" كما هي علم، وذلك أثناء تطبيقها وممارستها عمليا ،وبشكل دقيق هناك تمييز مثلا في المجال العسكري بين النظرية العسكرية و العمل العسكري:"كل قطاع،وكل مستوى في الحقل العسكري له هذين الجانبين،النظري والعملي".إن كل نشاط أو فعل يكون مقادا من خلال القوانين،و المبادئ و الطرائق، وهذا الفعل أو النشاط يقام أولا من خلال النظرية. ثم يأتي الفعل والممارسة ليزيد من غنى النظري.
و في اطار هذا المبحث سنحاول التطرق الى مختلف النظريات التي اطرت ميدان الفكر الاستراتيجي قبل ان نتطرق الى تطور الاستراتيجية خلال القرن العشرين
نظرية المباريات :Game Theory

 تعتبر نظرية المباريات من الناحية التحليلية شكلا من أشكال نظرية اتخاذ القرار لأنها تقوم بدراسة و تحليل تصرفات صناع القرار من حالات الصراع المختلفة أو بعبارة أخرى تصف الكيفية التي يتصرف بها الناس العقلانيون .rational people لانتهاج الخيارات الرشيدة عن المواقف الصراعية و التي تحقق لهم اكبر قدر ممكن من القيم او المكاسب و تجنبهم الخسائر بقدر الامكان او على الأقل تقليصها إلى اقل حد ممكن ، بمعنى اخر فهي تركز على التعامل مع صراعات المصالح كما لو كانت مباريات في الاستراتيجية و كانت هذه النظرية قد عرفت في 1944 م من طرف اوسكار مور و جوننورمان في كيتابيهما نظرية المباريات و السلوك الاقتصادي إلا انها بعد ذلك اثبتت صلاحيتها في المجال السياسي خاصة فيما يتعلق بالإستراتيجية و التخطيط للدفاع و اتخاذ القرارات السياسية الخارجية . و قد جاء بعد ذلك عدد من المفكرين أمثال هنري كاهن برنارد برودي هنري كسنجر رونالد برييان حيث طوعوا هذه النظرية للاستخدام في الصراعات السياسية بصفة عامة و في مشكلات الحرب و السلام بصفة خاصة و نظرية المباريات في ابسط معانيها هي دراسة الاستراتيجيات التي يتبناها الأطراف في مواقف النزاع

تعد نظرية اللعبة واحدة من المناهج المستخدمة لدراسة العلاقات الدولية، وتسمى أيضاً نظرية المباريات، بالرغم من ان نظرية اللعبة تقوم على وجود تشابه بينها وبين العاب التسلية، إلا أنها تخوض في معضلات أكثر جدية تتعلق بـ بالعلاقات الدولية، وطورت هذه النظرية أساسا في الرياضيات والاقتصاد ثم انتقلت الى العلاقات الدولية، ويعد عالم الرياضيات الأمريكي جون فون نيومان (1903 ـ1957)، هو من وضع هذه النظرية وعرفها على انها " مجموعة من العمليات الرياضية التي تهدف الى إيجاد حل لموقف معين يحاول فيه الفرد جاهدا ان يضمن لنفسه حدا أدنى من النجاح عن طريق أسلوبه في المعالجة رغم ان افعاله واسلوبه لا تستطيع تحديد نتيجة الحدث بشكل كامل  وانما مجرد التأثير فيه"  بينما العالم مارتن شوبيك الذي كان من المساهمين في تطوير نظرية اللعبة في العلاقات الدولية يعرفها على انها " طريقة لدراسة صناع القرار في حالات الصراع". وتنقسم نظرية العبة الى نوعين: اللعبة الصفرية: التي يمثل أي مكسب يحققه طرف خسارة متساوية القدر بالنسبة للطرف الاخر، وهذا الوضع هو عادةً ما يتكون خلال الحروب بين الدول، مثل الوضع الذي ساد اثناء الحرب العالمية الثانية وأسفر عن هزيمة دول المحور امام دول الحلفاء. واللعبة الغير صفرية: حيث يفترض وجود مساحة واسعة للتنسيق والتعاون بين طرفي عملية الصراع اذ انهما قد يخسران معا او يكسبان معا. وهذا الوضع عادةً ما يكون في أوقات الاعتيادية (ليس وقت الحروب) وان كان هنالك تنافس وصراع بين الدول، وفي معظم الأحيان فأن التنافس بين الدول والنظم هو من قبيل الألعاب غير الصفرية. 

