3. كيفية تحليل النصوص التاريخية

إذا كانت الحضارة هي الوجود كما صنعه الإنسان فإن التاريخ هو دراسة ذلك الوجود من خلال تفاعل الإنسان مع بيئته وظروف عصره سلبا أو إيجابا، وهذا ما جعل التاريخ بحق الوسيلة الفضلى التي تمكن العقل البشري من تلمس ماضي الإنسان في مظاهره المادية وروابطه الاجتماعية، فحياة البشرية من خلال أحداث التاريخ ما هي إلا حوار بين الماضي والحاضر وحوار بين الأجيال وحوار بين الإنسان والزمن، وحوار بين كاتب التاريخ وبين مستقرئه
وقارئه من هذا المنطلق اكتسب النص التاريخي أهمية بالغة ومكانة مرموقة في تكوين شخصية الفرد وبلورة
ثقافة المجتمع.
إن معالجة مسألة دلالة النص التاريخي تفرض نفسها اليوم على القارئ العربي لكونها تستمد قيمتها من قيمة القضايا التي يتناولها هذا النص والمسائل التي يتعرض لها، ومن هنا جاءت صعوبة فهم التوجهات الثقافية المعاصرة وتحليل واقع الذهنية العربية التي تفضل الاستكانة إلى الماضي على التجاوب مع الحاضر. ومع اقتناعنا بأن تأزم الذهنية العربية اليوم بما يفرزه من تذبذب في المواقف واضطراب في القناعات وضبابية في الرؤية يعود في أساسه إلى قصورنا في تعاملنا مع واقعنا الثقافي وظروف بيئتنا ومتطلبات عصرنا، إلا أن ذلك يتعلق أيضا بفهمنا وتحليلنا للنص التاريخي، هذا النص الذي نحاول في هذا العرض تحليل دلالاته التاريخية انطلاقا من مجلة اللغة العربية.
المواصفات التي يختص بها والأفكار التي يعبر عنها، وهذا ما يتطلب منا قبل كل شيء تحديد إشكالية معالجة النص التاريخي، فكما قال أرسطو بأن على من يرغبون في الوصول إلى الحقيقة أن يسألوا الأسئلة الصحيحة، فإننا لا نجدمناصا من إثارة تساؤلين اثنين كفيلين بمساعدتنا على تحديد فهمنا لطبيعة النص لتاريخي وتلمس المضامين والمعاني التي يحملها، فالتساؤل الأول : يتصل بمواصفات النص التاريخي مبنى ومعنى، والتساؤل الثاني :يتعرض إلى أصناف الخطاب التاريخي ، وذلك قبل أن نحاول تحديد الشروط الكفيلة بتجديد النص التاريخي من حيث صياغته وشروط عرضه وجعله أكثر تعبيرا عن حاجات وتطلعات القارئ العربي انطلاقا من القيم والأفكار التي يعبر عنها موروث الذاكرة التاريخية التي يختزنها. أولا : مواصفات النص التاريخي تتحكم في صياغة النص التاريخي طبيعة الموضوع ومؤهلات الباحث وشروط إشكالية دلالة النص التاريخي المنهج التاريخي، وهذا ما نحاول توضيحهذ في النقاط التالية:
1.إشكالية موضوع النص التاريخي: يفرض النص التاريخي نفسه على القارئ على ضوء نوعية الموضوع الذي يعالجه وطبيعة المعلومات التي يعرضها، وتتحدد قيمته بمدى احترامه والتزامه بقواعد المنهج التاريخي، فيعتبر النص التاريخي مساهمة جادة وإضافة جديدة تمكن صاحبه من فرض حضوره الأدبي وتأكيد مكانته العلمية كاتبه نفسه وتسمح لقارئ أن ينتفع بمضمونها ، إذا توفرت فيها الشروط والمواصفات التالية :
1. أن يكون موضوع النص صادرا عن رغبة في البحث وليس نتاج ميل آني ودافع عرضي، وأن يخصص له الجهد والوقت اللازمان لإنجازه.
