1. المبحث الأول: تعريف الانتخاب ومضمونه وتطوره التاريخي وتكييفه القانوني.

1.3. المطلب الثالث: التكييف القانوني للانتخاب

كان هناك جدل واسع بين فقهاء القانون الدستوري الفرنسي، بعد الثورة الفرنسية، حول تكييف الانتخاب. وارتبط هذا الجدل بنظرية السيادة ومفهومها ومن له الحق بممارستها. فحين ساد مبدأ "سيادة الأمة" اعتبر الانتخاب وظيفة، وحين ساد مبدأ "سيادة الشعب" اعتبر الانتخاب حقا شخصيا[1]. لكن هناك نظريات أخرى لتكييف الانتخاب ظهرت فيما بعد. وسنتطرق تباعا إلى هذه النظريات بالتفصيل.

الفرع الأول: الانتخاب وظيفة

   اعتبر الانتخاب وظيفة عندما سادت نظرية مبدأ "سيادة الأمة" وعدم جواز تجزئة السيادة بين الأفراد الذين عليهم واجب اختيار ممثليهم ضمن مجموع واحد يعبر عن إرادتهم. لذلك يعد الانتخاب، وفق هذه الرؤية، وظيفة وواجبا دستوريا. وتبنى هذا المفهوم قادة الثورة الفرنسية وأعضاء الجمعية التأسيسية الذين نادوا بمبدأ سيادة الأمة وقننوه في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، مؤكدين أنه لا يجوز لأي فرد الادعاء بوجود أي حق له في ممارسة السيادة بالانتخاب، وإنما الانتخاب هو تكليف وواجب على الأفراد لاختيار ممثليهم والتعبير عن الإرادة العامة للجميع[2].

      ونتج عن هذه النظرية إجازة إجبار وإلزام الناخبين على الانتخاب وجعل التصويت إجباريا وتقرير العقوبات المناسبة على من يتخلف عن آدائها. كما يجيز الأخذ بنظام الاقتراع المقيد في الانتخاب بوضع شروط مالية أو علمية أو اجتماعية في الناخب تمهيدا لحصر من يجوز له الترشح وتمثيل الأمة. فصفة الناخب لا تعدو أن تكون وظيفة عامة لا يجوز لأي فرد الادعاء بحق فيها بمنحها المجتمع على النحو الذي تمليه مصلحته، وإن شاءت الأمة أن تجعل ممارسة هذا العمل إجبارية، فليس ما يمنعها من ذلك[3].

     وكانت هناك جملة من الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية، منها أنه يوجد نوعين أو طبقتين من المواطنين، طبقة سلبية تتمتع بحقوق مدنية دون حقوق سياسية، وطبقة من المواطنين إيجابية، تتمتع بحقوق مدنية وسياسية[4].

 

 

 

الفرع الثاني: الانتخاب حق شخصي

   اتجه جانب آخر من الفقه الدستوري لاعتبار الانتخاب حقا شخصيا يملكه كل مواطن باعتباره من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز نزعها أو التنازل عنها. وكان جون جاك روسو أول من صرح بذلك صراحة بقوله إن التصويت حق لا يمكن انتزاعه من المواطنين[5].

     وكان أنصار هذا الاتجاه هم من أنصار نظرية مبدأ "سيادة الشعب"، أي أن كل فرد من الشعب يملك جزءا من السيادة، وأن الانتخاب هو أحد طرق ممارسة هذه السيادة، وينتج عن ذلك حق الناخب في ممارسة هذا الحق أو عدم ممارسته دون أن يتعرض لأي مسؤولية، لأنه اختياري وليس إجباري. كما أنه يقرر طريقة الاقتراع العام الذي لا يمنع أي مواطن من الانتخاب نتيجة شروط معينة كالشروط المالية أو العلمية أو الاجتماعية، دون المساس ببعض الشروط التنظيمية كالسن والجنسية والأهلية[6]. وكانت هناك فئة قليلة من رجال الثورة الفرنسية من ساندوا هذه النظرية، ومنهم الفقيه روبسبير Robespierre[7].

