4. مميزات الهندسة الإقليدية

ومن هنا أمكن إقامة النسق الاستنباطي في ميدان علم الهندسة، ولعل هذا ما قصده F.Laurcat حين قال:وبالتالي فإن الهندسة في نظره تتميز بمظهرين مرتبطين لبعضهما البعض رغم اختلافهما.أولهما يتمثل في المضمون وهو مجموعة الخصائص الهندسية للفضاء ذو الأبعاد الثلاثة، والسطح ذو البعدين، وهي لا تزال مستخدمة ومهمة إلى أيامنا الحالية في العديد من النظريات ومجالات العمل،وثانيهما هو شكلها كنموذج لعدة أنواع من الاستدلال والذي لعب دورا معتبرا في تطوير الرياضيات(1).

    ومن هنا أصبح كتاب الأصول لإقليدس دائرة معارف للرياضة مدة قرون طويلة، كونه يلعب دورا مزدوجا في آن واحد، دور الغاية والوسيلة فهذه الأصول والمبادئ " غاية لأنها تفترض النظريات الهندسية الهامة والأكثر جمالا، وهي وسيلة لأن الحلول الجاهزة التي تقدمها إلينا هي أدوات نستطيع بها أن نقيم برهان على نظريات جديدة، فمصدرا جمال البرهان قد اجتمعا في عمل واحد بعينه "(2)، وهذا ما جعل باشلار ينعته بأنه كان " أساس العقل البشري "(3) آنذاك.

ومن هنا أصبحت الحقيقة الرياضية والهندسية خصوصا حقيقة يقينية ومطلقة كونها تقوم على الوضوح الذاتي لمبادئها وكذا المطابقة الخارجية للواقع، ومن ثمة " كانت هذه الهندسة نموذجا لعمل يمكن إقامة الدليل عليه مثلما نراه في كتاب الأخلاق لسبينوزا (Spinoza 1632-1677م) الذي استخدم فيه المنهج الهندسي للدلالة على أنه لا يقدم في هذا الكتاب إلا ما يراه متفقا مع البداهة واليقين أو الاستدلال والبرهان العقلي " (4)وقد حكم عليها كانط (Kant 1724-1804م)(*) بأنها الوحيدة الممكنة للإنسان لأن قضاياها ضرورية ومن ثمة فلا يمكن أن نقدم هندسة أخرى غير هذه الهندسة، فهي الهندسة بالذات كون ضرورتها مفروضة علينا لطبيعة التركيب الذهني، لأن العيان الخالص للمكان هو أساس علم الهندسة ومن هنا أقام عليها – كانط – نسقه الفلسفي وأحكامه التركيبية القبلية خاصة تلك المتعلقة بقبلية الزمان والمكان، وقبله كان ديكارت(Descartes1596-1650م) يعتبر أن الهندسة ككل مرشد للفلسفة ومن ثمة ظهر المعيار الديكارتي للحقيقة القائم على معرفة الشيء بوضوح، وأن تكون المبادئ العامة لأي علم جلية أو معروفة جوهريا، وهو ما نسعى به إلى البحث عن منهج يقوم على هذا المعيار يكون واحدا وموحدا بين كافة العلم مثلما نجده في كتابه " مقال في الطريقة ".



(1) François Lurçat :l’authorité dela science les éditions du Cerf,Paris,1995, p 147.

(2)  كامل محمد محمد عويضة، مرجع سابق، ص 76.

 (3) غاستون باشلار: الفكر العلمي الجديد، ترجمة: عادل العوا، ط4، 1996، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، دت، ص 14.

(4)  حسين علي: فلسفة العلم عند هانز راستنباخ، مرجع سابق، ص 170.

 (*)  فيلسوف ألماني، صاحب المذهب النقدي، من أهم مؤلفاته: نقد العقل المحض 1787.