2. أن يستند النص التاريخي إلى مصادر أولية كافية يمكن الوصول إليها وقراءتها والانتفاع بها.
3. أن يهدف النص إلى إضافة شيء جديد أو توضيح قضية غامضة أو تصحيح خطأ شائع أو إكمال نقص ملاحظ أو الإدلاء برأي خاص أو مناقشة أطروحات شائعة.
4. أن لا يكون محتوى النص موضوع دراسة سابقة وأن لا تكون القضايا التي يعرضها قد تمت معالجتها من قبل باحثين آخرين.
5. أن يتجنب موضوع النص دراسة الأحداث الآنية التي لا تزال انعكاساتها ماثلة وملموسة في الواقع وأن يبتعد عن المشكلات المجردة والمفاهيم العامة والعلاقات المتشعبة، لافتقارها للمدى الزمني أو البعد التاريخي.
على أن النص التاريخي الذي يسترشد في اختيار موضوعه بالمواصفات السابقة لا يصبح قابلا للبحث إلا بعد تحديد
"الإشكالية" التي تضبط خطته وتوجه العمل فيه، والمتمثلة أساسا في إثارة أسئلة غايتها ضبط الجوانب والاهتمامات وتحديد إشكالية دلالة النص التاريخي أبعاد الموضوع وتقنين طريقة تناوله وكيفية عرض نتائجه، وذلك حتى يمكن إخراج موضوع النص في وحدة متكاملة حسب الخطة الموضوعة.
تقوم الإشكالية على التساؤل وتهدف إلى التحليل وهما أساس عملية بناء النص التاريخي، فبدونهما يتحول النص إلى مجرد سرد متسلسل للأحداث في سياقها الزمني الكرونولوجي أو عرضها الوصفي
الروائي، فالأخذ بالإشكالية يكسب النص التاريخي صفته العلمية لأنها الإطار المناسب بل الضروري للكشف عن الجوانب التي نبحث عنها والمنطلق الصحيح لتطبيق منهج البحث التاريخي القائم على التحري والنقد والوسيلة الكفيلة بفتح أعيننا على الجوانب المتعلقة بالمشاكل المثارة والآراء المطروحة.
تحدد إشكالية موضوع النص التاريخي بصياغة تساؤلات يفترض الإجابة عنها، وتصاغ هذه التساؤلات انطلاقا من فرضية تأخذ بعين الاعتبار أبعاد الموضوع وطبيعته ونوعية مصادره والغرض المتوخى منه، وهذا ما يتطلب من صاحب النص القراءة الواسعة حول موضوع نصه والإلمام بجوانبه والتعرف على القضايا المتعلقة به، بحيث يصبح الرقي بمستوى الإشكالية مرهون بالمداومة على البحث والاهتمام بطرح القضايا وإثارة التساؤلات فيما يكتبه أو يعلق عليه أو يقرأه من مواضيع تاريخية.