الفرع الثالث: الانتخاب وظيفة وحق

   ظهر هناك اتجاه ثالث رأى بأن الانتخاب حق ووظيفة في الوقت نفسه، فالتصريح بأن الانتخاب حق إنما هو اعتراف للفرد ببعض حقوقه الطبيعية والتي لا يجوز المساس بها أو الإنقاص منها لأنها تسمو على القانون الوضعي[8]. أما التصريح بأن الانتخاب وظيفة فذلك معناه أن الانتخاب ليس خيارا للفرد، بل هو إجباري عليه ولا بد له أن يمارسه وإلا كان مسؤولا أمام القانون، وهو ما يدفع أكبر عدد ممكن من الافراد يتوجهون لممارسه الانتخاب، مما يجعلهم مسؤولين عن كل ما يحدث في المجتمع[9].

الفرع الربع: الانتخاب سلطة قانونية

    يقوم الخلاف على طبيعة الانتخاب في الغالب على اعتبارات سياسية أكثر منها نظريات قانونية[10]. فتكييف الانتخاب وفق النظريات السابقة لا يلزم المشرع في شيء خلال تبنيه لنص معين أو إهماله لنص آخر. فالصالح العام هو هدف أجهزة الدولة والناخب معا، لذلك رأى اتجاه أن الانتخاب هو سلطة قانونية مقررة للناخب يحددها القانون ويضع شروطها، تسمح بالمشاركة في الحياة السياسية بشكل عادل ومتساوي. فالتحديد للمشرع والممارسة من عدمها للناخب وفق ما حدده هذا المشرع[11].

المبحث الثاني: أساليب ممارسة العملية الانتخابية.

   تبنى الفقه الدستوري أسلوبين أساسيين لممارسة الانتخاب، هما أسلوب الاقتراع المقيد وأسلوب الاقتراع العام، كما تبنى أسلوبين لفرز نتائجها من خلال نظام الأغلبية ونظام التمثيل النسبي. وسوف نعرض لهذه الأساليب بالتفصيل فيما يلي:

المطلب الأول: أساليب الانتخاب

   هناك عدة أساليب للانتخاب، منها أسلوب الاقتراع المقيد والانتخاب العام، ثم الانتخاب المباشر والانتخاب غير المباشر.

 الفرع الأول: الانتخاب المقيد

    إن مصطلح التقييد الوارد في هذا النوع من الاقتراع أو الانتخاب يعني وجوب اشتراط توافر أمور محددة في المترشح كالنصاب المالي أو مستوى ثقافي معين أو هما معا، إضافة إلى شروط أخرى تسمح بممارسة حق الاقتراع[12]. وانتشر هذا النوع من الاقتراع في الدساتير التي ظهرت في القرن الثامن عشر، كالدستور الأمريكي والدساتير الفرنسية حتى سنة 1848 باستثناء دستور 1793 والنظام الانتخابي الانجليزي حتى سنة 1918، وذلك لسيطرة نظرية مبدأ سيادة الأمة خلال هذه الفترة. وكانت رؤية واضعي نظام الاقتراع المقيد آنذاك هي تحقيق التوازن بين مصلحتين، هما الاختيار الأفضل لفئات الأمـــــــــــــة القادرة على التمثيل الأحسن والابتعـــــاد على النزوات الشخصية والمصالح الخاصة[13]. فشرط النصاب المالي اشترطه مختلف الدساتير والقوانين الانتخابية في وقت من الأوقات، وذلك لسعي الطبقة البورجوازية الاحتفاظ بالسلطة السياسية بعد أن انتزعتها منها الطبقة الأرستقراطية[14].

   كما ذهب رأي آخر إلى أن اشتراط النصاب المالي وامتلاك ثروة، خاصة العقارية منها، بهدف المساهمة في تحمل نفقات الدولة، وبالتالي المساهمة في الدفاع عن الوطن. كما أن امتلاك هذه الثروة دون غيره من المواطنين يعني حسن الإدارة والكفاءة في التسيير[15].

   كما ذهب اتجاه آخر لتبرير هذا الشرط آنذاك وهو أن ما دام أصحاب الثروات هم الذي يدفعون الضرائب، فهم الذين يحق لهم المشاركة في الحيــــــــــــــــــــــاة السياسية وممارسة حـــــق الانتخاب[16].

