1. تمهيد
1.2. البديهيات
فبالنسبة للبديهيات الإقليدية فإن " إقليدس نفسه واضع النسق الاستنباطي لم يفصل فصلا جذريا بين المسلمة والبديهية، لدرجة أن بعض البديهيات قد نقلت وأدرجت تحت المسلمات، وبعض المسلمات وضعت تحت البديهيات في الطبقات المختلفة بكتاب الأصول "(2)، أي أن هناك استعمالا مختلطا للبديهيات تارة والمسلمات تارة أخرى، بل إن تقسيم هذه المبادئ وتوثقيها في النسق الأقليدي كان موضع شك، وانتقاد كونه لا يتضمن أي مبررات منطقية أو عقلية.
فنحن نؤمن بصدق بالبديهية في نظر إقليدس وأتباعه نظرا لشدة وضوحها، وبالتالي فنحن نعجز عن الاهتداء إلى قضايا أوضح منها لنبرهن بها عليها فهي قضايا غير محتاجة إلى برهان ولا تقبله ولذلك تسمى باللامبرهنات، ومن هنا اتصفت هذه الأخيرة بأنها عامة من جهة كونها تستخدم في كافة العلوم التي تدرس فيها الأطوال والمقادير، وهي ضرورية كونها تعتبر علاقات ضرورية بين مقادير معينة مثل قولنا: " الشيئان المساويان لشيء ثالث متساويان "، وتتصف بأنها تحليلية كون محمولها متضمن بالضرورة في موضوعها وبالتالي فإنه من " الخلف إنكارها "، وبالتالي فهي مبدأ صوري يسعى إلى تنظيم خطوات الاستدلال دون أن تضيف أي شيء إلى مادة هذا الاستدلال أو مضمونه.
ولعل عدم الفصل التام بين المسلمات والبديهيات يرجع إلى كون إقليدس يعتمد في تمييزه بينهما على الحدس والوضوح الذاتي فهو " يؤمن بصدق البديهية بناء على حدسه لها "[1]وهو طبق هذا المعيار – الوضوح الذاتي – على مسلماته أيضا فهي في نظره واضحة على أنها " افتراضات آنية وليست صادقة صدقا مباشرا و – بالتالي – كان الحدس وما يتسم به من وضوح مصدر المسلمات والبديهيات على حد سواء ولهذا صعب على إقليدس الفصل الجذري بينهما "[2]، حتى أن معيار الوضوح الذاتي نفسه يتصف بصفة الخداع كونه ذاتيا يختلف من إنسان لآخر، وكل حسب مزاجه الذهني وقدراته العقلية.
كما أن صفة البداهة في حد ذاتها والتي كانت مرتبطة برياضيات يقينية يقينا مطلقا شيء بات من المشكوك فيه ، كونها هي في حد ذاتها لا مبرهنة " يجب على ما ليس مبرهنا أن يقدم سندات صدقه "(3) كما يقول بلانشيه ، فلا يمكن البرهنة على قضايا ونظريات استنادا إلى قضايا غير مبرهنة ليس هناك معايير ثابتة لصدقها المطلق، من هنا ففكرة البداهة هذه لم يعد معمولا بها في المنهج الفرضي الاستنباطي الحديث، كونه لا يقيم أدنى تمييز بين القضايا بل يعتبرها كلها مجرد فروض أو مرادفات أو اصطلاحات اتفاقية يضعها الرياضي نفسه دون إضفاء أي صفة لفرض دون آخر.
لهذا فإن النسق الرياضي الحديث لا يسعى إلى بيان مطابقة هذه القضايا والفروض للواقع بل يسعى إلى وضعها نحو عدد محدد من الفروض تلزم عنها لزوما منطقيا لا غير. لأن المطابقة للواقع وكذا صفة البداهة في حد ذاتها إنما " تنطبق بوجه خاص على الصدق المادي في القضايا"(4)، ودون أدنى اهتمام بالمبادئ الصورية والمنظمة التي تتحكم في النسق الهندسي باعتباره نسقا منطقيا استنباطيا في الوقت نفسه، وهو ما يجلب نقصا آخر للدقة الإقليدية للبديهيات كون هذه الأخيرة تجمع بين المادة والصورة، أي أنها أصبحت مفاهيم عامة للهندسة بوصفها علما تجريبيا يقوم على حدس المكان من جهة، ومن المنطق من جهة أخرى ، بوصفه منهج الهندسة من جهة أخرى شيء أشبه بالتناقض في الطبيعة الوحيدة كوننا إذا طبقنا مبادئ المنطق على مفاهيم رياضية صورية فإن هذه البديهيات لا تصبح مبادئ أولية لعلم الهندسة بل لقضايا المنطق العملي أو التطبيقي، وإذا استعصى علينا هذا الرد فإنها تصبح مصادرات خاصة بعلم الهندسة فقط لا بديهيات عامة، ولهذا يفضل العديد من الرياضيين المعاصرين استعمال كلمة مسلمة أو مصادرة دون البديهية حتى لا تختلط بمفهوم وخصائص البديهية " التقليدية " إن صح التعبير.