2. مؤهلات صاحب النص التاريخي : يستمد النص التاريخي قيمته من مقدرة صاحبه على البحث وكفاءته في تطبيق منهج البحث التاريخي، وهذا ما يصبغ على مؤهلات صاحب النص وملكاته أهمية كبرى، فبغض النظر على الرغبة في البحث والتفرغ له وتكريس الجهد الضروري لإنجازه والقدرة على الوصول إلى المصادر وجمع المعلومات التي سبقت الإشارة إليها، فإن ملكة النقد والتحري وموهبة البرهنة والاستدلال واستقلالية الرأي وعدم مجاراة الآخرينذ فيما يعتبرونه حقيقة، كلها مواصفات أساسية في كاتب النص الجيد والأصيل والذي إشكالية دلالة النص التاريخي. يتصف بالجاذبية والجدية والإقناع والتأثير لأنه المظهر الخارجي الذي يتعرف من خلاله القارئ على شخصية صاحب النص ، ما دام النص يشكل الوعاء الفكري الذي يضمنه كاتب النص أفكاره ويظهر من خلاله قدراته، وهذا ما عبر عنه الكاتب الفرنسي فينيلون بقوله الأسلوب هو الرجل ) 3 (Fénelon)
يواجه الباحث في إنتاجه للنص التاريخي تحديات ومخاطر بعضها يتصل بوسيلة التعبير من حيث اللغة والآخر
يتعلق بموقفه من أحداث الماضي ومقدرته على تحليلها. فبالنسبة لوسيلة التواصل المتمثلة في الصياغة اللغوية يتوجب على الباحث في كتابته للنص التاريخي أن يكون متمكنا من اللغة وأن يمتلك الأسلوب المعبر عن المعلومات التي يتضمنها نصه، هذا النص الذي يفترض فيه أن يكون وسطابين السياق الأدبي الذي قد ينجر وراء
الخيال ويغلب عليه الإطناب والمبالغة والاستطراد، وبين العرض العلمي الذي يأخذ بالألفاظ التقنية الجافة والتعابير
العلمية المقننة، بحيث يلتزم بالسياق التاريخي الذي يجمع دقة المعنى وصحة المبنى وتفضيل العبارات المركزة والجمل البسيطة والعبارات الواضحة مع الحرص على سلامة اللغة وسلاسة الأسلوب وحسن التبليغ
أما المخاطر والتحديات الناتجة عن موقف صاحب النص من الأحداث التي يعرضها فليس أقلها أوهامه المهنية عن ذاته وطموحه وحلمه في الإبداع وتذوقه لدراسة الماضي وردود فعله وتغير مزاجه بفعل متطلبات الحياة أو اندفاع الشباب إحباط الشيخوخة فالتاريخ لا يتطور في نظام مقفل وأحداثه لا تمر في استعراض وتتابع، فهي بالنسبة للمؤرخ وقائع انتهى حدوثها وانقضى زمنها قبل أن يبدأ هو في التفكير فيها، وعليه أن يعيد توزيع الأدوار من
خلالها على الأشخاص الذين ساهموا فيها حسب الطريقة التي يريدها أن يراهم عليها. وهذا ما يطرح مسألة أخلاقية صاحب النص على المحك، فهو الذي يقرر ما هو أمين وسليم وما هو مضمون وموثوق به وما هو منطقي
وموضوعي ليضمنه النص، وهو الذي يعرض إشكالية دلالة النص التاريخي الاستنتاجات ويثبت البراهين ويسجل الآراء، الأمر الذي يستوجب في صاحب النص الاطلاع على المعارف الإنسانية والعلوم الاجتماعية التي لها صلة بموضوعه، لأنها تزوده بالمادة التاريخية وتنبهه إلى جوانب قد يغفل عنها في بحثه فضلا على أنها تكسبه الخبرة في تحديد إشكالية موضوعه والوصول فيه إلى نتائج ملموسة مما سبق يتضح لنا أنه يفترض في صاحب النص التاريخي، أن يتصف بالمؤهلات التي تكسبه القدرة على البحث، وأن يكون ذا خيال مبدع وثقافة واسعة وفهم عميق
للسلوك الاجتماعي ونظرة متزنة للظروف والملابسات التي أحاطت بالأحداث التي يعالجها ، فيوطن نفسه على الالتزام بالصدق والأمانة والنزاهة والحياد والابتعاد عن الكذب والتزوير، والزهد في الشهرة، والنفور من التزلف والوصولية وعدم الانجرار وراء تأثير السلطة وضغط المصالح وتأثير الرأي العام، كما يتوجب
عليه التشبث بالتفكير الحر الذي لا يجاري الآراء الشائعة، ولا يتقبل كل ما يتصل بالأسطورة والخرافة والتحليل الغائي في تفسير الأحداث.