   لكن هذا القيد تعرض لعدة انتقادات، لأنه خلق فئة كبيرة من المواطنين بعيدة عن مصدر القرارات السياسية، لذلك تراجع هذا القيد مع تطور الوعي الديمقراطي وزيادة المشاركة الشعبية، وهو ما تجسد في صدور التعديل الرابع والعشرين للدستور الأمريكي سنة 1964، وصدور الإصلاح الانتخابي في انجلترا عام 1918.[17] أما شرط الكفاءة أو التعليم فمضمونه وجوب حصول الناخب على مستوى تعليمي معين أو درجة علمية أو الإلمام بالقراءة والكتابة، مثلما ذهبت بعض القوانين الأساسية لولايات الجنوب الأمريكية حينما اشترطت الكتابة والقراءة باللغة الانجليزية وتفسير الدستور الأمريكي. كما أن بعض الأنظمة القانونية خففت من شرط النصاب المالي بشرط توافر المستوى العلمي لدرجة معينة[18].

الفرع الثاني: الانتخاب العام

   يقصد بمصطلح "العام" في هذا النوع من الاقتراع أو الانتخاب هو عدم اشتراط أي شرط في الناخب، مالي أو تعليمي أو أي شرط آخر. فبمجرد ورود شرط معين كان الاقتراع مقيدا[19]. وكان الانتقال إلى هذا النوع من الاقتراع هو التطور الديمقراطي والرغبة في توسيع القاعدة الشعبية المشاركة. غير أن عدم اشتراط النصاب المالي والمستوى التعليمي لا يعني عدم إمكانية اشتراط شروط أخرى تكون في مصلحة الناخب والمترشح في آن واحد، كاشتراط سن معينة، لأنه لا يصلح أن ينتخب الأطفال أو المجانين أو فاقدي الأهلية[20].

     كما أن هناك شرط آخر لا يتنافى مع الاقتراع العام هو شرط الجنسية، فالانتخاب هو من أهم الحقوق السياسية لأي مواطن، لذلك فإنه من البديهي أن يقتصر على مواطني الدولة الذين يحملون جنسيتها. أما الأجانب فلا يتمتعون بهذا الحق، لأنه لا يعقل مساواة الاثنين في ممارسة الحقوق السياسية، بل هناك من الدول من تميز حتى بين المواطن الأصلي والمتجنس، حيث تشترط في هذا الأخير مدة معينة حتى يمكن قياس مدى اندماجه وولائه للدولة التي رغب في حمل جنسيتها[21]. كما أن هناك شرطا آخر أضافته بعض الدساتير والأنظمة الانتخابية وهو شرط الجنس، فالانتخاب يقتصر على الذكور دون الإناث. وكان إلى وقت معين منح الإناث حق الانتخاب يعد مخالفة دستورية[22]. وكان مبرر هذا الاتجاه أن الرجال يتفوقون على الإناث بحكم التكوين الجسماني والنفسي وهو ما ينعكس على أعمالهم ومنها الانتخاب[23]. ومع انتشار الديمقراطيات الحديثة وزيادة حركات تحرير المرأة، ذهبت غالبية الدساتير في العالم إلى الاعتراف للنساء بحق الانتخاب، بل الأكثر من ذلك الحق في الترشح[24]. كما أن هناك بعض الدساتير والأنظمة الانتخابية تشترط بلوغ سن معينة لممارسة حق الانتخاب، ويسمى هذا السن بالسن الانتخابي أو سن الرشد السياسي، وهو السن الذي يمكن من ممارسة الحق الانتخابي بعد استيفاء الشروط الأخرى، فسن الرشد السياسي يفترض اكتمال النضج السياسي لصاحبها، والذي يمكنه من ممارسة حق الانتخاب والمشاركة في تدبير بعض الأمور السياسية[25]. لذلك ذهبت غالبية الدول إلى فرض سن الرشد السياسي أكبر من سن الرشد المدني. وكانت غالبية الدول قد أخذت بسن الرشد السياسي بين 18 و25 سنة[26]. كما أن هناك دول اشترطت الأهلية العقلية والأهلية الأدبية، أو ما يسمى بالاعتبار الأدبي الناتج عن عدم الحكم الجزائي أو الحجر أو سلب الحرية.