نظرية الردع /توازن الرعب النووي :Restraint Theory

الردع بمفهومه العام هو توافر القدرة التي تتيح إرغام الخصم من دون القيام بأعمال عدوانية و يعني إحباط الأهداف التي يتوخاها من ورائه تحت التهديد بإلحاق أضرار جسيمة به تفوق المزايا المتوقعة من وراء الأقدام على مثل هذه التصرفات ، و الردع في نظر الكثير من الباحثين يعتبر بمثابة المحصلة النهائية للتفاعل في العديد من العوامل و المتغيرات العسكرية و السياسية و الدعائية التي تضع الخصم في حالة نفسية يحجم معها عن تقبل المخاطرة و من ثمة فإن الردع الفعال هو المتعدد العناصر و الاشك

و هناك ثلاث عناصر رئيسية تشكل في مجموعها ما يمكن ان يعطي للردع فعالية و قابلية للتصديق و بالتالي تدعيمه:

توافر المقدرة على الثأر : من خلال الدعاية لهذه المقدرة لتأكيد فعاليتها للطرف الأخر كما يستطيع الكشف عن تفاصيل هذه القوة أو كشف النقاب عن أمور معينة تفيد الطرف الأخر بشكل مباشر أو غير مباشر في بناء تصور عنه ولان الردع لا يجوز أن يبقى سرا فهو يحتاج لنقل بعض المعلومات للطرف الآخر شريطة أن لا تخدم الخصم .

التصميم على استعمال هذه القدرة الثأرية في ظروف معينة بعيدا عن أي استعداد للمساومة أو التخاذل أو التراجع ذلك انه إذا أحس الطرف الثاني باستعداد الطرف الرادع للتراجع أو المساومة فانه يعتمد إلى ممارسة بعض الضغوطات و التصرفات التي لن تكون في مصلحة الرادع و من هنا يكون تأثير الردع ضعيف .

و هناك من الدول من تمتلك القدرة الثأرية لكنها تفتقر إلى التصميم في استخدامها نتيجة إيمانها بان الاذعان و التراجع للخصم اقل خسارة من المخاطرة في حرب انتحارية، إضافة إلى ضغط الحركات و التجمعات الوطنية المنادية بعدم استخدام الأسلحة النووية و عدم حل الصراعات بوسيلة الحرب المسلحة (المواجهة المباشرة) و هذا العنصر يمكن تطبيقه على علاقات الإتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة الأمريكية خاص من جانب USSR الذي لجأ إلى المساومة للحصول على اتفاقيات الحد من التسلح

ان الردع لا يصل إلى مستوى استخدام القوة و إنما يركز على أساس حشد عناصر القوة و التلويح أو التهديد بها لذلك هناك من يرى ان الردع هو تهديد جدير بالتصديق في تنفيذه . و قد اخذ الردع أهميته في إطار وجود السلاح النووي و هو ما يعرف الردع النووي أو توازن الرعب النووي balance of nuclear teror في ظل التطور الملحوظ كما و كيفا مع استبدال القنبلة الذرية إلى القنبلة النووية ، القاذفات الاستراتيجية و الصواريخ العابرة للقارات و الغواصات النووية

نظرية الاحتواء (theory of containment (1945 – 1953

تعد هذه النظرية من النظريات الأولى للإستراتيجية الأمريكية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية و قد أسسها و بلورها جورج كنان الدبلوماسي الأمريكي المتخصص في الشؤون السوفياتية و نفذتها حكومة الرئيس هاري ترومان و تعني في نظر صاحبها التعهد الشامل لمقاومة الشيوعية انى وجدت، و يراها العالم الاشتراكي مخططا لسيطرة عالمية أعدته الامبريالية الأمريكية و تقويضا من النظام الذي انبثق عن الحرب العالمية الثانية الذي يقوم على التوازن في العالمين الرأسمالي و الاشتراكي و نبذهما للحرب و تأكيدهما على مبادئ التعايش السلمي و جاء تعبير الاحتواء لأول مرة في مقالة كتبها جورج كينان في مقالة نشرت في مجلة الشؤون الخارجية foriegn afairs لسنة 1947 و جاءت في وقت حل التوتر بالعلاقات الأمريكية / السوفيتية محل التحالف فكانت الحاجة لإعادة تقويم السياسة التي يجب على الولايات المتحدة الأمريكية إتباعها إزاء الاتحاد السوفيتي سابقا .

كما ارتبطت سياسة الاحتواء بالتطورات الجذرية التي حدثت في موازين القوى الدولية نتيجة الهزيمة التي ألحقت بالنازيين و هو ما سمح للتنظيمات النوعية بالتواجد بين مختلف دول المجتمع الدولي و فرض روسيا الشمالية سيطرتها المباشرة على تلك الدول بوسائل القوة المسلحة من شرق أوروبا كما دفعت هذه المخاوف الكثيرة من دول أوروبا إلى الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية التي تمتعت باحتكار الأسلحة النووية آنذاك و محاربة المخططات التوسعية الجديدة للاتحاد السوفيتي في القارة الأوروبية.