  واتجه الفقه الدستوري إلى أن الاقتراع العام يتماشى مع الديمقراطية والحرية والمساواة، فهو يسمح للشعب بالمشاركة في الحياة السياسية عكس الاقتراع المقيد، لأنه يسمح بتربية سياسة جيدة ويدفع بالمواطن للاهتمام أكثر بالشؤون العامة وإصلاح الأمور السياسية والاجتماعية للشعب بالمشاركة الفعالة من خلال الاقتراع[27]. كما رأى جانب آخر من الفقه أن الاقتراع العام هو سبيل للوقاية من الثورات الناتجة عن الحقد الذي ولده الاقتراع المقيد[28]. لذلك فإن الأنظمة السياسية والقانونية التي جربت هذه الآثار لا يمكنها العودة إليه، بل وتسعى إلى توطيد أسس الاقتراع العام[29].

 

الفرع الثالث: الانتخاب المباشر والانتخاب غير المباشر

    إن الانتخاب المباشر هو الذي يقوم به الناخبون مباشرة لاختيار ممثليهم، أما الانتخاب غير المباشر فهو الذي يقوم فيه الناخبون باختيار مندوبين عنهم يتولون بدورهم انتخاب ممثليهم من المترشحين. فالانتخاب المباشر يكون على درجة واحدة، بينما الانتخاب غير المباشر يكون على درجتين أو أكثر[30]. وأصبح نظام الانتخاب المباشر هو الشائع في مختلف الأنظمة القانونية الحديثة بسبب خدمته للديمقراطية وارتباطه بالاقتراع العام وما له من مزايا وإيجابيات. فعيوب الانتخاب غير المباشر جعلت الدول تستبعده إلا في أمور محددة كالدول التي تأخذ بنظام المجلسين في السلطة التشريعية، بحيث يكون انتخاب الأول بطريقة مباشرة، ويكون انتخاب المجلس الثاني بطريق غير مباشر[31]. كما أن الانتخاب المباشر يوسع تمثيل القاعدة الشعبية وتنمية شعورها بالمسؤولية السياسية[32].

الفرع الرابع: الانتخاب الفردي والانتخاب بالقائمة



[1] المرجع نفسه، ص. 275

[2] المرجع نفسه، ص. 276

[3] كمال غالي، مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية، المرجع السابق، ص. 210

[4] محمود عاطف البنا، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 244

[5] عبد الغني بسيوني عبد الله، النظم السياسية، المرجع السابق، ص.224

[6] نعمان الخطيب، المرجع السابق، ص. 277

[7] ثروت بدوي، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 195

[8] محسن خليل، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 210

[9] نعمان أحمد الخطيب، المرجع السابق، ص. 278

[10] ثروت بدوي، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 197

[11] مصطفى أبو زيد فهمي، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 109

[12] نعمان احمد الخطيب، المرجع السابق، ص. 281

[13] ثروت بدوي، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 203

[14] كمال الغالي، مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية، ص. 211

[15] سعيد بوالشعير، المرجع السابق، ص. 103

[16] أنظر:

. Duverger, M, Institutions Politiques et Droit Constitutionnel, Op.Cit, p.113

[17] نعمان أحمد الخطيب، المرجع السابق، ص. 283

[18] ثروت بدوي، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 305

[19] أنظر:

 Barthelemy.J et Duez. P., Traité de Droit Constitutionnel, Op.Cit, p.294.

[20] سليمان الطماوي، النظم السياسية والقانون الدستوري، المرجع السابق، ص. 209

[21] ثروت بدوي، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 206

[22] المرجع نفسه، ص. 209

[23] محمود عاطف البنا، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 351

[24] نعمان أحمد الخطيب، المرجع السابق، ص.287

[25] ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري العام، المرجع السابق، ص. 451

[26] انظر:

. Burdeau. G, Manuel de Droit Constitutionnel et Institutions Politiques., Op.Cit., p.477

[27] نعمان أحمد الخطيب، الوسيط...، المرجع السابق، ص. 302

[28] مصطفى أبو زيد فهمي، الأنظمة السياسية، المرجع السابق، ص. 111

[29] محسن خليل، النظم السياسية، المرجع السابق، ص. 182

 

[30]أنظر:

. Duverger. M., Institutions Politiques et droit Constitutionnel, Op. Cit., p. 120

[31] سعيد بو الشعير، القانون الدستوري والنظم السياسية المقارنة، المرجع السابق، ص. 109

[32]أنظر:

. Giquel.J et Hauriou. A, Droit Constitutionnel…, Op. Cit., p. 244