و تمثل الإطار النظري لسياسة الاحتواء على اجراء تحليل شامل للأهداف الاستراتيجية السوفيتية و تحليل الطرق التي من خلالها ينظر الإتحاد السوفيتي للغرب الذين يعتبرونه العائق الرئيسي في وجه الشيوعية حيث يقول كنان : ان الاستراتيجية السوفيتية كانت في حالة جس نبض دائم و في مختلف الاتجاهات للحلقات الضعيفة مركز الغرب أو تلك التي كانت تشكل نزاعات قوى يمكن النفاذ منها و استخدامها كنقطة وثوب نحو إحداث تغيرات تتواءم و الأهداف البعيدة المدى لهذه الاستراتيجية و يضيف أن هذه الاستراتيجة كانت مرنة و لم تكن مقيدة بوقت محدد لبلوغ أهدافها و لم يكن لها تقييد في الوسائل التي يجب استعمالها لتحقيق الاهداف.

و قد اعتمدت سياسة الاحتواء عن تحقيق أهدافها التدميرية لإتحاد السوفيتي أربع افتراضات و استراتيجيات :

الحرب الشاملة في حال هجوم على الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية

التفوق الجوي و مقدرته التدميرية تفوق تنفيذ أي استراتيجية هجومية للاتحاد السوفيتي

 افتراض عدم المخاطرة باستعمال القوة .

الاقتصار من جانب الاعتماد على فرع واحد من فروع القوات المسلحة.

وبقيت فكرة استخدام القوة مرتبطة في أذهان الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب الشاملة سواء للدفاع عن أوروبا من الهجوم الشيوعي و للدفاع عن الولايات المتحدة الأمريكية من الهجوم المباشر و قد اتخذ التطبيق الفعلي لسياسة الاحتواء الكثير من الأحلاف و القواعد العسكرية في كل مكان و خلق الحلف الأطلسي الذي يعتبر القوة الضاربة و الرادعة للاتحاد السوفيتي، أما في آسيا فبدأ تطبيق سياسة الاحتواء بعد سلسلة من مواثيق التحالف و ترتيبات الأمن الإقليمي و قد ظهر ذلك جليا بعد الحصار الذي فرضه الاتحاد السوفيتي على برلين و الانقلاب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا و الغزو الشيوعي لكوريا علما أن الولايات المتحدة الأمريكية سبق لها و أن أقامت ميثاق تبادل مع اليابان و كوريا الشمالية في 1953 و تعهدوا بالدفاع عن أي هجوم يقع من طرف الشيوعية و قام حلف جنوب شرق آسيا 1959 و حلف بغداد في الشرق الأوسط.

نظرية الانتقام الشامل : Massive Retaliation

هي نظرية بلورها جون فوستر دلاس ووزير خارجية الولايات المتحدة الامريكية في الخمسينيات و التي اعتقد أنها ستكون بمثابة التصحيح لكل الأخطاء و نقاط الضعف التي أسفر عنها تطبيق سياسة الاحتواء ضد الإتحاد السوفييتي في المرحلة التالية على انتهاء الحرب المباشرة . و تقوم هذه النظرية على أن الطريقة الوحيدة لردع أي معتد هي أن يقنعه مقدما بان أعماله العدوانية ستجلب عليه انتقاما مروعا يجعله يخسر أكثر مما يكسب و من ثمة فان الهدف من تطبيق إستراتيجية الانتقام الشامل لن يقتصر على مجرد محاصرة الكتلة الشيوعية و تطويقها ( كما كان الهدف من سياسة الاحتواء ) و إنما كان يتجاوز ذلك إلى العمل على تحرير هذه الكتلة و تدميرها ، و هدفها هو حمل الخصم على الاستسلام و فرض إرادة النصر عليه .

و قد اخذت الاهتمام من طرف الرأي العام الأمريكي الذي رفض مبدأ الحرب المحدودة في مقابل تأكيد المبدأ الأمريكي ''الامتناع عن حرب أو الدخول في حرب شاملة'' و كان ذلك ناتجا من تجربة الحرب الكورية ( 1950 – 1953 ) الفاشلة

لقد قامت هذه النظرية على ثلاث مقومات:

تخفيض للقوات البرية الأمريكية و تقليص حجم الانفاق العسكري
بناء جدار عازل للكتلة الشرقية عن طريق الأحلاف – حلف بغداد وحلف جنوب شرق آسيا
أي محاولة لانتهاك الشيوعيين( الإتحاد السوفييتي) لخط التقسيم الفاصل بين الكتلتين يشكل مبررا كافيا لدخول الولايات المتحدة في حرب شاملة ضدها.
لقد تعرضت نظرية الانتقام الشامل لأول اختبار عنيف لها أثناء حرب الهند الصينية 1954 و هو الاختبار الذي ثبت بعده أن التهديدات الأمريكية باللجوء إلى شن حرب شاملة بالأسلحة النووية لم تكن إلا من قبيل التهويل لذا فقدت قابليتها للتصديق كما أنها برهنت عدم قابليتها للحركة و التصرف في مواجهة الحروب المحدودة و النزاعات المحلية و أنها بالتجائها إلى التهديد بالحرب أذعرت حلفاء أمريكا حين أخفقت في إرهاب أعدائها و انتهت إلى حالة يرثى لها